من الآية 06 الى الآية 07
الآيتــان
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} (6 ـ 7).
* * *
معاني المفردات:
{كَفَرُو} : الكفر: أصله الستر، ووُصف الزّارع بالكافر لأنه يستر البذرة في الأرض. قال لبيد: «في ليلةٍ كَفَر النجوم غمامُها» أي: سترها. وكفر النعمة: سترها بترك التحدّث عنها وأداء شكرها. والكفر ضدّ الشكر، الذي هو إظهار النعمة، كما أنَّ الحمد خلاف الذم. وقد جاءت المقابلة بينهما في القرآن الكريم: {لِيَبْلُوَنِي أَأشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40]. {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُور} [الإنسان:3]. {وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] فالكافرون: هم الجاحدون للوحدانية والنبوّة واليوم الآخر.
{سَوَآءٌ} : مصدر أقيم مقام الفاعل، ومعناه: مستوٍ. والاستواء: الاعتدال، والسواء: العدل. وإذا كانت سواء بعد همزة التسوية، فتعني: استوى الأمران، كقوله تعالى: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون:6] و{سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَ} [إبراهيم:21].
{ءَأَنذَرْتَهُمْ} : الإنذار: إعلام فيه تخويف، ويقابله التبشير: وهو إعلام فيه سرور.
{أَمْ} : إمّا متصلة، وهي على نوعين: الأول: التي تتقدّم عليها همزة التسوية كما في الآية. الثاني: التي تتقدّم عليها همزة يطلب فيها التعيين. وإمّا منقطعة، وهي التي يكون ما بعدها منقطعاً عمّا قبلها.
{خَتَمَ} : الختم والطبع بمعنى واحد، وهو تغطية الشيء، فإنَّ في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه تغطيةً له لئلا يُتوصل إليه ويُطّلع عليه.
{غِشَاوَةٌ} : فعالة من غشاه إذا غطاه.
* * *
نموذج آخر... الكافرون:
هذا هو النموذج الثاني من النماذج البشرية التي تتنوّع مواقفها أمام قضية الكفر والإيمان، وهو نموذج الكافرين.
والظاهر أنَّ الآية لا تتعرّض لهذا النموذج في طبيعته الشاملة، بل تتعرّض له من خلال الفئة التي واجهت الدعوة الإسلامية في بداياتها، فلم تفتح قلوبها للإسلام لتفكر فيه وتناقشه، لتتبعه عن قناعة، أو لترفضه عن دليل، وإنما وقفت موقف المعاند الذي يصرّ على موقفه، ولا يسمح لنفسه أو للآخرين بأية تجربة فكرية أو عملية للحوار حول خطأ الموقف أو صوابه.
إنَّ هذه الفئة هي التي لا ينفع معها الترغيب ولا الترهيب، ويستوي في حالتها الإنذار وعدمه، لأنها غير مستعدة لسماع آيات اللّه، وللتفكير في ما تدعو إليه، وغير مستعدة لاستعمال أبصارها في ما يحيط بها من دلائل عظمة اللّه سبحانه في الكون العظيم، لتحصل، من ذلك، على وسائل القناعة والإيمان.
ولعلّ من الطبيعي أن تكون التجربة المستمرة في الدعوة منطلقةً في حياة أولئك الذين يشعرون بمسؤوليتهم تجاه أنفسهم وتجاه ربّهم في قضية الإيمان والكفر، على أساس أنها تمثّل قضية المصير في الدنيا والآخرة، ما يدفعهم إلى مزيد من التفكير والاهتمام، بينما النموذج الذي تشير إليه الآية تبدو دعوته نوعاً من الجهد الضائع، لأنَّ أفراده هم الذين لا يسمحون للعيون بأن تحدّق في الكون، وللأسماع بأن تستلهم قضايا الفكر والإيمان، وللقلوب بأن تفكر وتحاكم وتناقش، وبالتالي أقفلت كلّ منافذ الإيمان والوعي.
ونحن نعلم أنَّ النبيّ (ص) جرّب هداية هذه الفئة أكثر من مرّة بمختلف الوسائل والأساليب، ولم يتراجع عن تجربته أمام حالات الكفران والجحود والضغط النفسي والمعنوي الذي وجّهوه إليه، انطلاقاً من القاعدة الإسلامية الأساسية التي تحكم عمل الدعوة، في سلوك كلّ الطرق الممكنة للوصول إلى عقل الإنسان وتفكيره وشعوره للحصول على قناعته الإيمانية.
ولكنَّ القضية أصبحت تمثّل جهداً ضائعاً لا يصل إلى أية نتيجة ملموسة، لأنَّ القوم قد حدّدوا موقفهم على أساس العناد والمكابرة، لا على أساس الفكر والإيمان، ولذلك جاءت هذه الآية لتحدّد للرسول الموقف الحاسم من هؤلاء، ولتدعوه إلى عدم مواصلة التجربة التي أثبتت عقمها، لينطلق بجهوده إلى مجال آخر، تنفتح فيه الدعوة على جماعة آخرين يفتحون قلوبهم للإيمان، وعيونهم للصراط المستقيم، وأسماعهم للكلمات النافعة.
وقد جاءت الآية الثانية لتؤكد الفكرة بشكل ملموس، فقد ختم اللّه على قلوبهم، فهي مغلقة النوافذ من جميع الجهات، وختم اللّه على أسماعهم حتى سدّت منافذها عن كلّ كلمة، وأما أبصارهم فتعلوها الغشاوة التي تحجب عنها الرؤية. وبذلك حكموا على مصيرهم بالعذاب الأليم في الآخرة.
* * *
الآيتان في حركة الواقع المعاصر:
ويواجهنا في هذا المجال جانبان لا بُدَّ من الحديث عنهما عند استيحاء هاتين الآيتين الكريمتين:
الجانب الأول: ما هي المجالات التي تتحرّك فيها الآيتان الكريمتان في حياتنا المعاصرة، أو بالأحرى كيف يواجه المسلم، الذي يريد أن يدعو إلى اللّه، الفئات الكافرة التي تتحدّاه؟
إننا نعتقد أنَّ واقع الكفر والانحراف اليوم، لا يختلف عن الواقع بالأمس من حيث طبيعة النماذج العامة لجماعات الكفر؛ فهناك نموذجٌ يعيش حالة القلق النفسي، والتطلّع الروحي للمعرفة التي تدفعه إلى الموقف الثابت المطمئن في قضية الكفر والإيمان، لكنَّ الأخطاء الفكرية، والانحرافات العقيدية، تحوّل الكفر إلى قناعة ذاتية تحت عنوان «العلم» أو «العقل»، أو نحو ذلك، في غفلة عن العناصر الأخرى في فكر الإيمان التي يمكن أن تفتح للعقل آفاقاً جديدة تطلّ على معرفة اللّه؛ وهؤلاء هم الكافرون الغافلون الذين يطّلعون على مواقع المعرفة من زاوية واحدة.
وهناك نموذج يعيش حالة العناد والمكابرة والإصرار على الانحراف انطلاقاً من التركيب الداخلي الذي يحكم وجوده. فهو يواجه الحياة بعقلية المصالح والأطماع والشهوات الذاتية، بحيث تكون هي التي تحدّد له خطوط سيره الملتوية أو المستقيمة، بعيداً عن مسؤوليته تجاه ربّه ونفسه وحياته.
وهناك نموذج آخر يُخضع أفكاره لمزاجه ولعاطفته، فيحدّد طريقه على أساس ما يدفعه إليه مزاجه، أو توحي به عاطفته من قضايا الحياة، وعلى ضوء ذلك، يحكم على قضايا الكفر والإيمان، من دون أن يسمح بالمناقشة فيها مباشرة، ما يجعله ينظر إليها فرعاً من أصل، لا أصلاً لفرع كما هو الواقع. وهذا النموذج يتمثّل في الفئات التي تنطلق في حركتها من خلال القضايا السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الشهوانية.. فتتبنى المواقف العقائدية التي تكمن وراء التيارات التي تدفع الحياة في اتجاه معالجة هذه القضايا العامة والخاصة.
وفي هذا الاتجاه، لا بُدَّ للإنسان المسلم من دراسة المجتمعات التي تحيط به دراسة واعية، يحدّد فيها نوعية الأفراد الذين يعيشون فيها في إطار ما حدّدناه من نماذج، ليتخذ الموقف القرآني الذي يعتبر الحوار جهداً ضائعاً مع الفئات التي تنطلق من موقف العناد في مواقعها الفكرية والعملية، أو الفئات التي ليست مستعدة لفتح حوار مباشر في قضايا العقيدة من خلال الفكر، بل من خلال قضايا الحياة. وبذلك، يفتش عن وسيلة أخرى يحطّم فيها الحاجز النفسي الذي وضعوه بينهم وبين الإيمان، لينفذ بعد ذلك من جديد إلى قضية الحوار، بعد إزالة كلّ الحواجز التي تقف بين الإنسان وبين التفكير.
* * *
الآيتان في إطار الجبر والاختيار:
الجانب الثاني: كيف نفسّر إسناد الفعل إلى اللّه في قوله سبحانه وتعالى: {خَتَمَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِمْ} ؟ وهل يتّفق هذا مع فكرة الاختيار التي نؤمن بها في مقابل فكرة الجبر التي يقول أصحابها: إنَّ العباد مجبورون على الكفر والإيمان وعلى نتائجهما في الطاعة والعصيان؟
والجواب: أنَّ هناك اتجاهين في تفسير الآية: الأول؛ الاتجاه الذي يجعل القضية واردة مورد التشبيه المجازي، فقد جاء في الكشّاف للزمخشري: «فإن قلت: فلم أسند الختم إلى اللّه تعالى، وإسناده إليه يدل على المنع من قبول الحقّ والتوصل إليه بطرقه، وهو قبيح، واللّه يتعالى عن فعل القبيح علوّاً كبيراً لعلمه بقبحه وعلمه بغناه عنه، وقد نص على تنزيه ذاته بقوله: {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق:29]، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، {إِنَّ اللّه لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ} [الأعراف:28] ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل؟ قلت: القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها. وأمّا إسناد الختم إلى اللّه عزَّ وجلّ، فلينبه على أنَّ هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشيء الخلقي غير العرضي، ألا ترى إلى قولهم: فلان مجبول على كذا ومفطور عليه: يريدون أنه بليغ في الثبات عليه.. ويجوز أن تضرب الجملة كما هي، وهي {خَتَمَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِمْ} مثلاً، كقولهم: سال به الوادي إذا هلك، وطارت به العنقاء إذا أطال الغيبة. وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته، وإنما هو تمثيل مثّلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء. فكذلك مثّلت حال قلوبهم في ما كانت عليه من التجافي عن الحقّ بحال قلوب ختم اللّه عليها نحو قلوب الأغنام (الغنم: العجمة، والأغنم: الأعجم الذي لا يفصح شيئاً) التي هي في خلوّها عن الفطن كقلوب البهائم، أو بحال قلوب البهائم أنفسها، أو بحال قلوب مقدر ختم اللّه عليها حتى لا تعي شيئاً ولا تفقه، وليس له عزَّ وجلّ فعل في تجافيها عن الحقّ ونبوّها عن قبوله، وهو متعال عن ذلك»[1].
الاتجاه الثاني: الذي يرتكز على الفكرة الإسلامية التي أوضحها أئمة أهل البيت (ع) في القول المأثور عنهم: «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين بين»... الذي يجعل أفعال العباد منسوبة إليهم من جهة، باعتبار صدورها منهم بالمباشرة والإرادة والاختيار، ومنسوبة إلى اللّه من جهة، باعتبار أنَّ اللّه هو السبب الأعمق في كلّ شيء لأنه هو الذي يهب العباد القدرة، ويستطيع أن يمنعها عنهم، وهو الذي سخر لهم كلّ ما لديهم وما حولهم مما يستخدمونه في المعصية أو في الطاعة من دون أن يتدخل في عملية الاختيار.
وبذلك تصح نسبة الفعل إلى اللّه، لأنَّ له مدخلية في حصوله ولو بلحاظ كثير من مقدّماته، ففي مثل هذا المورد، يمكن أن يُقال أنَّ اللّه قد ركّب الإنسان على وضع معيّن، بحيث إذا اختار الإنسان الكفر وأصرّ عليه، أغلق قلبه وسمعه عن سماع أية كلمة للإيمان، وأغشى بصره عن الرؤية.. فالفعل يبدأ من اختيار الإنسان وينتهي إلى هذه النتيجة من موقع الاختيار، ولكن عملية التسبب خاضعة للقوانين التي أودعها اللّه في وجود الإنسان الذي ترتبط فيها النتائج بمقدماتها.
ومن الطبيعي، أنَّ مثل هذه النسبة لا تدخلنا في دائرة الجبر، ولا تسلبنا عملية الاختيار، لأنها تنطلق من موقع حرية الإرادة التي تتحرّك ضمن القوانين الطبيعية للحياة والإنسان، وبالتالي، لا تستلزم نسبة القبح إلى اللّه من قريب أو من بعيد.
أمّا لماذا انطلق القرآن في هذا الأسلوب الذي ينسب كلّ شيء إلى اللّه، مما يدخل الإنسان في كثير من الأوهام والشبهات التي تبحث عن جواب وعن تحليل؟ فهذا ما نوضحه بالتحليل الآتي، وخلاصته: أنَّ القرآن الكريم قد انطلق ليعالج قضية التوحيد بطريقة جذرية حاسمة، في مقابل فكرة الشرك التي ترتكز على تعدّد الآلهة انطلاقاً من القدرات التي تتخيلها لهم، سواء في ذلك الآلهة الذين يتحرّكون في الحياة بصورة بشر، أو الذين يتمثّلون في بعض الظواهر الكونية العظيمة كالشمس والقمر والكواكب، أو الأصنام الجامدة التي يصنعها النّاس من الحجر وغيره. وبذلك، كانت فكرة الشرك خاضعة لهذا التصوّر المنحرف الخيالي.
فأراد القرآن الكريم أن يعزل كلّ موجود في الكون عن أية قدرة من القدرات التي تتمثّل في حركة الكون نفسها أو في حركة الإنسان في الكون، ليجعل القدرة بيد اللّه وحده، باعتبار أنه خالق كلّ شيء ومسبّب كلّ سبب، وليوحي لنا، بأنَّ هذه القوى التي نشاهدها، لا تمثّل إلاَّ حركة موجّهة في إطار القوّة الأساسية التي تحكم هذه القوى بوسائلها وقوانينها المودعة فيها.
وبذلك، كانت نسبة الأفعال إلى اللّه للإيحاء الدائم بوجوده خلف كلّ شيء، ومع كلّ شيء، ولكن لا على أساس مباشر يلغي عملية الاختيار للإنسان أو يسلبه حرية الإرادة. إنها النسبة التي تحتفظ للّه بالإطار العام للقوّة في كلّ ما في الكون من مظاهر الوجود، ولكنَّها لا تسلب الإنسان القدرة الذاتية التي تتحرّك داخل الإطار العام. وبهذا نفهم كيف ينطلق القرآن لينسب الضلال والهدى والخير والشر والرزق والحياة والمرض والصحة وغيرها إلى اللّه مع أنها تتحرّك من خلال الأسباب الطبيعية في وجودها العملي بطريقة مباشرة.
ولعلّ هذا الاتجاه هو الاتجاه السليم في طريقة التعبير في الآية الكريمة.
وربما عُلّل إسناد الختم إلى اللّه بأنه عقوبة لهم على كفرهم، كما جاء في الآية الكريمة: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللّه قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، وقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26].
ولكنَّ الآيتين تدلان على أنَّ المسألة تنطلق من أنَّ زيغ القلب ناشىء من إرادتهم الانحراف، من خلال علاقة الانفعال بالفعل، كما أنَّ الضلال نتيجة للفسق أو مظهر له، ويبقى السؤال في نسبة الفعل إلى اللّه على أساس أنه خالق علاقة المسبب بالسبب، والصورة بالواقع.
ولعلّ هذا هو ما جاء في تفسير الآية عن الإمام الرضا (ع)، فقد سئل عن معنى قوله تعالى: {خَتَمَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} قال: الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم، كما قال تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللّه عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيل} [2] [النساء:155]، فإنَّ الظاهر أنَّ المقصود بالعقوبة، النتيجة التكوينية للكفر، باعتبار أنه يغلق القلب عن وحي الحقيقة الإيمانية، فكأن اللّه يجعل انغلاق القلب عقوبة له، والشاهد على ما قلناه هو الاستشهاد بالآية، حيث يشير ظاهرها إلى أنَّ الطبع كان بسبب الكفر من خلال تأثيره في عدم الإيمان إلاَّ بدرجة ضعيفة جداً.
* * *
الكفر والعصبية:
] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ[ واختاروا الكفر من خلال الغفلة المطبقة على عقولهم، أو العقدة المتحكمة في ذاتهم، أو الأهواء المسيطرة على مواقفهم وانتماءاتهم، وقرّروا الالتزام به، والوقوف عنده، بحيث لا يتحولون عنه مهما كانت الظروف والأوضاع والمؤثرات {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ، لأنَّ مسألة حركية الإنذار في انفتاح العقل على الإيمان لا ترتبط بمضمون الإنذار، بل بإرادة الإنسان في سماعه، وفي التفكير به، واستعداده النفسي للانفعال بمعانيه وإيحاءاته، أمّا الإنسان الذي يفقد هذه الإرادة، وذلك الاستعداد، فإنَّ الإنذار وعدمه سواء عنده، لأنَّ قراره عدم الإيمان، بعيداً عمّا إذا كان ذلك حقّاً أو باطلاً، لأنها مسألة عصبية لا مسألة اختيار عقلي منفتح على المعرفة الواسعة.
{خَتَمَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} فقد أغلقوا قلوبهم عن الحقّ فلم يسمحوا لها بالتفكير فيه وإدارة الحوار حوله، وأعرضوا عن الإقبال عليه أو قبوله، عناداً واستكباراً وتمرّداً، فلم تبق هناك وسيلة لنفاذ الحقّ إلى داخلهم، كما أنهم أغلقوا أسماعهم عن سماع كلماته، تعقيداً واستنكاراً، فلم ينفذ إليها شيء منها.
{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فهم لا ينظرون إلى آيات اللّه في الكون، ولا ينفتحون على مظاهر العظمة والإبداع فيه، ليكتشفوا بذلك توحيده، تماماً كما لو كان هناك غطاء يغطي أبصارهم ويحجب عنهم وضوح الرؤية للأشياء.
وهكذا تلتقي الإرادة الإنسانية السلبية تجاه الحقّ، والإيجابية تجاه الباطل، لتتحول إلى حالة انغلاق فكري للعقل، وحسّي للسمع والبصر، بحيث ينفصل الإنسان عن الحقيقة في جميع مجالاتها.
] وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ[ لأنَّ اللّه أقام الحجة عليهم بدلائله وبراهينه، فلم ينفتحوا عليها أو يلتزموا بها، فكان كفرهم حركة تمرّدٍ وعصبيةٍ وجحود، فاستحقوا به العذاب العظيم الذي انطلقت عظمته من خطورة الانحراف الأعظم الذي يتصل بالاستكبار على اللّه، والكفر به، وإنكار وحدانيته.
(1) الزمخشري، أبو القاسم، جار الله محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر، ج:1، ص:157 ـ 158.
(2) البحار، م:2، ج:5، ص:435، باب:1، رواية:17.