من الآية 08 الى الآية 15
الآيــات
] وَمِنَ النّاس مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللّه وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللّه وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّه مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ النّاس قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَآءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئونَ* اللّه يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ[ (8 ـ15).
* * *
معاني المفردات:
{يُخَادِعُونَ} : الخداع: أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه، وأصله الإخفاء والإبهام. و ] يُخَادِعُونَ اللّه[ : أي: يعملون عمل المخادع الذي يريد أن يصل إلى أغراضه بطريقة خفية، فيما اللّه تعالى لا يصح أن يخادعه من يعرفه ويعلم أنه لا تخفى عليه خافية.
{أَنفُسَهُمْ} : النفس تطلق على ثلاثة أوجه: النفس: بمعنى الروح، والنفس: بمعنى التأكيد، تقول: جاء زيد نفسه، والنفس: بمعنى الذات، وهو الأصل.
{يَشْعُرُونَ} : الشعور: أصله الإحساس بالشيء من جهةٍ تدقّ وتخفى، وهو مشتقّ من الشعر لدقته، ومنه: اشتقاق الشِّعر لأنَّ الشاعر يفطن لما يدقّ من المعنى والوزن، ولا يوصف به اللّه تعالى ـ بأنه يشعر ـ لما فيه من معنى التلطف والتخيّل، والمقصود بكلمة {يَشْعُرُونَ} : يعلمون وذلك على نحو الاستعارة.
{مَّرَضٌ} : المرض: العلة في البدن التي يخرج بها على حدّ الاعتدال، وقد يكون في البدن كالأعراض التي تصيبه فتؤلمه أو تضعفه أو تعطل وظائفه، وقد يكون في القلب كالنفاق والشك ونحوهما.
{لاَ تُفْسِدُو} : إحداث الفساد: هو كلّ ما تغيّر عن استقامة الحال، والصلاح: نقيض الفساد.
{السُّفَهَآءُ} : جمع سفيه، والسفه: خفة في البدن، واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل، والسفيه: الضعيف الرأي، الجاهل، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضارّ.
{شَيَاطِينِهِمْ} : الشيطان: كلّ متمرّد من الجنّ والإنس، ومنه قوله تعالى: ]شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] وأصله من شطَنَ أي: تباعد، فالشيطان: هو البعيد من الخير، المبعد عن رحمة اللّه.
{مُسْتَهْزِئونَ} : الاستهزاء: ارتياد الهزء أو تعاطيه، وهو السخرية والاستخفاف، والهزء أيضاً: هو القتل السريع. وناقته تهزأ به: أي تسرع وتخف.
{اللّه يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} : أن ينزل الهوان والحقارة بهم، لأنَّ المستهزىء يستهدف إلحاق الخفّة والزراية بمن يهزأ به، وقد يُراد منه أنه يجازيهم جزاء الهزء من خلال إمهالهم مدّةً استدراجاً واغتراراً. وقد رُوي عن أبي عبد اللّه (ع) أنه قال في معنى الاستدراج: إذا أحدث العبد ذنباً جدّد له نعمة[1].
{وَيَمُدُّهُمْ} : مدّ الجيش وأمدّه، أي: زاده وألحق به ما يقوّيه ويكثره. ومدّه الشيطان في الغيّ وأمدّه: إذا واصله بالوساوس حتى يتلاحق غيّه ويزداد انهماكاً فيه.
{طُغْيَانِهِمْ} : الطغيان: تجاوز الحدّ في العصيان، وطغى الماء: إذا تجاوز الحدّ، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ} [الحاقّة:11]. والطاغية: هو الجبار العنيد.
{يَعْمَهُونَ} : العمه: هو التردّد في الأمر، من التحيّر، وهو قريب من العمى الذي يُقال في افتقاد البصر، إلاَّ أنَّ العمه يكون في البصيرة.
* * *
المنافقون أخطر فئة على الأمّة:
هذا هو النموذج الثالث من نماذج النّاس في مواقفهم الفكرية والعملية أمام قضية الإيمان والكفر. وقد عايش الإسلام هذا النموذج في عصره الأول، وعانى الكثير من دسّه وتضليله ولفّه ودورانه، مما كان يربك الحياة الإسلامية في حركة المجتمع الإسلامي الداخلية والخارجية.
وقد نلاحظ ـ ونحن نواجه هذه الآيات الكريمة التي تحدّثت عن المنافقين ـ أنَّ الحديث عنهم يأخذ مساحة واسعة في تحليل شخصياتهم، وإبراز ملامحهم، أكثر من المساحة التي أخذها الحديث عن الكافرين، ولعلّ السبب في ذلك، أنَّ قضية الكفر كقضية الإيمان، تمثّل موقفاً حاسماً في حياة الإنسان، باعتبارها تحديداً واضحاً للموقف إزاء ما يطرح من قضايا العقيدة والحياة، فلا تعقيد في مواجهة الواقع، ولا التواء في التعبير عنه. وبذلك يسهل التعرّف على المؤمنين والكافرين من خلال حركتهم في الحياة، لكلّ من يعرف طبيعة الإيمان والكفر.
أمّا المنافقون، فهم الذين يعيشون ازدواجية الموقف بين ما يضمرونه في داخل أنفسهم وما يظهرونه أمام النّاس، ما يجعل من اكتشافهم ومعرفتهم عملية معقّدة، لأنها تحتاج إلى رصدٍ دقيقٍ لأقوالهم وأفعالهم لمواجهة العوامل القلقة التي تتحرّك في سلوكهم الحياتي العام والخاص.
وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل القرآن الكريم يواجه هذا النموذج القلق بعدّة آيات تلاحق مظاهر النفاق في كلماتهم التي يواجهون بها النّاس، وشعاراتهم التي يطرحونها، ومواقفهم الاجتماعية العملية والحياتية، ليسهل على النّاس كشف واقعهم من أجل التخلص من ضررهم في الحاضر والمستقبل.
* * *
القرآن دليلنا:
ونحن عندما نريد أن نواجه هذه النماذج من النّاس من خلال الآيات القرآنية، نشعر بالحاجة إلى ملاحقة أمثالها في حياتنا العامة، في صراعنا المرير في قضية الكفر والإيمان، لأنَّ قيمة القراءة القرآنية وطبيعة الوعي القرآني، لا تتمثّل في الفهم الحرفي والتاريخي لآياته فقط، بل في معرفتنا للجانب التطبيقي الذي يمثّل حركة الوعي القرآني في حياة النّاس المستقبلية التي تتنوّع مظاهرها وأشكالها ونماذجها في إطار وحدة القضايا الأساسية التي تبقى وتعيش في جميع المراحل، لأننا نريد أن نتحرّك مع القرآن، والقرآن يتحرّك مع الحياة في اتجاه الأهداف الكبيرة التي أراد اللّه من الإنسان بلوغها وتحقيقها. وهذا ما يجب أن يحكم قراءتنا للقرآن وفهمنا له، ليكون القرآن هو المرآة الصافية التي نكتشف فيها أنفسنا وحياتنا، انطلاقاً من آياته التي نعتبرها نوراً ورحمةً للعالمين، ومن الأحاديث الشريفة المأثورة عن أئمة أهل البيت (ع)، عندما قالوا ـ في أكثر من حديث ـ: إنَّ القرآن حيّ لم يمت، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما يجري الشمس والقمر[2]. فإنَّ الحياة تتجدّد، ولكنَّ الليل والنهار يبقيان فيحكمان حركة الحياة. كما أنَّ الكون يتجدّد، ولكنَّ الشمس والقمر يظلان في مدد دائم للحياة بالنور والإشعاع والدفء.
* * *
نماذج على المشرحة:
] وَمِنَ النّاس مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللّه وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ[ . هذه هي إحدى صفات المنافقين، فهم يعلنون كلمة الإيمان وشعاره أمام النّاس، فيسجّلون على أنفسهم الاعتراف به والالتزام بأحكامه، ليحصلوا على ثقة النّاس بهم، فيثق النّاس بمنطلقاتهم، ويحسّون بالأمن إزاءهم، ما يفسح لهم المجال الواسع للتحرّك بحرية كبيرة في مجالات الدسّ والتضليل، ولكنَّهم لا يلتزمون بالإيمان في قناعاتهم الفكرية من خلال مؤثراتهم الذاتية المعقّدة، فهم يعيشون ازدواجية الموقف بين الظاهر المؤمن الذي يتحرّك في دائرة العلاقات الاجتماعية بين المؤمنين، والباطن الكافر الذي يعيش في داخل الذات وفي المجتمع الكافر.
وقد نواجه مثل هؤلاء في بعض أتباع المبادىء الكافرة، الذين يرفعون شعار الإيمان والإسلام في كلماتهم، مع أنَّ مبادئهم ترتكز على قاعدة الكفر والإلحاد، بشكل مباشر أو غير مباشر، ليحسّ المجتمع المؤمن بالأمن من ناحيتهم، فيسهل عليهم النفاذ إلى حياته.
] يُخَادِعُونَ اللّه وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ[ أي: يعملون عمل المخادع الذي يريد أن يصل إلى أغراضه بطريقةٍ خفية لا يشعر بها المخدوع، يحاولون أن يظهروا بغير ما هم فيه ليحصلوا على الثقة والاطمئنان بإيمانهم وصلاحهم. ولكن جهودهم تذهب هباءً، فإنهم لا يخدعون إلاَّ أنفسهم عندما يوحون إليها أنهم ينجحون في هذه الأساليب الملتوية، ولا يلتفتون إلى أنَّ اللّه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنه يكشف واقعهم للمؤمنين ليحذروا منهم.
وذلك هو شأن الضال الباحث عن أطماعه وشهواته عندما تتحكم به الفكرة المنحرفة، وتتعمق في داخله، فتصرفه عن الالتفات إلى حقائق الأمور، وطبيعة المواقف، فينطلق بأصحابه إلى المواقع التي يظنون أنهم ينجحون فيها، من دون شعور بالنتائج السيئة التي تترتب على السير في هذا السبيل، وذلك كهؤلاء المنافقين الذين لا يشعرون بأنهم مكشوفون للمؤمنين، فيخيل لهم أن مواقفهم تعيش خلف الضباب، ولكن شمس الإيمان تشرق على أوضاعهم الداخلية والخارجية فتكشفهم من حيث لا يشعرون.
* * *
ظاهرة النفاق: عللّها وأسبابها:
] فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ[ في هذه الفقرة محاولة لتفسير ظاهرة النفاق وتعليل أسبابها، بكونها عقدةً تتحكم في داخل الإنسان ومرضاً نفسياً أو روحياً يعاني منه؛ ذلك أنّ الإنسان إمّا أن يؤمن بالشيء وإمّا أن لا يؤمن به. وعلى كلتا الحالتين، فإنَّ الوضع الطبيعي الصحي، هو أن يسير على ما يوحي به موقفه، فإذا كان مؤمناً، انطلقت سيرته في خطّ إيمانه، وتحرّكت حياته في هذا الاتجاه.. أمّا إذا كان كافراً، فإنَّ الكفر يفرض عليه أن يحدّد لحياته الخطوط التي لا تلتقي بالإيمان من قريب أو من بعيد، سواء في ذلك مشاعره الداخلية أو خطواته العملية، لكن أن يرفض الإنسان الإيمان ويعمل عمل المؤمن، فهذا موقف غير طبيعي في حياته، لأنَّ الموقف الطبيعي هو أن ينبع عمله من إيمانه وتفكيره.
وقد لا نحتاج إلى الكثير من الجهد لنعرف أنَّ أية حالة غير طبيعية تعتبر ظاهرة مرضية في حياة الإنسان، سواء أكانت موجودة في جسده، أم في روحه، أم في تفكيره. ولهذا اعتبر اللّه النفاق مرضاً ينطلق من عقدة نفسية، تحمل في داخلها طبيعة الشخصية المزدوجة التي تتمثل في الداخل بصورة وحركة تختلفان عن الصورة والحركة الموجودتين في الخارج.
وقد لا تكون هذه العقدة، أو هذا المرض، من الأشياء الأصيلة في ذات الإنسان، بل قد ينشأ ذلك من حالة الخوف من مواجهة المجتمع بما يخالف تفكيره وأوضاعه.. وقد تنشأ من حالة الطمع الذي يمنع الإنسان من الوقوف في المواقع الحاسمة التي لا تنسجم مع مصادر الطمع وموارده. وقد تنشأ من حالة نفسية قلقة يعيش الإنسان معها طبيعة الحَيْرة والتردّد في كلّ موقف من مواقف الحياة، وقد يتبين لنا ممّا يأتي من الآيات القرآنية، ما يوحي بطبيعة «العقدة النفاقية» في ما يعيشه المنافقون في واقع الإسلام منذ بدايات عهد الدعوة الإسلامية حتى اليوم.
* * *
النفاق في سياق قانون السببية:
{فَزَادَهُمُ اللّه مَرَضً} قد يتساءل المرء عن هذه الزيادة التي ينسبها اللّه إلى نفسه، فهل أراد اللّه لهذا المرض أن يزيد بشكل مباشر؟ وكيف تتعلّق إرادة اللّه بتعاظم النفاق في داخل هؤلاء المنافقين، في الوقت الذي يلعن فيه اللّه النفاق والمنافقين؟
وقد يكون الجواب في هذا المجال، أنَّ هذا التعبير ينسجم مع التعابير القرآنية الكثيرة التي ينسب فيها الفعل إلى اللّه، باعتبار أنَّ القوانين الطبيعية التي تقتضيها طبيعة الأشياء، في ما أودعه فيها من علاقة السببية، تستتبع هذا الفعل، وتقتضيه، مما يبرز نسبته إلى اللّه باعتباره مسبِّب الأسباب، ومكوِّن القوانين التي تحكم الأشياء، من دون أن ينافي ذلك نسبته إلى الإنسان، باعتباره الأداة المحركة للفعل بشكل مباشر، من خلال الإرادة المنطلقة من حركة العقل والفكر.
وعلى ضوء هذا نفهم الآيات؛ فإنَّ هذه العقدة انطلقت في حياة المنافقين على أساسٍ لا يبتعد عن حالة الإرادة والاختيار، واستمرت معهم بدون علاج، بل كان الأمر بالعكس؛ زيادةً في ممارسة النفاق، وإمعاناً في تأكيد طبيعته في الداخل والخارج، ما أوجب تعقيداً في المرض، واتساعاً لدوائره، تماماً كالمريض الذي يهمل مرضه، فلا يعالجه، بل يبقى ـ زيادة على ذلك ـ في تعامل مستمر مع أسبابه، ما يوجب تطوّره إلى الأسوأ، من خلال السنن الطبيعية التي أودعها اللّه في الكون، في مسائل الصحة والمرض، سواء أكانت جسدية أم روحية.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} فهم يتحملون المسؤولية الكاملة عن هذا الوضع الذي يعيشونه ويمارسون فيه الكذب كلمةً، وموقفاً، وعملاً، عن عمد وسبق إصرار. ومهما كانت الظاهرة مرضية، فإنها لا تبرر ما يؤدّونه من أعمال، لأنَّ المرض اختياري في بداياته، وقد كانوا قادرين على أن لا يقعوا في نهاياته، لأنهم يستطيعون أن يتخلصوا منه إذا شاءوا.
* * *
المنافقون والإفساد عن طريق التظاهر بالإصلاح:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} . قد توحي هذه الآية الكريمة بأنَّ المنافقين كانوا يقومون ببعض الأعمال، أو يطرحون بعض الشعارات، في داخل الحياة الإسلامية، ممّا كان يسيء إلى خطّ الإيمان، ويفسح في المجال لحركة فسادٍ في العقيدة والسلوك والعلاقات، وقد يتمثّل ذلك بعمل المعاصي، وصدِّ النّاس عن الإيمان بالأساليب الملتوية ـ على ما روي عن ابن عباس ـ أو بممالأة الكفار، فإنَّ فيه توهين الإسلام، على ما قاله أبو علي، أو بتغيير الملة وتحريف الكتاب على ما قاله الضحاك[3].. وقد يتمثّل في غير ذلك مما ذكره المفسّرون. والظاهر أنَّ مثل هذه التفسيرات لم تنطلق من نص ديني مأثور عن النبيّ (ص)، ولكنَّها ارتكزت على ملاحقة بعض الآيات التي تتحدّث عن المنافقين في سلوكهم العملي تجاه النبيّ (ص)، مما لا يبرّر لنا حصره في نطاق خاص، لأنه لا يحاول حصر هذه الحالات به، بل يحاول عرض بعض ملامحها المتعلّقة بالأفكار الإسلامية العامة.
وعلى ضوء ذلك، يمكن لهذه الآية أن تتحرّك في كلّ مجال من مجالات حركة النفاق في داخل المجتمع، مما قد يوحي ظاهره بالصلاح، ولكنَّه يحمل الفساد في أهدافه ووسائله ودوافعه.. ولعلّنا نواجه مثل هذه الحالات في سلوك الكثيرين من حملة الأفكار التي تتحرّك في اتجاه إثارة الفوضى والدمار في المجتمع باسم الإصلاح الذي يستهدف تغيير الواقع من خلال نسف جذوره، كما نواجه ذلك في كلمات البعض ممّن يفسحون المجال في المجتمع للدعوات والأعمال التي يطلقها أصحاب الهوى والفجور والانحلال، حيث يحاولون تبرير ذلك بأنه ثورة على الجمود، وتحرير للإرادة الإنسانية من عوامل الكبت الداخلي، وتحطيم للعقد النفسية المرضية التي تؤدي إلى ما يشبه الشلل في حركة الفرد والمجتمع، كما نلاحظ ذلك في الدعوات التي تبرر الأزياء الفاضحة أو العري المنحلّ، بأنه يمنح الإنسان صحة نفسية يتعافى بها من كلّ العقد الداخلية.
ومن الطريف أن نجد في بعض التحليلات النفسية لحركة التحرر في الأزياء التي تعمل على تقصير الثياب إلى أبعد مدى، أنَّ القضية قضية تحطيم للحواجز النفسية الداخلية للمرأة إزاء حركة الحياة في تفكيرها وسلوكها، وليست مجرّد تقصير للثياب، فكلّما استطعنا تمزيق أي نوع من الحجاب، أو أي مقدار من الثياب، استطعنا أن نمزّق حاجزاً نفسياً، وحاجباً روحياً للمرأة، ما يجعل من قضية الانحلال الداخلي قضية ترتبط بقضايا الحرية في العالم، من دون مراعاة للأسس الروحية والأخلاقية والاجتماعية التي ترتكز عليها هذه القيم التي يدعو إليها الدِّين ويرعاها في مفاهيمه وشريعته. وعلى هذا الأساس، نقف مع الآية وقفة استيحاء، فقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ} ، أي إذا نهوا عن الفساد البيّن، فهم يحاولون فلسفته وإعطاءه الصفات التي تجعله واجهة من واجهات الإصلاح، ويمنحون أنفسهم، من خلال ذلك، صفة المصلحين الذين يريدون أن يغيّروا القيم التقليدية في العالم.
وتحاول الآية الكريمة أن تعطينا ـ من خلال أسلوبها ـ انطباعاً، بأنهم غير مقتنعين بما يطرحونه، ولكنَّهم يريدون تنفيذ مآربهم، وبهذا لا تمثّل القضية موقفاً حقيقياً لهم، لأنهم لا يتعاملون مع المواقف الحقيقية الحاسمة في الحياة، بل تمثّل محاولةً للفّ والدوران في سبيل تحطيم الركائز الأساسية للمجتمع، كسبيل من سبل تحطيم الرسالة الشاملة التي تنطلق من هذه الركائز.
ويأتي القرآن لحسم الموقف على أساس كشف الواقع الفكري لهؤلاء، وقيمته في حساب الإصلاح، {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} في ما تفرزه أعمالهم وشعاراتهم من آثار سلبية في حياة الأفراد والمجتمعات، {وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} لأنهم لا يعيشون الأجواء النظيفة التي ترتبط بالقيم، ولذلك، لا يشعرون بالنتائج السيئة المرتبطة بأعمالهم، على أساس المقاييس الواقعية للأشياء، بل يظلّون في ارتباطٍ مجنونٍ بالأطماع والشهوات، ما يجعل الموازين تتحرّك في اتجاه القيم الشريرة في تقييم الواقع وتحليله.
* * *
المنافقون والشعور بالاستعلاء:
] وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ النّاس قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَآءُ[ هذه إحدى الملامح البارزة للمنافقين، وهي مواجهة الرأي العام بمشاعر الكبرياء والعظمة التي تدفعهم إلى احتقار النّاس في مستوى تفكيرهم وطبيعة إيمانهم وطريقة حياتهم، لأنهم يجدون في أنفسهم المستوى الفكري والعقلي الذي يرفعهم عن مستوى الآخرين، ولا سيما إذا كانوا مزوّدين بالثقافة التي تتيح لهم أن يجادلوا ويناقشوا، ويحركوا ألسنتهم بتحليل الأمور وتفسيرها ومحاكمتها، على أساس المصطلحات العلمية التي تعطي لكلماتهم مدلولاً علمياً، كما نرى ذلك في بعض المتعلّمين الذين لا يناقشون القضايا العامة التي يتبناها النّاس من خلال طبيعتها الأساسية، بل من خلال طبيعة المستوى الذي يمثّله هؤلاء النّاس المرتبطون بالفكرة أو بالعقيدة. فإذا حاولت أن تربطهم بالحقائق الدينية أو الكونية التي تربطهم باللّه وتقودهم إلى الإيمان، قالوا لك: إنَّ هذا كلام غير علمي، وإنَّ هذه الأفكار التي تطرحها علينا هي أفكار العامة من النّاس الذين يعيشون سذاجة الفكر والعقيدة، وليست أفكار المتعلّمين الذين يحملون شهادات العلم والفلسفة.
ولعلّ هذا هو الذي كان يسيطر على أجواء المنافقين الذين كانوا يُدعَون إلى الإيمان الخالص الذي ينطلق من الفطرة بعفوية وبساطة، باعتبار أنَّ طبيعة الأسس التي يرتكز عليها لا تستند إلى فكر معقَّد، بل إلى الوجدان الذي يتحرّك في إطار الفكرة بهدوء وصفاء. فكانوا يجيبون: إننا لا نؤمن بمثل هذا الإيمان البسيط، لأنه إيمان السفهاء الذين لا يعرفون طبيعة الأسس التي يستندون إليها في حركة الحياة. وقد توحي الآية الكريمة بأنهم كانوا يركزون على نوعية الإيمان لا على أصله، لأنَّ المفروض ـ في أجواء هذه الآيات ـ قبولهم بمبدأ الإيمان ظاهراً، ولكن اللّه، سبحانه، يكشف طبيعة هذا التعاظم الأجوف والكبرياء الكاذب، ويؤكد، من خلال أوضاعهم ومنطلقاتهم وحركاتهم، أنهم يرمون النّاس بصفةٍ هي أقرب إلى واقعهم الفكري والعملي من واقع النّاس الآخرين.
* * *
المنافقون هم السفهاء:
{أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} لأنَّ السفيه يعبّر ـ في مفهومه ـ عن ضعيف الرأي، الجاهل، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضارّ، والذي يتحوّل إلى إنسان ضائع متخبط لا يملك إدارة شؤونه بنفسه من خلال فقدانه وضوح الرؤية للأشياء، ما يبعده عن الاستقامة في عالم التطبيق العملي. وفي مقابله الرشيد الذي يملك وعي المعرفة للأشياء على مستوى التصوّر، وعلى صعيد الواقع، بحيث يملك إدارة حركة النظرية في الوجدان، وحركة التطبيق في الواقع، الأمر الذي يؤدي إلى التوازن في مواجهة القضايا، والاستفادة من كلّ الفرص النافعة الموجودة لديه.
وهذا ما يؤكده التزامهم الداخلي بالكفر الذي يجسّد الضعف الفكري والجهل بالأسس المتينة التي ترتكز عليها عقيدة الإيمان، وحركتهم العملية التي تؤدي بهم إلى الهلاك في الدنيا والآخرة، ولا سيما في هذا الموقف المتأرجح الذي يعيش معه الإنسان في عذاب داخليّ مستمر من خلال خوفه من انكشاف موقفه الداخلي الذي يغطيه بنفاقه العملي. ف{هُمُ السُّفَهَآءُ} في أفكارهم وأفعالهم، {وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} ، لأنهم لا ينفتحون على الآفاق الرحبة للمعرفة ليصلوا إلى النتائج الحقيقية للأمور، وليعرفوا أنَّ قيمة العلم في التقائه بالحقيقة تكمن في ارتكاز نتائجه على الفكرة السليمة، والوجدان السليم، في نهاية المطاف، لأنَّ أية نتيجة برهانية لا ترجع إلى أساس وجداني، لا تمثّل أية قيمة حقيقية في مجال المعرفة. وبهذا كان الإيمان الفطري يمثّل العقيدة الصافية المنطلقة من أساس صحيح ثابت، أكثر من الإيمان الذي لا يلتقي بالفطرة إلاَّ من بعيد، ما يجعلنا نحترم إيمان الفطريين من حيث ما يمثّل الإيمان من صفاء ونقاء، وإن لم يعرفوا طريق الجدال والنقاش العلمي.
* * *
بين الإفساد والسّفه:
قد يواجهنا سؤال في هذه الآية، وفي الآية السابقة عليها، وهي قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} .
لماذا قيل هناك: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} فنفى عنهم الشعور بصفة الإفساد، وقيل هنا: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} ، فنفى عنهم العلم بالسفه، لماذا لم يستعمل العكس، أو يوحّد بين الآيتين في طبيعة الكلمة؟ والجواب: لعلّ الفرق بينهما أنَّ قضية اكتشاف الفساد ليست قضية فكرية، بل هي من القضايا التي تواجه الإحساس والشعور عندما تفرض نفسها في الحياة تماماً كالألم واللذة في مواجهة مصادر الألم واللذة، لأنَّ الفساد يمثّل اختلال مسيرة الحياة العملية في أوضاعها العامة والخاصة، فلا يحتاج اكتشافه إلاَّ إلى الوعي الشعوري بالموضوع، أمّا الذين تبلّدت أحاسيسهم، وغرقوا في أجواء الفساد، فإنهم لا يشعرون بذلك، تماماً كما هو الإنسان الذي لا يعيش الإحساس بالألم عندما تتجمد مواطن الحسّ في جسده.
أمّا قضية السفه، فهي من القضايا المرتبطة بوعينا الفكري بطبيعة المصلحة والمفسدة في ما نواجه من قضايا أو نمارس من معاملات أو علاقات. فلا بُدَّ لاكتشافها من المعرفة للآفاق العلمية التي تتحرّك فيها حياة النّاس في موازينها المستقيمة. أمّا الذين يجهلون طبيعة التوازن في ذلك، فإنهم يجهلون ـ بطبيعة الحال ـ موقعهم من ذلك كلّه.
* * *
المنافقون والتظاهر بالتدين:
{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئونَ} إنهم يظهرون الإيمان ويعملون عمل المؤمنين في صلاتهم وصومهم وغير ذلك، ليحصلوا على الثقة الاجتماعية التي ينفذون من خلالها إلى أهدافهم، ثُمَّ يذهبون إلى جماعاتهم الشيطانية، في الخلوات التي يعقدونها، ليؤكدوا لهم مواقفهم الأساسية الثابتة، وليبعدوا عن أنفسهم الشكوك التي قد تحدث من جراء سلوكهم مع المؤمنين، وليبرروا سلوكهم ذلك بأنه كان استهزاءً بالمؤمنين، واستغلالاً لبساطتهم وسذاجتهم، التي تجعلهم يتقبلون ظواهر الأمور من دون أن ينفذوا إلى بواطنها، ما يسهّل نجاح كلّ الحيل التي يدبرها لهم أعداؤهم.
وربما يقال: إنَّ خطابهم للذين آمنوا بالجملة الفعلية {ءَامَنَّ} لإعلان المبدأ في دائرة الحدوث، بينما كان خطابهم لشياطينهم بالجملة الاسميّة {إِنَّا مَعَكُمْ} لإفادتها الثبات والاستمرار، لتأكيد البقاء في الخطّ الفكري والعملي المتمثّل في دينهم في داخل مجتمعهم الكافر.
وقد روي عن ابن عباس، أنَّ المراد بشياطينهم رؤساؤهم من الكفار وقيل: هم اليهود الذين أمروهم بالتكذيب، وروي عن أبي جعفر الباقر (ع) أنهم كهّانهم[4].
وقد نجد أمثال هذه النماذج في الكثيرين من الأشخاص الذين ينطلقون مع التيارات السياسية وغير السياسية في عملية ارتباط وانتماء، ولكنَّهم ـ في الوقت نفسه ـ يمثّلون أدوار الإيمان عندما يلتقون بالمؤمنين البسطاء ليخدعوهم، ولينفذوا إلى حياتهم العامة والخاصة، من أجل تحقيق الأهداف الشريرة التي لا تلتقي بمصلحة الإيمان والمؤمنين من قريب أو من بعيد. فإذا ذهبوا إلى مجالسهم الخاصة، أطلقوا الضحكات الفاجرة، وأظهروا السخرية والاستهزاء بالمؤمنين، وبعباداتهم، وبأقوالهم، بمختلف الأساليب التي تثير الاستهزاء والاشمئزاز.
وهكذا يقدّم لنا القرآن هذه النماذج الحيّة، التي كانت تعيش في العصور الأولى للإسلام، ليبعث فينا روح الوعي للمجتمعات التي نعايشها، وليفتح أعيننا على هذه النماذج في حركة المجتمع، لئلا ننطلق في التعامل مع الآخرين بسذاجة، بل نحاول اعتماد أسلوب الحذر، الذي لا يحكم على النّاس بغير علم، ولكنَّه لا يستسلم إليهم بدون أساس للثقة والاطمئنان، من دون فرق في ذلك بين أساليب التعامل والقيادة والدخول في قلب المجتمع. فلا بّدَّ لنا، في ذلك كلّه، من محاولة فهم خلفيات هؤلاء الأشخاص الذين يحتلون مركزاً مميزاً في التعامل والقيادة والدخول في خصوصيات حياتنا الاجتماعية، واكتشاف منطلقاتهم الفكرية والسياسية.
إننا لا نريد أن نتحوّل إلى أشخاص معقّدين ضدّ الأفراد الذين نعيش معهم، ولكنَّنا نريد أن نجعل من أنفسنا الأمّة الواعية التي تفهم الواقع فهماً جيداً لنحدّد موقفنا على أساس ذلك، ما يجعلنا لا ندخل في طريق إلاَّ بعد أن نكتشف بداياته ونهاياته، ولا نعطي قيادنا لأحد، ولا نمنحه أسرارنا ـ إذا كان لنا أسرار ـ إلاَّ بعد أن نحصل من سلوكه الداخلي على ما يبرر هذه الثقة العملية، لتظلَّ أوضاعنا منطلقة من قاعدة صلبة لا مجال فيها للانحراف والاستغلال والاهتزاز.
* * *
اللّه يستهزىء بهم:
{اللّه يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} فيخيّل لهم أنَّ حيلتهم قد انطلت على المؤمنين، وأنَّ شخصيتهم المزدوجة لم تنكشف لهم. {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} فلا يعاجلهم بالعذاب ما يشعرهم بالامتداد الآمن، ويعيشون مطمئنين في ما يخططون ويدبرون، ويبقون على هذا التردّد والتخبط بين الشخصية الداخلية والشخصية الخارجية، الأمر الذي يوحي بالضحك والاستهزاء. وأيّ موقف أدعى للهزء والسخرية من موقف المنافق الذي يتحرّك في المجتمع كحركة الفأر المذعور الذي يخاف من أية حركة يسمعها، أو أي شيء يشاهده، حذراً من الخطر؟! والمنافق حاله حال هذا الفأر، حيث يخاف من انكشاف حقيقة موقفه للآخرين، فيقف موقف الخائف من نتائجه ومترتّباته.
وربما يطرح سؤال: إن الآية نسبت الاستهزاء إلى اللّه، وهو من المعاني التي لا تتناسب مع عظمته تعالى، لأنَّ الاستهزاء يمثّل لوناً من ألوان الخداع، لأنك تظهر في حديثك بمظهر الجد، ثُمَّ تعطيه بعض اللمحات والإشارات التي توحي بالسخرية؟
والجواب: إنَّ التعبير يتجه اتجاه المحاكاة لتعبير الآخرين من دون أن يكون حاملاً لمعناه، كما في قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]، فإن ردّ الاعتداء بمثله لا يعتبر عدواناً على المعتدي، لأنَّ مفهوم العدوان يعني الممارسة التي لا تملك فيها جانب الحقّ. ولكنَّ المشاكلة في التعبير للإيحاء بأنَّ هذا الفعل من نوع ذلك الفعل، من حيث طبيعته العنيفة وإيلامه للنفس.. وربما كانت القضية في كلمة الاستهزاء كذلك، باعتبار ما تمثّله كلمة الاستهزاء من الاحتقار وعدم المبالاة، فكأنَّ اللّه يستهزىء بهم في ما يظهر لهم من الإمداد بطغيانهم، كالذي يتكلّم مع الشخص بأسلوب الاحترام وهو يقصد السخرية.
وقد يكون المراد من استهزاء اللّه بهم، مجازاته لهم على استهزائهم، على هدى قوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَ} [الشورى:40]، ويحتمل أن يكون معناها، تخطئته إياهم، وتجهيله لهم في إقامتهم على الكفر وإصرارهم على الضلال، ويمكن أن يكون المراد منه استدراجهم وإهلاكهم من حيث لا يعلمون، كما جاء في معنى الاستدراج أنهم كلّما أحدثوا خطيئة جدّد اللّه لهم نعمة، وهكذا تتنوّع الاحتمالات لتلتقي عند الواقع العملي الذي يجريه اللّه عليهم.
وقد يلفت نظرنا نسبة الإمداد بالطغيان للّه عزَّ وجلّ، ولكن لهذا التعبير جانبين في مظهرين: سلبي وإيجابي، فقد يتمثّل الإمداد بالطغيان في تشجيع الشخص على الإمعان فيه بالأساليب التي ترغّبه فيه وتدفعه إليه بطريقةٍ إيجابية، وقد يتمثّل في الامتناع عن ممارسة الضغوط القوية ضدّه من أجل منعه من العمل وشلّ قدرته على المضيّ فيه. ولعلّ هذا هو المقصود بالآية، فقد كان اللّه قادراً على أن يعطّل قدرتهم على الامتداد بالموت أو بغيره من وسائل التعطيل، ولكنَّه لم يفعل ذلك، بل تركهم وأنفسهم ليمارسوا عملية المواجهة للواقع من موقع الحرية والاختيار، فكان من نتائج ذلك، أنهم امتدوا في طغيانهم من خلال الوسائل الموجودة لديهم، وهذا لا يتنافى مع إيماننا بحرية الإنسان في كفره وإيمانه وضلاله وهداه.
(1) البحار، م:2، ج:5، ص:566، باب:8.
(2) البحار، م:11، ج:35، ص:648، باب:20، رواية:21.
(3) مجمع البيان، ج:1، ص:61.
(4) مجمع البيان، ج:1، ص:63.