تفسير القرآن
البقرة / من الآية 16 الى الآية 20

من الآية 16 الى الآية 20

الآيــات

] أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللّه مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[ (16ـ20).

* * *

المنافقون اشتروا الضلالة بالهدى:

ربما كانت هذه الآيات إيحاءً ختامياً بطبيعة عملهم، بعد أن كانت الآيات السابقة تعداداً لملامحهم، وذلك كإشارة إيحائية للإنسان بالابتعاد عنهم، وعن خطّهم العملي في الحياة، على أساس النتائج السيئة الناتجة عنه.

أُوْلَـئِكَ[ المنافقون ] الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى[ ، وذلك من خلال اختيارهم الضلال، الذي أصرّوا عليه وساروا فيه، على الهدى الذي قدّمه لهم الرسول، ووعاه العقل من خلال الحقّ الكامن فيه والخير المنفتح عليه.

إنهم «اشتروا الضلالة» في سلوكهم وخططهم النفاقية، فتاهوا في منعطفات الطرق، ومتاهات الرمال المتحركة التي تضيع عندها الخطوط وتتلاشى فيها العلامات، وتركوا الهدى الذي يحدّد للإنسان بداية الطريق التي تشير إلى نهايته في خطّ مستقيم ثابت لا التواء فيه ولا انحراف.

فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ[ مما يوحي به هذا النوع من المواقف القائم على أسلوب التبادل التجاري وما يستهدف من تحقيق الربح المادي، في الوقت الذي تنطلق فيه النتائج الحاسمة على خلاف ذلك خسراناً وسقوطاً وضياعاً، ] وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ[ في اختيارهم العملي، لأنهم واجهوا متاهات الأوضاع القلقة على مستوى المصير.

* * *

مفهوم الشّراء كمقوّم لكلّ عمل إنساني:

ونلاحظ ـ في هذا المجال ـ أنَّ القرآن الكريم يركز في هذه الآية وفي غيرها من الآيات، على كلمة «الشراء» في كلّ عمل يقوم به الإنسان في حياته، على أساس النتائج السيئة والحسنة التي تنتج عنه، ما يجعل من مجموعة الأعمال الإنسانية في الحياة عملاً تجارياً يخضع للربح وللخسارة في طبيعته العامة والخاصة، فهناك عوض ومعوَّض في كلّ حركة يتحرّكها، وفي كلّ كلمة يتكلّمها، فقد تشتري ببعض الأعمال نفسك ومصيرك وحياتك عندما يكون للعمل نتائج إيجابية على قضية الحياة والمصير، سواء في ذلك على المستوى المادي أو المستوى المعنوي، حتى في مجال التضحية بالنفس أو بالمال مما يدخل في عملية العطاء بلا مقابل، فإنَّ القضية لا تخلو من العوض، ولكنَّه العوض الأخروي للمؤمنين، والعوض النفسي بشكل عام.

ونواجه في هذا الجوّ بعض الآيات الكريمة كمثال على ذلك، كقوله تعالى:

] إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجنّة يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّه فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[ [التوبة:111]، وقوله تعالى: ] وَمِنَ النّاس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّه وَاللّه رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[ [البقرة:207]، وقوله تعالى: ] يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه بِأَمْوَلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[ [الصف:10ـ11].

وهكذا تكون الحياة في كلّ مجالاتها وصراعاتها، عملية بيع وشراء مع اللّه أو مع الشيطان، فلا تعطي شيئاً، إلاَّ لتأخذ شيئاً مقابلاً له، وهي في ذلك، قد تربح إذا كانت النتائج جيدة في مصلحة البائع والمشتري، وقد تخسر إذا لم تكن النتائج في مصلحتهما، وعلى ضوء ذلك، نعرف طبيعة تجارة هؤلاء المنافقين، فهم قد أخذوا الشيء أو الموقف الذي يخسرون به مصيرهم في الدنيا والآخرة، والذي يضعهم في تيهٍ لا نهاية له من الحَيْرة والتمزّق، وتركوا في مقابل ذلك الهدى الذي يعطيهم القوّة والفلاح والسلام الروحي في الدنيا والآخرة، وبذلك كانت تجارتهم غير رابحة من خلال ما كانوا يأملونه من الأرباح، في الوقت الذي خسروا فيه هدى الطريق، ما جعلهم في ضياع دائم وتخبّط مستمر، وظلام داخلي يحجب عنهم رؤية النور الذي يتفجر من أعماق القلوب المؤمنة السابحة أبداً في ينابيع الضياء الروحي المنهمر من رَوْحِ اللّه.

* * *

ما ينبغي للدعاة استيحاؤه:

من هنا، ينبغي للدعاة إلى اللّه أن يتوفروا على استيحاء هذا الأسلوب القرآني في مجال عملهم الدعوتي إلى اللّه، فقد يلتقون بالأشخاص الذين يعيشون قضايا الحياة من خلال حسابات الربح والخسارة، فيحتاجون إلى إثارة هذه القضايا في حياتهم في انسجامهم مع خطّ اللّه أو ابتعادهم عنه، ودراسة سلبيات الضلال وإيجابية الهدى في الحياة العملية في الدنيا، ثُمَّ الاتجاه بهم إلى قضية الدار الآخرة، كمجال حيوي من المجالات التي تتحرّك فيها حسابات الربح والخسارة، والتركيز على اعتبارها النقطة الحاسمة في ذلك، كما حدّثنا اللّه عن ذلك في بعض آياته الكريمة، عند الحديث عن جانب الخسارة:

1 ـ ] قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ[ [الزمر:15].

2 ـ ] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّه فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللّه الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[ [الأنفال:36ـ37].

وقد حدّثنا اللّه عن الفوز في الآخرة كمقياس للفوز في قوله تعالى:

كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجنّة فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ[ [آل عمران:185].

وَعَدَ اللّه الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِّنَ اللّه أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[ [التوبة:72].

ولا بُدَّ للداعية من أن يتوفر على إيجاد الأجواء النفسية التي تهيىء للالتقاء بالفكرة القرآنية التي تريد للإنسان أن يعيش الشعور بالربح والخسارة في الآخرة بالقوّة نفسها التي يستشعر فيها القضية في الدنيا إن لم يكن بنحو أقوى وأشدّ. وربما كان هذا الأسلوب من أكثر الأساليب ارتباطاً بالهدف القرآني الذي يعمل له العاملون، وهو أن يعيش النّاس أجواء الدار الآخرة في جميع مجالات الحياة الدنيا، ليكون السلوك العملي للإنسان خاضعاً للتأثيرات الروحية التي يعيشها من خلال فيوضات العيش في رحاب اللّه تعالى.

* * *

حالة المنافقين في مثلين:

ثُمَّ انتقلت السورة إلى تجسيد صورة المنافقين، وما يعانونه من حَيْرة وتمزّق وخيبة آمال، من خلال عرض الصورة الحسية المماثلة لصورتهم الداخلية، ولكن في إطار حركة الطبيعة ضمن نماذجها الواقعية المتحركة في الحياة، وذلك بأسلوب ضرب المثل، وهو من الأساليب البلاغية الرائعة التي استخدمها القرآن، في أكثر من مجال، من أجل إعطاء فكرة واضحة حية عن القضايا المعنوية بمقارنتها بالأشياء الحسية، التي تتجسّد فيها الصورة في هزَّة حركية مثيرة للنظر والوجدان والشعور، تماماً كوسائل الإيضاح التي تحاول تعميق الفكرة في النفس وتقريبها إلى الوجدان عبر إبراز عناصرها بالوسائل الحسية، لأنَّ تأثير الحسّ في النفس أشدّ عمقاً وأكثر تأثيراً من الجوانب المعنوية، ولذا كانت هي الطريقة المفصلة لتربية الأطفال الذين لا يستطيعون إدراك الجوانب المعنوية، إلاَّ بأسلوب التجسيد الحسي الذي يربط الطفل بمرئياته وملموساته. وقد تكون قيمتها في تقريب الفكرة التي يوحيها المثل إلى ذهن الإنسان وروحه، ما يجعل مقارنتها بالفكرة التي يُراد عرضها للفكر أمراً عملياً مثيراً.

ولعلّ السرّ في محاولة القرآن الكريم إبراز ملامحهم الداخلية من خلال الصورة الحسية المتمثّلة في واقع الطبيعة الملموس، هو أنَّ اللّه يريد إبعاد النّاس عن هذا الاتجاه المنحرف في موقف الإنسان من قضايا الحقّ والباطل، الأمر الذي يفرض على الأسلوب أن يلتمس كلّ العناصر المنفِّرة التي تشارك في حشد الصورة بأكبر قدر ممكن من الأجواء المظلمة القاسية المُغرقة في الضياع.

وقد صوّر اللّه لنا حالة المنافقين في مثلين محسوسين من صورة الطبيعة:

المثل الأول في قوله تعالى: ] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ[ .

فالمنافقون ] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً[ ليستعين بضوئها على معرفة الأوضاع المحيطة به، والطريق الذي يسير فيه، والغاية التي يسعى إليها. ] فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ[ ، ورأى من خلالها ما يريد رؤيته، وحصل منها على ما يستفيده من الدفء والحرارة، واستراح لذلك، واطمأنّ به، وفكّر في قضاء ليلةٍ سعيدة مشرقة، جاءته الريح العاصفة فأطفأت ناره و ] ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ[ ، فانطلقوا يتخبطون على غير هدى، ] وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ[ ما حولهم، ومن حولهم، ولا يهتدون طريقهم.

] صُمٌّ[ لم يركّزوا أسماعهم لاستماع الحقّ، فكأنهم لا يسمعون، لأنَّ وجود السمع كعدمه بالنسبة إليهم، من حيث النتيجة. ]بُكْمٌ[ لم يقرّوا باللّه ورسوله ورسالاته، فكأنهم لا ينطقون، لأنهم لم يستفيدوا من لسانهم في ما يُراد له من النطق بالحقّ. ] عُمْىٌ[ لم ينظروا في ملكوت اللّه في السَّماوات والأرض، ليعرفوا سرّ عظمة اللّه من خلال ذلك، فكأنهم لا يبصرون لانعدام الفائدة المطلوبة من وجود البصر. ] فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ[ إلى الحقّ لينطلقوا منه نحو سعادة الدنيا والآخرة، بل يبقون في متاهات الضلال التي تقودهم إلى الضياع.

فهم تماماً كما لو كنّا في صحراء مظلمة ليس فيها بصيص نور، لا قمر تشع أنواره الشفافة الوديعة في الأجواء الممتدة التي تنسكب على الرمال بوداعة وهدوء، ولا كواكب تلمع من بعيد، فتوشي حواشي الظلام بلمعات من النور الأبيض القادم من بعيد في خجل واستحياء، فتفتح أمام الخطى بعض مسالك الطريق. ليس هناك إلاَّ ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، ثُمَّ استطعنا فجأة أن نوقد بعض النّار، وتصاعد اللّهب الذي يكشف لنا الجوّ والموقع والطريق.. ثُمَّ جاءت ريح فأطفأت هذه النّار، أو حاولت أن تعبث بها فأطفأتها في حركة عاصفة شديدة. فلنتصوّر الحالة النفسية التي سنكون عليها، والتي تتجسّد فيها خيبة الأمل واليأس من الوصول إلى الهدف المنشود، فهل ثمة حالة أقسى من مثل هذه الحالة التي ينفتح لنا فيها النور بعد يأس، ثُمَّ يذهب فجأة وينطفىء بدون انتظار في أشدّ حالات الحاجة إليه؟

إنها، تماماً، حالة المنافق الذي كان يعيش في ظلام دامس من الشك والحَيْرة والتمزّق والضياع، ككلّ النّاس الذين يعيشون الكفر والجحود والنكران، فيأتي النور الذي أرسله اللّه على رسوله ليدلهم على الطريق وليحدّد لهم الهدف، ولينقذهم من الحَيْرة والتمزّق والضياع، فيقودهم إلى حيث الطمأنينة والوضوح في الرؤية والاستقامة في التفكير، وكان بإمكانهم أن يلتقوا به على درب الإيمان ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ولكن العقدة المتأصلة التي تحوّلت إلى عقدة مرضية مستعصية حالت بينهم وبين الالتقاء بالنور والانطلاق مع الهدى، فعاشوا مع هذه العقدة التي زيّنت لهم أساليب التلاعب الشيطانية، وأوحت إليهم أنَّ ذلك هو السبيل الذي يستطيعون من خلاله أن يحرزوا النتائج المضمونة من كلا الفريقين: فريق الكفر، وفريق الإيمان، بأسلوب اللف والدوران، فعادوا إلى الظلمة من جديد، بعد أن ] ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ[ بفعل إرادتهم المجنونة التي لا تعرف ما تريد وكيف تريد، الأمر الذي جعل اختيارهم يتحرّك في مصلحة الظلام لا في مصلحة النور، فخذلهم اللّه وأوكلهم إلى أنفسهم ] وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ[ .

وجاءت الآية الثانية لتعطينا الفكرة الواضحة عن الأسباب التي دفعتهم إلى هذا الاتجاه المنحرف، ولتعرّفنا أنهم لم يستخدموا الوسائل التي خلقها اللّه لهم ليحصلوا على المعرفة الشاملة، بل حاولوا أن يجمّدوها، فقد خلق اللّه لهم السمع ليصغوا من خلاله إلى الكلمات الحقّة من الآيات البيّنات التي تثير في داخلهم التفكير والتأمل، وخلق لهم اللسان ليسألوا به عن كلّ الأمور التي يجهلونها أو يشكّون فيها ليصلوا إلى المعرفة الحقّة، وخلق لهم البصر ليتطلّعوا به إلى آياته الكونية التي أودع فيها كلّ الدلائل والأسرار التي تقودنا إلى الشعور بعظمته والإيمان بوحدانيته، لقد خلق لهم كلّ هذه الوسائل ليستخدموها كأدوات للمعرفة، ولكنَّهم أهملوها، فكانوا أشبه بالذين يفقدون هذه القوى، لأنَّ قيمة الحواس الإنسانية لا تكمن في وجودها الجامد، بل في وجودها الحيّ المتحرّك في كلّ اتجاه يمنح المعرفة وينمّي الحسّ بالحياة، ويضيء للقلب طريق التفكير، وبذلك يفقد العاملون الأمل في رجوعهم إلى الحقّ والصواب، لأنَّ شرطه الإحساس بالمعرفة من خلال الشعور بالحاجة إلى استخدام وسائلها الطبيعية.

المثل الثاني في قوله تعالى: ] أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللّه مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[ .

حاول بعض المفسّرين اعتبار التشبيه في المثل خاضعاً لمفردات الظواهر الموجودة في الصورة، وذلك بتشبيه الإسلام وما فيه من نور يهدي السائرين إلى الطريق الحقّ، بالبرق الذي يهدي النّاس في دياجير الظلام، وبتشبيه الظلمات بشبهات الكفر والضلال التي توقع الإنسان حائراً في خطوات الطريق المظلم.. أمّا الرعد والصواعق، فقد شبه بهما الإنذار بالعذاب والهول الذي يوجهه القرآن للضالين والمنحرفين عن الصراط المستقيم.

وهكذا يكون المثل من تشبيه مفردات صورة بمفردات صورة أخرى، فلا تكون الصورة هي مركز التشبيه هنا، وقد يكون مثل هذا القول وارداً من خلال طبيعة التركيب اللفظي، ولكنَّ الجوّ العام للموقف، يوحي بانطلاق التشبيه في حركة الصورة بعيداً عن المفردات، لأنَّ القضية هي قضية الحالة الداخلية لشخصية المنافق الذي يعيش الازدواجية الداخلية في الفكر والشعور، التي تفرض عليه الجوّ القلق الحائر، حيث تتأرجح مشاعره بين لمعات الطهر ونزوات الخبث، وتضطرب أفكاره بين أفكار الخير وأفكار الشر، وتختلط في عينيه مواقع النور وكهوف الظلام، وتزدحم في سمعه صرخات العذاب وهدهدات النعيم، وقد تؤكد لنا هذه الصورة، أننا نعتبر ازدواجية المنافق في حياته العملية نابعة من ازدواجيته الداخلية في فكره وشعوره، ولعلّنا نلمس الروعة في التشبيه في هذا الإطار الذي تهتز فيه الصورة بالحركة وتموج بالحياة، لأنه يصبح أكثر انسجاماً مع طبيعة الفكرة التي يوحي بها المثل المنطلق من تجسيد الصورة في الواقع كأسلوب من أساليب وضعها في الواجهة من وعي الإنسان وتفكيره.

وقد نجد أنَّ لكلّ واحد من هذين المثلين مهمة في إعطاء الفكرة عن شخصية المنافق تختلف عن الآخر، ففي المثل الأول تصوير لحالة المنافق وهو يواجه الدعوة التي تشير إلى الطريق المستقيم من خلال النور الذي يضيء الروح والقلب والفكر، فيبادر إلى الطريق الملتوي الغارق بالظلمة التي تعمي قلبه، وتغشي بصره، وتصمّ سمعه.

وفي المثل الثاني تصويرٌ لحالته وهو يعيش حياته في أجواء النفاق واهتزازات المواقف بين الظلمة والنور والرعد والبرق، فتجعله في حَيْرة مدمرة تأكل قلبه وتمزّق روحه؛ واللّه العالم بأسرار آياته.

أَوْ كَصَيِّبٍ[ مَثَلُ هؤلاء المنافقين في حَيْرتهم الذهنية وقلقهم النفسي، مَثَلُ النّاس الذين يتحرّكون في أجواء الصيّب، وهو المطر الغزير الهاطل من السَّماء، ] فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ[ فهو يحتوي في حركته كلّها الظلمات المتمثّلة بالسحاب الأسود، والضباب الكثيف، والليل المدلهم، والرعد الذي يدوّي فيصمّ الأسماع، ويثير المخاوف، ويهزّ الأفق، والبرق الذي يظهر بين لحظةٍ وأخرى بكلّ قوّة فيثير الفزع من تأثيراته في العيون بقدر ما يثير من النور الساطع الذي يشق الظلام بسرعة، فيحرّك ذلك الجوّ المتنوّع في مخاوفه الإحساس بالخطر، فتراهم ] يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِم[ ليتفادوا ضغط الرعد على أسماعهم، وليتخفّفوا من خطر الصواعق القاصفة المحرقة، تماماً كما لو كان الهروب من الإحساس بصوتها سبيلاً للّهروب من أخطارها، ] حَذَرَ الْمَوْتِ[ الذي قد يأتيهم من خلالها ] وَاللّه مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ[ ، فلا عاصم من أمر اللّه، لأنَّ الأجل يأتيهم من كلّ مكان، وبأكثر من سبب، فلا يحميهم منه شيء، ولا هناك من يستجيرون به.

يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ[ ويستلبها لشدّة لمعانه، ولكنَّهم ينطلقون ليهتدوا به في الظلام الكثيف الدامس، ] كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ[ ، وتحركوا، من خلاله، إلى غاياتهم، ] وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ[ ووقفوا في حيرتهم القاسية أمام الظلام الذي لا يبصرون فيه طريقهم. وهكذا يبقون في قلق روحي مدمّرٍ بين النور الخاطف والظلمة الكثيفة، فلا ينفتحون على الدرب، ولا يستقرون في الظلام. إنها حركة المنافق بين الضوء القادم من القرآن، والظلام المندفع من الكفر، ] وَلَوْ شَآءَ اللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ[ فلا يسمعون شيئاً، ] وَأَبْصَارِهِمْ[ فلا يبصرون شيئاً، ] إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ[ فهو القادر على أن يسلبهم كلّ شيء، ويدمّر عليهم كلّ أوضاعهم في جميع المجالات، ولكن اللّه يمهلهم، ويُملي لهم، ويمدّ لهم الحبل، حتى يقيم عليهم الحجة، ثُمَّ يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.