تفسير القرآن
البقرة / من الآية 21 الى الآية 22

من الآية 21 الى الآية 22

الآيتــان

{يَـأَيُّهَا النّاس اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للّه أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (21ـ22).

* * *

دعوة إلى التأمّل:

في بداية هذا الفصل من السورة، دعوة إلى تحديد الموقف من قضايا الكفر والإيمان، بالوقوف مع خطّ الإيمان من خلال العبادة، ومواجهة فكرة الشرك والتوحيد بالأدلة الواضحة التي تلتقي بالتوحيد في حركة الحياة. ولعلّنا نستطيع تفصيل هذه الفكرة في عدّة نقاط:

1 ـ إننا نلتقي في هذه الآية بأسلوب الدعوة القرآنية، الذي لا يدعو إلى الإيمان من خلال التفكير المجرّد الذي يطرح القضايا من خلال المواقف التأملية، التي ينفصل فيها جانب الفكر عن أجواء العمل، فيكون للإنسان مجالان، يتحرّك في أحدهما مع الفكر، وفي الثاني مع خطوات العمل، كما هي طريقة التفكير الفلسفي الذي يبعد جانب الفكر عن جانب العمل، بل يدعو إلى الارتباط العملي باللّه من موقع العبادة بطريقة إيحائية تترك انطباعاً في النفس بأنَّ قضية الإيمان باللّه ليست من القضايا الفكرية التي يدخل الإنسان معها في مجال المناقشة التي تحتمل الرفض والقبول، بل هي من قضايا الوجدان الذي يوحي بالفكرة من خلال الإحساس الداخلي النابع من مواجهة الكون الذي يحيط بالإنسان في كلّ مظاهره، حتى يجد اللّه متمثّلاً في عمق ذلك كلّه، في اللفتة والنظرة والشعور، حيث ينتقل من جوّ الملاحظة العفوية إلى جوّ العبادة من دون تردّد أو توقف.

2 ـ إنّ الآية توحي بأنّ الدعوة إلى الإيمان باللّه وإلى عبادته، ليست خاضعة لموقف فكري بعيد عن حياة الإنسان وشعوره، ككثير من القضايا الفكرية التي ترتبط بها وتنسجم معها باعتبارها حقيقة من حقائق الحياة التي تفرض نفسها عليه، من دون أن يكون لها ارتباط به من ناحية شعورية، بل هي خاضعة لإحساس الإنسان بوجوده ووجود النّاس الذين من قبله، ومرتبطة بحركة حياته، وهو يتنقل في الأرض ليعيش قضايا الحياة، أو يتطلّع إلى السَّماء التي تمنحه الشعور بالعظمة، وتنزل عليه بركاتها التي تحوِّل الأرض إلى خصب يعطي الرزق الذي يفسح للإنسان مجال الامتداد في هذه الحياة.

وبذلك يستوحي الإنسان في عبادته للّه العظمة المحيطة به في كلّ مظاهر الحياة، والنعمة المتفجرة من الأرض، والمنهمرة من السَّماء، لتعطيه الخير والبركة والرخاء، ما يبعد العبادة عن الخضوع الأبله الساذج، ويربطها بالخشوع الذي يمتزج فيه الشعور بالعظمة، بالإحساس بالنعمة، التي يحتاج معها إلى الاعتراف بالجميل، ويجعل من علاقة الإنسان باللّه شيئاً يتصل بمشاعره الحميمة لا بأفكاره المجرّدة، وهذا ما يحقّق للإنسان معنى التقوى الذي اعتبرته الآية غاية للعبادة، لأنه يمثّل الانضباط العملي على خطّ اللّه، من خلال الإحساس العميق به، في موقف نفسيّ داخلي يتجسّد فيه الإيمان المسؤول بالجانب العملي في الحياة.

وهذا هو ما ينبغي للعاملين في سبيل الدعوة إلى اللّه أن يسلكوه في أساليبهم العملية في الدعوة، أي عليهم استيحاء الجوّ القرآني الذي يتحرّك فيه الأسلوب بعيداً عن الأجواء الفلسفية المجرّدة التي قد تعطي فكراً قوياً، ولكنَّها لا تمنح الإنسان حركة الإيمان في داخل النفس، وفي أعماق الحياة.

3 ـ لقد جاء في الآية التعبير عن الأرض بأنها فراش، وعن السَّماء بأنها بناء، وهما استعارتان، أريد بهما التدليل على معنى دقيق، فقد جاءت كلمة فراش لتعبّر عن الراحة التي يحسّ بها الإنسان في وجوده على هذه الأرض بما أودعه اللّه فيها من قوانين الحياة، تماماً كالراحة التي يشعر فيها الإنسان بالإغفاءة الهانئة على الفراش الوثير بعد تعب يوم مكدود. وقد جاءت كلمة بناء للإيحاء بالتماسك والقوّة التي تمنع من السقوط على الرغم من أنها لا تعتمد على قواعد ثابتة في الأرض.

4 ـ إنّ التطلّع إلى الأرض في ما تمنحه للإنسان من الراحة بفعل القوانين الطبيعية المودعة فيها، وإلى السَّماء في تماسكها وفي خيراتها التي تغدقها على الإنسان، وفي ما توحيه من عظمة الخالق من خلال سرّ عظمة الخلق، إنَّ ذلك كلّه يدفعنا إلى رفض الأنداد والشركاء للّه، عندما نحصل على القناعة الثابتة التي تؤكد لنا ـ بما لا يقبل الشك ـ أنَّ اللّه هو وحده صانع ذلك كلّه، لأنه ـ وحده ـ القادر على ذلك كلّه.

5 ـ ذكر بعض المفسّرين في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أنَّ التقوى هي الغاية للخلق، فيكون المعنى أنَّ الغاية من خلق الإنسان هي الوصول به إلى التقوى، ولكنَّ التأمّل في الآية يؤدي بنا إلى أنها غاية للعبادة، لجهتين، الأولى: أنَّ الكلام قد سيق للأمر بالعبادة فهي الأصل في الكلام، أمّا الخلق فقد ذكر كصفة من صفات اللّه التي توحي للإنسان بمسؤوليته أمام اللّه في عبادته له، فلا يناسب المقام رجوع الغاية إليه. الثانية: أنَّ الغاية لا بُدَّ من أن تكون بمثابة النتيجة الطبيعية للعمل، ونحن نعرف أن مجرّد الخلق لا يتصل بالغاية، بل الذي يحقّقها هو العبادة ذاتها التي تثير في النفس الشعور باللّه، والخضوع له، ما يوحي له بمسؤوليته الممتدة أمام اللّه، ويؤكد ذلك بممارسته العملية الدائمة المنفتحة على الحقّ.

* * *

خطاب القرآن بين «يا أيها النّاس»، و «يا أيها الذين آمنوا»:

{يَـأَيُّهَا النّاس} الذين يتحرّكون في الحياة على هدى إنسانيتهم في أصالتها الفطرية، وشعورها المنفتح على الحقيقة، وجهدها المتحرّك في خطّ الفكر الأصيل، بعيداً عن عناصر الخصوصيات القومية والجغرافية والعرقية، سواء كنتم مؤمنين أو كافرين، فهذا هو النداء الذي ينفذ إلى أعماقكم ويستثير فيها الحركة نحو عبادة اللّه.

وفي هذا السياق، ثمة قول ينسب إلى ابن عباس والحسن، أنَّ ما في القرآن من {يَـأَيُّهَا النّاس} فإنه نزل بمكة، وما فيه من {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو} فإنه نزل في المدينة. وبعيداً عن ثبوت صدور هذا الرأي عنهما، أو عدمه، فإنَّ مضمونه يحثّنا على الوقوف عند أساس هذه الفكرة، التي في تقديرنا، ترجع إلى كون سورة البقرة مدنية كلّها إلاَّ آية واحدة، وهي قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّه} الآية، فإنها نزلت في حجّة الوداع بمنى.

وقد يكون الأساس في هذه الفكرة، أنَّ مكة كانت مرحلة الدعوة التي يتوجه فيها الخطاب إلى النّاس كلّهم من أجل إدخالهم في الإيمان، بينما يتوجه الخطاب في المدينة إلى المؤمنين من أجل تفصيل مسؤولياتهم العملية باعتبارها مرحلة الحركة في الدولة. ولكن لنا ملاحظتان في هذه المسألة:

الأولى: أنَّ من الممكن مخاطبة المؤمنين في صفتهم الإنسانية لاستثارة المضمون الإنساني الذي ينفتح بهم على القضايا الحيوية في عناصر الحذر والخوف والرحمة والمحبة ونحو ذلك التي تتمثّل في خصائص الإنسان من حيث هو إنسان مما يتصل بساحة الدعوة وساحة الحركة معاً.

الثانية: أنَّ مرحلة المدينة لم تبتعد عن مرحلة الدعوة، لأنَّ الكثيرين من العرب وغيرهم كانوا لا يزالون مقيمين على الشرك أو الكفر، ما يفرض التوجه إليهم بين وقتٍ وآخر، فإنَّ النبيّ (ص) والمسلمين معه، لم يكونوا مستغرقين في أجواء المدينة، بل كانوا يتطلعون إلى النّاس خارجها، ويتحرّكون من أجل توعيتهم وهدايتهم إلى الإسلام.

* * *

اعبدوا ربّكم:

] اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ[ ، فإنَّ الخلق يمثّل العبودية التكوينية من خلال الإرادة الإنسانية في تحقيق معنى المضمون الواقعي لعبودية الإنسان في وجوده لتكون مظهر الوعي المتحرّك فيه، لأنَّ القضية لا تنطلق من حالةٍ فكريةٍ مجرّدة في عقله، بل تتحرّك من حالةٍ وجوديةٍ في ذاته، تماماً كما يتحسّس خصائصه الشعورية الذاتية.

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لأنَّ العبادة تفتح وجدانكم على اللّه في الإحساس بعظمته وربوبيته ووحدانيته، الأمر الذي يؤدي إلى اهتزاز العمق الإنساني في الخضوع للّه، والخوف منه، والمحبة له، بحيث تصبح التقوى حالةً طبيعية في حركة الذات.

{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاش} ومستقراً ومقاماً تستريحون فيه، وتتقلبون عليه، في حركتكم، وفي يقظتكم ومنامكم. {وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} من فوقكم كما هي القبة المطلّة عليكم، وخلق فيها الشمس التي تمنحكم النور والدفء والحرارة، والقمر الذي يضيء لكم ظلمات الليل ويحدّد لكم المواقيت، {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} يحيي الأرض بعد موتها، ويمنحها الحيوية التي تعطي العناصر المودعة فيها قوّة النموّ وحركة الخصب، {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ} من البذور المتناثرة في أعماقها وسطوحها {رِزْقاً لَّكُمْ} ، وذلك لتلبية حاجات أجسادكم الغذائية، بما يكفل استمرار حياتكم وتواصلها، لتعتبروا بذلك كلّه، ولتعرفوا حاجتكم وفقركم إلى اللّه الذي لا يملك غيره أن يعطيكم ما أعطاكم، ويرزقكم ما رزقكم من فضله، ولتؤمِنوا بأنه اللّه الذي لا إله إلاَّ هو لا شريك له، لأنَّ كلّ من عداه فهو مخلوق له، فكيف يكون رباً للنّاس؟! {فَلاَ تَجْعَلُواْ للّه أَندَاد} تحبّونهم كحبّكم للّه، وتطيعونهم كطاعتكم له، وتعبدونهم كما تعبدونه، في الوقت الذي لا يملك هؤلاء لأنفسهم من أمرهم أو من أمر النّاس شيئاً، لأنهم عباد أمثالكم لا فرق بينكم وبينهم في معنى العبودية للّه الواحد الذي لا إله إلاَّ هو، ولا شبيه له ولا نظير، {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ذلك كلّه، فكيف تحوّلون علمكم جهلاً بالسير في دروب الجاهلين؟