الآيتــان
] وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءكُم مِّن دُونِ اللّه إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النّاس وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ[ (23ـ24).
* * *
بلاغة القرآن طريق لإثبات نبوّة محمَّد (ص):
{وَإِن كُنتُمْ} أيها النّاس، ] فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا[ بفعل استبعاد تصوّراتكم أن يكون النبيّ بشراً، أو أن تكون له من الأوضاع والمميزات ما ترونه منافياً للموقع المميّز للنبوّة، كالفقر والمنزلة الاجتماعية العادية وما إلى ذلك، فإننا ندعوكم، لرفع هذه الشكوك والشبهات، إلى دراسة هذا التنزيل القرآني الذي لم تألفوا مثل فصاحته وبلاغته في أساليبكم ومحاوراتكم؛ والذي يتحدّاكم في أن تحاكوه، {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} من دون تحديدٍ لحجم السورة وطبيعتها ومضمونها، فتكون لكم حرية الاختيار في ردّ التحدّي بما يتناسب مع إمكاناتكم البلاغية إذا لم تنفتحوا على إمكانات علمية أو فكرية مما تتضمنه هذه السورة أو تلك.
وإذا كنتم لا تملكون القدرة الذاتية على ذلك، فاعملوا على أن تستعينوا بالذين ترون فيهم القدرة العالية على القيام بالأمور الصعبة، {وَادْعُواْ شُهَدَآءكُم} الذين اتخذتموهم آلهة ] مِّن دُونِ اللّه[ ، وزعمتم أنهم يملكون القوّة الكبيرة التي تميّزهم عن النّاس، واعتقدتم أنهم يشهدون لكم، في حضورهم القوي الفاعل الذي يتدخل لإعانتكم، في ما لا تقدرون عليه {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم والتزامكم بالشرك.
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُو} أي لم تستطيعوا القيام بذلك، {وَلَن تَفْعَلُو} لأنَّ القضية أكبر من طاقة البشر، وبالتالي لا يملك إنسان أن يجيب على هذا التحدّي، ما يدل على أنه ليس كلاماً صادراً من محمَّد (ص)، بل هو صادر من اللّه سبحانه، ليكون ذلك دليلاً على صدقه في رسالته، وانطلاقه من الوحي الإلهي في كلّ ما جاء به، الأمر الذي يفرض عليكم الإيمان به، وبرسالته، والاتباع له في شريعته في كلّ أوضاعكم وأعمالكم، لأنَّ ذلك هو الذي ينقذكم من غضبه وسخطه وعذابه، {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النّاس وَالْحِجَارَةُ} ، مما يميّزها عن غيرها من النيران التي توقد أولاً بالوقود المألوف من الخشب ونحوه ثُمَّ يلقى فيها ما يُراد إحراقه بها، ولكنَّها توقد بما تحرقه من النّاس والحجارة التي تتحوّل إلى جمر متّقد، فهي موقدة لهم وبهم، {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} باللّه، وبرسوله، وبرسالاته، واليوم الآخر بعد قيام الحجّة عليهم بذلك، ما جعل كفرهم منطلقاً من موقع التمرّد لا من موقع القناعة الفكرية، فاستحقّوا عذاب المتمرّدين.
هذه هي إحدى الآيات التي واجه القرآن بها حالة الشك والجحود التي قابل بها المشركون النبيّ محمَّداً (ص) في ما أوحي إليه، باعتباره جهداً بشرياً لا يدعم دعوى الرسالة التي لا بُدَّ لها من الارتباط بالوحي الإلهي والانطلاق منه، وذلك على الرغم من الآيات والبيّنات التي قدّمها إليهم كدليل على ذلك، فلم يفكروا، ولم يتحرّكوا في اتجاه إدارة الحوار معه بالأسلوب العقلي للتفكير، ليصل الحوار إلى النتيجة الطبيعية التي تثبت أنه رسول اللّه، فلم يبق أمامه إلاَّ التحدّي الصارخ، الذي لا ينطلق من المواجهة الهادئة التي تخاطب الفكر، بل يتحرّك بهزة عنيفة تتحدّى الفكر والشعور والكرامة، في محاولةٍ لتعرية حالة الشك، وتجريدها من مبرراتها أمام أنفسهم وأمام الآخرين، عندما ينكشف لهم أنهم لا يملكون أية إمكانية لمواجهة التحدّي بمثله، بما يملكونه من أدوات المواجهة في مثل هذه الحالات التي يستثيرون فيها كلّ القوى الذاتية في أعلى درجاتها الثقافية والفنية.
* * *
القرآن يقطع، في تحدّيه، أعذار الكفّار:
لقد مثّلت هذه الآية قمّة التحدّي، في طبيعة الموضوع الذي طرحته عليهم، وفي الأسلوب المثير الذي حشدت فيه أقوى أنواع الإثارة النفسية التي تثير حسّ الكرامة فيهم، كأعمق ما يكون، بما لا يترك مجالاً للاستمرار في أجواء اللامبالاة، ولاسيما في تلك البيئة العربية التي تنفعل بأسباب الإثارة الذاتية على مستوى الفرد والقبيلة، ما يجعل للأشعار والخطب المنقولة عنهم، طابع الحماسة المشحونة بالفخر والتحدّي والاعتزاز وإباء الضيم، فقد أرادت منهم الآية أن يأتوا بسورة من مثل القرآن، أياً كانت طبيعة تلك السورة، في الموضوع، وفي الكمية، فتركت لهم الحرية في اختيار أقصر سورة في كلماتها، وفي بساطة موضوعاتها، وسهولة معانيها.
وقد كان التحدّي في بداياته يطرح فكرة الإتيان بمثل القرآن، من دون أن يحدّد حجماً معيناً للمقدار، وذلك هو قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرً} [الإسراء:88]، ثُمَّ بدأ التحديد في عملية تدريجية، فألقى عليهم فكرة الإتيان بعشر سور مثله مفتريات، مهما كان حجم السورة وبساطتها وسهولة أفكارها، وذلك هو قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَائتواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللّه إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لم يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّه وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [هود:13ـ14].
وهكذا نجد أنَّ اللّه لم يترك لهم أي مجال لعذر في ما إذا أرادوا أن يتلمّسوا الأعذار المألوفة في مثل هذه الحالات، من مشاغل الحياة ومتاعبها، لأنَّ التحدّي في صيغته الأخيرة دعا إلى الإتيان بسورة واحدة، من دون تحديد لأي منها، تاركاً لهم حرية اختيار السورة التي يريدون. ومن المعلوم أنَّ في القرآن سوراً كبيرة من حيث عدد الآيات، وسوراً قصيرة لا تتجاوز الثلاث آيات، ما من شأنه أن يقطع الطريق أمامهم من مثل هذه الأعذار.
وهنا قد نلاحظ أنَّ الآية قد طرحت أمامهم فكرة الإتيان بمماثل لسورة من سور القرآن، لا الإتيان بسورة بعينها، لئلا يعتذروا، كما يحلو للبعض أن يقول، بأنَّ ذلك لا يرتبط بالإعجاز، لأنَّ لكلّ إنسان أسلوباً متميزاً عن أسلوب الآخرين من حيث الخصائص الذاتية التي تحكم الأسلوب وتوجهه، فقد لا يستطيع الإنسان ـ في أغلب الحالات ـ أن يأتي بالأسلوب نفسه لكاتب مثله، لا لعجز في المستوى الفني، بل لاختلاف العوامل الذاتية التي تؤثر فيه، ولا تنفصل عنه. وبذلك، كانت المماثلة المطلوبة هي التي طرحها القرآن الكريم، لأنها من الأمور الممكنة للذين يملكون القدرة الفنية التي تتيح لهم مراعاة الخصائص البلاغية الكامنة في عناصر الأثر الفني، بكلّ دقائقها وأسرارها الخاصة والعامة، لينكشف لهم، من خلال عجزهم عن الإتيان بالمماثل الذي يجمع عناصر السورة لا نفسها، أنَّ القضية ليست قضية جهد بشري رفيع المستوى، بل هي قضية الوحي الإلهي الذي لا يبلغ البشر مداه، ولا يرتفعون إلى مستواه.
* * *
القرآن يتحدّى الكفّار وآلهتهم:
أمّا عناصر الإثارة التي اشتملت عليها آية التحدّي مع ما بعدها، فهي التوجه إليهم بدعوة شهدائهم الذين يدعونهم من دون اللّه ليشهدوا لهم أو ليعاونوهم ـ وهو الأقرب ـ باعتبار القوّة الهائلة التي يزعمونها لهم، ما يجعل القضية لا تقف في مستوى قوتهم الذاتية فحسب، بل تتعداهم إلى شهدائهم الذين يمكن أن يكون المقصود بهم الشركاء الذين يعبدونهم من دون اللّه، ويرون فيهم القوّة التي تقترب من اللّه. وبذلك، كان التحدّي يواجه كلّ القوى الذاتية وغير الذاتية، مما يملكونه لدى شركائهم الذين يدعون من دون اللّه. وهذا من أبلغ حالات التحدّي التي تعمل على كشف تفاهة ما لدى الشركاء، إلى جانب تعرية حالة الشك المزعومة لديهم بتجريدها من كلّ مبرراتها. ثُمَّ نواجه ـ في الآية ـ التأكيد الحاسم بأنهم لن يستطيعوا مواجهة التحدّي بمثله في المستقبل، كما في الحاضر، لأنَّ القضية لا ترتكز على حالة آنية، أو مستوى محدود قابل للتطور في المستقبل، بل ترتكز على الطبيعة البشرية، التي لا تستطيع من خلال إمكاناتها الذاتية مواجهة ذلك.
ثُمَّ يُمعن في الإثارة التي تقودهم إلى التجربة لئلاّ يقول قائل: إنَّ القوم لم يجدوا ما يدعوهم إلى الإلحاح في المواجهة، فلا نستطيع أن نعتبر عدم التجربة دليلاً على العجز، فيواجههم بضرورة الإيمان المتمثّل بمراقبة اللّه من ناحية عملية في ما يعتقدونه وفي ما يعملونه، ليجنبوا أنفسهم {النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النّاس وَالْحِجَارَةُ} المعدّة للكافرين، فإنَّ في هذا الوصف إيحاءً بعظمة النّار وشدّة لهبها وحرارتها، التي تحوّل الحجارة إلى جمر يتوقّد ويشتعل، وتحقيراً للكافرين بمقارنتهم بالحجارة في النّار، ما يؤجج في نفوسهم حسّ الكرامة، فيدعوهم إلى ردّ التحدّي، ومحاولة المجابهة التي يرجعون منها خاسرين.
* * *
الإعجاز البياني، سرّ التحدّي القرآني:
وقد يتساءل الكثيرون عن سرّ التحدّي القرآني المتمثّل في الإعجاز؟
ونجيب: إنه الإعجاز البياني الذي تصل فيه الناحية التعبيرية في الكلمة إلى أعلى مستوى من الفنّ والروعة والأداء، بحيث تلحظ كلّ الجوانب المحيطة بالكلمة، وبالموقف، وبالإنسان، في الامتداد الرحب للحياة، من دون أن يتغلب جانب على آخر، بل هو التناسب والتوازن في الحركة والحرف والأسلوب، والروح المتدفق بالحياة، المنساب بالسحر والروعة والقوّة والجلال.
وذلك هو سرّ القرآن الخالد في كلماته وآياته، التي تضج بالحركة، فتحس، وأنت تقرأه، بالتجدّد يملأ روحك وقلبك وضميرك، ويحرّك حياتك لتسمو، وترقّ، وتصفو، وتتعمّق، وتنساب، في عمق الفكرة، وإشراق الإيحاء، وسماحة الأسلوب.
وذلك هو سرّ الكلمة التي لا تموت، لأنها انطلقت من الحياة الكبيرة الممتدة، لتمنح الأرض والإنسان سرَّ الحياة التي تتجدّد، ولتشير إلى الدرب الذي يتخذ من الموت جسراً تسير عليه الحياة إلى العالم السرمدي الذي يخجل الموت أن يمر على وهمه في خفة الظلال، لأنَّ الموت يختبىء حيث تعيش الأشباح السوداء في عتمة الحياة، أو حيث يتجمد الصقيع في وحشة الضباب وبرودته، فلا يقترب من الصّحو الذي يتوهّج فيه النور، كمثل الحلم الوردي السابح في بحيرات الصفاء، في وداعة الروح، حيث تنطلق الرؤية في وضوح تخجل أمامه كلّ نوازع الشكوك. وذلك هو السرّ الذي يطوف بالكلمات، فتمتد في أعماق الروح حباً، وروحانية، وفكراً، وحياة.
ولسنا، هنا، في معرض التحليل الفني للإعجاز البياني في القرآن، فلذلك مجاله الواسع في علوم البلاغة والأدب، ولكنَّنا، هنا، من أجل أن نؤكد حقيقة قرآنية ملموسة، وهي أنَّ أيّ تحليل أو تصوير للقرآن في معانيه وأسراره، أو أي بحث للأسرار البلاغية الكامنة في كلماته وآياته، لن تستطيع أن تجسّد الحالة الروحية والشعورية والفكرية التي تغمر الإنسان وهو يقرأ القرآن أو يستمع إليه، لأنَّ القضية ليست قضية المقاييس الفنية للجمال الأدبي، بل هي الروح الغامضة الرائعة المنسابة في الحروف والكلمات والمعاني والأسلوب، فإنك تشعر بها، وهي تتصاعد في مشاعرك وأفكارك وآفاقك في عالم من السموّ الإلهي الذي لا يدرك الإنسان مداه.
* * *
معاني القرآن أكبر من اللغة وقواميسها:
ولعلّ القيمة، كلّ القيمة، أن تقرأ القرآن أو تستمع إليه، لا لتتجمد أمام كتب اللغة في تحديد معاني الكلمات، أو لتطوف في آفاق كتب الأدب والبلاغة، لتجعل لكلّ جملة أجواءها الجمالية ومقاييسها الفنية، بل لتشعر بأنَّ الوحي القرآني الذي تعيشه في داخل الكلمات، وفيما بينها، وأمامها وخلفها، هو الشيء الذي يغمر كيانك، ويفتح قلبك على عالم من المعاني والأضواء والألوان والمشاعر والظلال، التي تجعلك تحسّ بالمعنى وهو يتسع ويتسع حتى تتلاشى الكلمة، فلا تعود حروفاً تقبع في كتب اللغة، بل معاني تنطلق في رحاب الحياة، لتوحي للإنسان، وقد ارتفع إلى المستوى العظيم حيث تغمره الألطاف الإلهية، بروعة القرب إليها، روعة نجواها الخالدة خلود الحياة في الأبد، بالأسرار الخالدة.
* * *
ضرورة انسجام التحدّي وإبداعات المجتمع:
هذا ما نفهمه من طبيعة التحدّي القرآني الذي أطلقه القرآن بآياته.. إنه التحدّي بالكلمة التي كانت سرّ القيمة لدى المجتمع الذي ولدت فيه الرسالة وعاشت.. ولكي يكون التحدّي تحدّياً، لا بُدَّ من أن يوجّه إلى المجتمع الذي تتحرّك فيه الرسالة عندما يضع أمامها العقبات أو التحدّيات، ليمنعها من الاستمرار والتقدّم في الوصول إلى أهدافها الكبرى. ولا بُدَّ للتحدّي ـ إلى جانب ذلك ـ من أن يكون في الإطار الذي تتجمع فيه الطاقات المبدعة للمجتمع، لتتضاءل تلك الطاقات أمام الرسالة، فتسير معها في فعل إيمان، أو لتنسحب من ساحة الصراع وهي تجرّ أذيال الهزيمة، لتكون الانطلاقة من موقع القوّة في إطار الفكرة، كما هي القوّة في موقع الحياة.
وعلى ضوء ذلك، نفهم كيف كانت معجزة موسى (ع) التي تحدّت إبداع السحرة بإعجاز السحر، وكيف كانت معجزة عيسى (ع) التي تحدّت عظمة الطب، بإعجاز تتضاءل أمامه كلّ قوانين الطب وقواعده. ومرّت المسيرة، وتراجع الفكر عن التحدّي، ليفسح في المجال للغوغاء التي لا يمكن للحياة أن تحتضن أصواتها باستمرار إلاَّ ريثما يستسلم الإنسان ـ ولبعض لحظات ـ ليقظة الفكر، وصفاء الوجدان، وإشراقة الروح، حيث تتبخّر كلّ السحب، وتخفت كلّ الأصوات.
وليس معنى ذلك، أنَّ قصة المعجزة تتحرّك في إطار المجتمع الذي تبدأ فيه الرسالة حركتها، فلا تتجاوز إلى غيره، لتكون المعجزة حدثاً طارئاً في حياة الرسول، وفي حركة الرسالة، فليس ذلك هو ما نحاوله، لأننا نعتبر المعجزة ضرورة حيّة لتأكيد علاقة الرسالة باللّه باعتبارها عملاً خارقاً للقوانين الطبيعية المألوفة في الحياة، من دون أن نسيء إلى قانون السببية الذي جعله اللّه في الكون في علاقة الظواهر العامة بأسبابها، لأنها لا تخرق القانون بل تتحرّك في النطاق الخفي في حركته الكونية لتكون اختراقاً للقانون العادي لا للقانون من حيث المبدأ، بمعنى أنه ليس من الضروري أن تكون خرقاً له، لكن لا مانع من ذلك إذا انطلقت حكمته ـ تعالى ـ في تعلق إرادته بها بشكل مباشر.
وبذلك، فإنَّ المعجزة تشكل القاعدة التي تنطلق منها الرسالة، لتؤكد شرعيتها في إخضاع الحياة لمفاهيمها وشرائعها على أساس ما تمثّله من إرادة اللّه، كما أنها تشكل القوّة الصادمة للقوى المناوئة، بحيث لا تسمح لاستفزازاتها بأن تشوّه وجه الدعوة، أو تحرفها عن مسيرتها القوية، لاسيما في بداياتها الأولى، لئلا تبدأ بداية ضعيفة يحوطها الغموض، وتنتابها الشبهات.
وذلك لأنَّ خصوم الدعوة، في بداياتها الأولى، يمثّلون القوى الطاغية الغاشمة، التي تقف ضدّ امتدادها وانتشارها، وتمنع الآخرين من الدخول في عملية حوار مع الدعوة حول القضايا التي تطرحها والمفاهيم التي تحملها، الأمر الذي قد يفسح في المجال للأوهام والأضاليل والشبهات بالانتشار، لتؤخر مسيرتها وتشوّه صورتها، كما نلاحظ ذلك في الأساليب التي كان يتبعها فرعون ضدّ موسى (ع) بالتهوين من شأنه، والحطّ من قدره، لتشويه صورة الرسالة التي يدعو إليها، والوقوف أمام كلّ تحرّك عملي يحاوله موسى (ع) في سبيل الوصول إلى أفكار النّاس وقناعاتهم.
وهذا ما استطاع موسى (ع) أن يحطمه بمعجزة العصا التي {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117]، فكانت صدمة عنيفة قوية هزّت كيان السحرة حتى خرّوا ساجدين من دون انتظار لأي شيء، مما خيل لفرعون، أو هكذا حاول أن يوحي لقومه، بأنها مؤامرة بين موسى (ع) وبينهم باعتبار أنه كبيرهم الذي علّمهم السحر. وهذا ما فعله كلّ الأنبياء الذين جاؤوا بالمعجزات لتحطيم الحواجز الضخمة التي أقامها خصومهم أمام الرسالات ، وانطلقوا ـ بعد ذلك ـ لمواجهة الصراع من موقع القوّة التي هزمت أعداءها في الداخل، وإن ظلّوا متماسكين في ظاهر الأمور.
* * *
القرآن والجوانب الإعجازية غير البلاغية:
هل هناك جوانب أخرى للإعجاز في التحدّي القرآني؟
قد يجد الكثيرون من المفسّرين أنَّ الإعجاز القرآني لا يقتصر على الجانب البياني؛ فيذكرون معه الإعجاز العلمي، لاشتمال القرآن على الإشارة إلى بعض القضايا العلمية التي لم يكتشفها الإنسان إلاَّ بعد وقت طويل، أو التي كانت معروفة لدى اليونانيين وغيرهم من دون أن تكون هناك أية وسيلة معقولة لوصولها إلى النبيّ محمَّد (ص)، أو إلى المجتمع الذي عاش فيه، فقد كان المجتمع مجتمعاً جاهلياً يفقد الاهتمامات التي تدفعه إلى البحث والتعمق والسفر من أجل المعرفة الشاملة، بل كانت ثقافته واهتماماته تدور حول ما يشارك فيه النّاس من قضايا الشعر والنثر المحدودة الأفق، الضيقة المعاني، في امتداد الفكر وسعته، ولم تكن للنبيّ محمَّد (ص) ثقافة ذاتية يتميّز بها عن ثقافة قومه، لأنه لا يملك الوسائل الكفيلة بانفتاحه على هذه الثقافة من قراءة أو كتابة أو ممارسة دائبة لأصحاب الفكر والمعرفة في نواديهم ومجتمعاتهم.
وهكذا رأينا الكثيرين يطرحون الإعجاز العلمي كمظهر من مظاهر التحدّي القرآني؛ فيتحدّثون عن كروية الأرض التي أشارت إليها الآيات التي تتحدّث عن {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17]، أو {بِرَبِّ الْمَشَـرِقِ وَالْمَغَـرِبِ} [المعارج:40]، باعتبار أننا لا نفهم معنًى معقولاً لتعدّد المشارق والمغارب إلاَّ من خلال كروية الأرض التي نجد فيها الشمس تشرق عندنا وهي تغرب عند قوم آخرين، وبالعكس، أو من خلال قانون الزوجية في الكون، {وَمِن كُلِّ شَيء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] وغير ذلك من الأسرار التي لم يكتشفها الإنسان إلاَّ بعد حين.
وقد يذكرون ـ إلى جانب ذلك ـ الإعجاز الغيبـي من خلال إخبار القرآن بالمغيبات كشاهد على إعجاز القرآن، ويتحدّثون ـ في هذا المجال ـ عن قوله تعالى: {ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:1ـ3].
فقد ذكر المفسّرون ـ في أسباب النزول ـ أنَّ الفرس تغلبوا على الروم، فشمت المشركون بالمؤمنين، باعتبار أنَّ الروم يلتقون مع المسلمين على أساس الإيمان باللّه الواحد، فنزلت الآية لتخبر بالانتصار المستقبلي للروم على الفرس، وقد حدث ذلك في سنوات قليلة، كما جاء في الآية الكريمة، ثُمَّ يتحدّثون عن آيات أخرى في هذا المجال.
وقد يذكرون ـ في معرض الحديث عن الإعجاز القرآني ـ نظامه وتشريعه المعجز الذي أثبت قدرته على الصمود والاستمرار أمام التطورات والمتغيرات الحياتية، فلم يعرض عليه أي خلل في حل مشاكل الإنسان والحياة، بل استمرت الأصالة الإسلامية في التشريع ثابتة من أجل أن يتطور الإنسان نحو المستقبل الأفضل بدلاً من أن يتطور نحو الانحراف.
ثُمَّ تتنوّع الأحاديث في قضية الإعجاز حتى تصل إلى الإعجاز العددي الذي يعتمد على اكتشاف التناسب العددي في ألفاظ القرآن الكريم، فنجد تساوياً في عدد المرات التي ذكرت فيها الدنيا مقارناً بعدد مرات ذكر الاخرة، إذ تكررت كلّ منهما 115 مرة على الرغم من اختلاف مواردهما، ونلاحظ تساوياً في عدد ذكر الملائكة وعدد ذكر الشياطين، إذ وردت كلٌّ منهما 88 مرة، وهكذا تتسع الشواهد حتى تشمل الكثير من كلمات القرآن مع اختلاف مواردها وتنوّعها.
أمّا ملاحظتنا على ذلك فهي، أنَّ هناك أسلوبين في قضية إثبات صدق النبيّ (ص) وصدق القرآن.
الأسلوب الأول: هو الأسلوب الذي يعتمد على الحوار الهادىء، فيثير الفكرة المضادّة أمام البحث ويناقشها ويحاكمها ويستمع إلى ردود الفعل المختلفة فيرجع إلى الفكرة من جديد.. وهذا هو الأسلوب الغالب في القرآن، حيث نجد أمامنا الحوار الذي أداره مع الكافرين في التهم التي وجهت إلى شخص الرسول في صفاته الذاتية من جهة، وإلى القرآن وعلاقته باللّه أو بالرسول من جهة أخرى، فقد حدّثنا عن صفة الشاعر والساحر والمجنون وغيرها من الصفات التي أثيرت حول شخص الرسول للتهوين من شأنه، وللتخفيف من تأثيره، وكان للأسلوب القرآني الحكيم، الجوّ الهادىء الذي يتابع الكلمات بروح هادئة، أو بكلمات قوية واضحة، ليعين الآخرين على التأمّل العميق من موقع الفكر المسؤول.
وقد أثيرت حول القرآن عدّة أفكار سلبية في مجتمع الدعوة الأول، منها أنه من تعليم البشر، وكانت الفكرة تشير إلى غلام رومي في مكة كان النبيّ يجلس إليه في بعض الأوقات وذلك هو قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل:103].
ومنها: أنه من وحي الثقافة الذاتية المكتسبة بالقراءة والكتابة، وذلك هو قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48].
ومنها: اعتبار القصص القرآني من أساطير الأولين اكتتبها النبيّ فهي تملى عليه بكرةً وأصيلاً. وذلك قوله تعالى: {وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الاَْوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيل} [الفرقان:5].
وقد أثار القرآن قضية المصدر الإلهي للقرآن، من خلال الدعوة إلى التدبر فيه لاكتشاف الوحدة الفكرية التي تربط بين كلّ آياته على الرغم من اختلاف موضوعاته، وتباعد أزمان نزوله، وذلك هو قوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافاً كَثِير} [النساء:82].
كما عالجها من ناحية أخرى، فركز على الدعوة إلى دراسة تاريخ النبيّ (ص) قبل الدعوة، وخلوِّه من أية إشارة إلى ما استقبل به النّاس من القرآن والدعوة والعمل، مقارناً بتاريخه بعد الدعوة، على أساس أنَّ أية فكرة يهجس بها الإنسان أو يعمل على إثارتها في حياته وحياة الآخرين، لا بُدَّ من أن تظهر على فلتات لسانه أو تصرفاته العملية، لأنَّ الإنسان لا يستطيع أن ينفصل عن شخصيته الفكرية والروحية مهما جاهد في إخفاء ملامحها ونوازعها وأطماعها، ولا سيما إذا كانت القضية في حجم الرسالة الإسلامية وتطلعاتها المستقبلية، مما يصعب على الشخص أن يبتعد عن تأثيراته في حياته العملية وذلك في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَـكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَ} [الشورى:52]. {قُل لَّوْ شَآءَ اللّه مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس:16].
وقد نستطيع الحديث عن صدق النبيّ (ص) في رسالته، وفي قرآنه، من خلال الدراسة الموضوعية الشاملة التي تدرس حياة النبيّ في نشأته، وبيئته، وعلاقاته العامة والخاصة، للتعرّف على المؤثرات التي يمكن أن تكون قد ساهمت في صنع شخصيته المستقبلية بكلّ ما تشتمل عليه من دعوات وأحداث، مع المقارنة بما يشتمل عليه القرآن، وما تتسع له الشريعة الإسلامية من حقائق كونية، ومفاهيم حياتية، في جميع مجالات الحياة، لننتهي إلى النتائج الحاسمة التي تربط القرآن باللّه وتبعده عن الانتساب إلى محمَّد (ص).
الأسلوب الثاني: هو أسلوب التحدّي الذي يعتمد على الصدمة الفكرية أو الحسية التي تحيط بالإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله، في عملية تشديد وتهويل وإثارة، فتتحدّى فيه كلّ طاقاته، لتعرّيه أمام نفسه وأمام الآخرين، ليتصاغر أمام جبروت القدرة، ويستسلم لرسالتها وشريعتها على أساس الشعور بالعجز المطلق أمام القدرة المطلقة.
وعلى ضوء ذلك، نجد أنَّ التحدّي القرآني لم ينطلق إلاَّ في إطار الجوّ الذي يملك المشركون أمر التحرّك فيه، وهو الجانب البياني، أمّا الجانب العلمي أو التشريعي أو الغيبي، فهو من الجوانب التي تنهض دليلاً على صدق القرآن في إطار الأسلوب الأول الذي يتميّز بالحوار الهادىء الذي يريد للفكر أن يناقش الموقف بموضوعية وهدوء وليس في إطار التحدّي، لأنَّ التحدّي لا يعني شيئاً في المجال الذي لا يملكون أمر المعرفة له، فقد يكون لهم أن يعتذروا بعدم الاختصاص أو بغير ذلك من الأمور التي تمنعهم من مواجهته بمثله.
وقد يُقال إنَّ التحدّي موجّه للنّاس كافة، فلا بُدَّ من أن يكون في إطار يشمل كلّ الجوانب التي يمكن أن تثار أمام النّاس، بمختلف فئاتهم، في أجواء التحدّي.
ولنا أن نجيب أولاً: إنَّ التحدّي لا يمكن أن يتحرّك في فراغٍ في عصر نزول القرآن، بل لا بُدَّ له من أن يتوجه إلى النّاس المعاصرين للدعوة باعتبارهم القوّة التي تحتاج إلى صدمة التحدّي لتلقي سلاحها أمام الدعوة الجديدة. ويمكن لهذا التحدّي أن يثبت وجوده ويستمر في كلّ المجالات، وليس من الضروري أن يتّسع التحدّي لكلّ الاختصاصات، بل يكفي فيه أن يكون معجزاً ولو في بعض المجالات التي تثبت ارتباط الرسول بالقوّة الإلهية، كما نلاحظ ذلك في معاجز سائر الأنبياء.
وثانياً: إننا نلاحظ أنَّ التحدّي قد طرح فكرة الإتيان بسورة واحدة، أو بعشر سور مثله، ونحن نعلم أنَّ في السور القرآنية، ولا سيما السور الصغيرة منها، ما لا يشتمل على أية قضية علمية أو تشريعية أو غيبية، فكيف يمكن أن يكون التحدّي منطلقاً في هذه الاتجاهات. أمّا الآية التي تحدّت بالقرآن، فلا يظهر منها أنَّ المقصود فيها بالقرآن هو مجموع ما بين الدفتين، بل الظاهر هو غير ذلك، باعتبار أنَّ هذه الآية هي جزء من القرآن، كما أنَّ نزولها لم يكن في آخر عهد النبيّ (ص)، بل ربما كان في وقت قريب من بداية الدعوة، كما توحي به طبيعة التحدّي في مراحله الأخيرة السابقة، وقد نستطيع تأكيد ذلك بما قرره العلماء، وهو أنَّ مصطلح القرآن يطلق على الآية، وعلى السورة، وعلى المجموع، فلعلّ المراد منه الطبيعة القرآنية بنوعها في خصائصها الذاتية من دون نظر إلى كمية الآيات قلةً وكثرةً.
ثُمَّ إنَّ قضايا العلم والغيب لا يمكن أن تكون مجالاً للتحدّي من خلال شخصية النبيّ، وطبيعة البيئة التي عاش فيها، ونوعية المرحلة الفكرية التي وصل إليها عصره. أمّا من ناحية طبيعة الموضوع، فلا مجال للتحدّي، لأنَّ الوصول إلى هذه النتائج ـ ولا سيما العلمية ـ لم يعجز الإنسان في الماضي ولا في الحاضر، وقد وصل الإنسان إلى بعض الأفكار في مجتمع غير مجتمع النبيّ، سواء في عصره أو في العصور المتأخرة عنه، وهذا ما لا تستجيب له آيات التحدّي في القرآن، لأنَّ الظاهر منها انطلاق التحدّي من الطبيعة القرآنية للكلمة بعيداً عن شخصية النبيّ وظروفه الموضوعية وطبيعة المرحلة الفكرية للمجتمع، وهناك نقطة جديرة بالتأمّل نثيرها أمام الإعجاز بالغيب، فإنَّ الغالب في الأحاديث التي تفسر آيات الغيب ببيان أسباب النزول، أنّها منقولة بطريق الأخبار الظنية التي لا تفيد قطعاً وقناعة حاسمة بالنسبة للخصوم، مما لا يدع مجالاً لإقناع الآخرين بذلك، لأنَّ بإمكانهم أن يفسروا الآيات بما لا يتناسب مع هذه الفكرة. هذا مع التحفظ الشديد لكثير مما يثار في تفسير القرآن بالنظريات العلمية مما لا مجال لبحثه الآن، لأننا بصدد بحث في التفسير لا في علوم القرآن.
* * *
وقفة مع السيِّد الخوئي:
وما دمنا في حديث عن الإعجاز القرآني، تجدر بنا الإشارة إلى موضوع أثاره أستاذنا المحقق الخوئي ـ قدس سره ـ في كتابه القيّم «البيان في تفسير القرآن» في حديثه عن الفرق بين معجزة النبيّ في قرآنه وبين معجزة سائر الأنبياء، بخلود معجزة الإسلام، وهو القرآن، وانقطاع معجزة غير الإسلام من الأديان الأخرى انطلاقاً من خلود الإسلام في الزمن وعدم خلود غيره. قال ما نصه: «قد عرفت أنَّ طريق التصديق بالنبوّة والإيمان بها ينحصر بالمعجز الذي يقيمه النبيّ شاهداً لدعواه، ولما كانت نبوءات الأنبياء السابقين مختصة بأزمانهم وأجيالهم، كان مقتضى الحكمة أن تكون معاجزهم مقصورة الأمد ومحدودة، لأنها شواهد على نبوءات محدودة، فكان البعض من أهل تلك الأزمنة يشاهد تلك المعجزات فتقوم عليه الحجة، والبعض الآخر تُنقَل إليه أخبارها من المشاهدين على وجه التواتر فتقوم عليه الحجة أيضاً. أمّا الشريعة الخالدة، فيجب أن تكون المعجزة التي تشهد بصدقها خالدة أيضاً، لأنَّ المعجزة إذا كانت محدودة قصيرة الأمد، لم يشاهدها البعيد، وقد تنقطع أخبارها المتواترة، فلا يمكن لهذا البعيد أن يحصل له العلم بصدق تلك النبوّة، فإذا كلّفه اللّه بالإيمان بها كان من التكليف بالممتنع، والتكليف بالممتنع مستحيل على اللّه تعالى، فلا بُدَّ للنبوّة الدائمة من معجزة دائمة»[1].
أمّا تعليقنا على ذلك فمن جهتين:
1 ـ إنَّ القضية التي أثارها سيِّدنا الأستاذ لا تدور مدار الخلود وعدمه، بل تتحرك في إطار إمكانية حصول التواتر وعدم حصوله، وهذا أمر مشترك بين الشريعة الخالدة والشريعة المحدودة بزمن طويل يرقى إلى مئات السنين، فإنَّ من البعيد أن نحصل على التواتر في جميع الطبقات في المدّة المتطاولة التي قد ترقى إلى خمسمائة سنة أو أكثر، كما في رسالة المسيح (ع)، وفي هذه الحال، يعود السؤال في تلك الشريعة: كيف يمكن أن يكلّف اللّه النّاس بالإيمان بها مع عدم إمكان ثبوت المعجزة لهم بالمشاهدة والتواتر؟ فإذا قيل بإمكانية حصول التواتر في ذلك المقدار من الزمان فلنا أن نقول به في الزمان الأكثر.
2 ـ إننا نعتقد أنَّ هناك أساليب عقلية لإثبات النبوّة من طريق المحاكمات الفكرية التي جاءت بها الرسالات، مما يشهد بصدق النبوّة، غير المعجزة التي تأخذ جانب التحدّي. ولعلّ التاريخ النبوي يدلنا على أن المعجزة ـ التحدّي، لم تكن هي الأساس في إيمان النّاس بالنبيّ والنبوّة، بل كانت هناك عناصر أخرى غيرها، من معاجز آنية، أو معادلات عقلية، كما نجد ذلك في رسالة نوح التي كانت معجزتها الطوفان في نهاية عهدها الرسالي مع قومه، وفي رسالة إبراهيم التي كانت معجزتها الوقوع في النّار من دون احتراق في وقت متأخر جداً عن ذلك، وهكذا نجد في كثير من الرسالات الأخرى التي لم يحدّثنا القرآن الكريم فيها عن وقوع معاجز محددة في بدايات الرسالة. ونعتقد أنَّ شخصية النبيّ في قداستها وامتدادها، وأنَّ النبوّة في مضمونها الرحب العميق، عندما تتحوّل إلى تيار جارف في الحياة العامة، تحققان القناعة والانطباع العفوي لدى الآخرين بصدق الرسول والرسالة.
إننا نحبّ إثارة هذه النقطة للمناقشة، كمحاولةٍ للخروج من الإطار الكلامي الذي درج عليه العلماء في تفسيرهم لقضية النبوّة وربطها بمعجزة التحدّي، وإهمال الطرق العقلية، كأساس للإيمان.
وقد أثرنا هذه المباحث في نطاق تفسير الآية باعتبار ما نستفيده منها من طبيعة التحدّي القرآني. وقد بقيت أمامنا أبحاث أخرى في العناصر الأساسية للإعجاز وفي الشبهات التي تثار حوله، قد تأتي في مجال آخر في ما نستقبله من تفسير لآيات القرآن وسوره، إن شاء اللّه.
(1)البيان في تفسير القرآن، ص:43.