] وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * إِنَّ اللّه لاَ يَسْتَحْي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللّه بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّه بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه وَكُنتُمْ أَمْواتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[ (25ـ28).
* * *
مناسبة النزول:
جاء في أسباب النزول عن ابن عباس في رواية أبي صالح: لما ضرب اللّه سبحانه هذين المثلين للمنافقين يعني قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَار} ، وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ} قالوا: اللّه أجلّ وأعلى من أن يضرب الأمثال، فأنزل اللّه هذه الآية.
وجاء في رواية عطاء عنه، قال: وذلك أنَّ اللّه ذكر آلهة المشركين فقال: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئ} [الحج:73].. وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت، فقالوا: أرأيتم حيث ذكر اللّه الذباب والعنكبوت، في ما أنزل من القرآن على محمَّد، أي شيء يصنع بهذا؟ فأنزل اللّه هذه الآية[1].
قد يكون السبب في نزول هذه الآية هو ما ذكر في هذا الحديث، وقد لا يكون ذلك هو السبب، فإننا لا نثق بالكثير مما ينقل عن أسباب النزول، ولا سيما مع اختلاف الرِّوايات، كما في هذا المورد.
* * *
بشارة الآخرة:
لقد جرى الأسلوب القرآني على الحديث عمّا ينتظر المؤمنين من رضوان اللّه وثوابه جزاءً لإيمانهم وعملهم الصالح في كلّ مورد يتحدّث فيه عن الكافرين وعمّا ينتظرهم من عذاب النّار جزاءً لكفرهم وطغيانهم. وقد جرت هذه الآية على هذا الأسلوب، بدعوة النبيّ (ص) إلى تبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجنّات التي تجري من تحتها الأنهار، والتي تشبه أثمارها أثمار الدنيا، حتى يخيّل إليهم أن هذه الثمرات امتداد لما كانوا يجدونه منها في الدنيا لتشابهها. ثُمَّ يحدّثنا اللّه عن المتع الحسية التي تنتظرهم في الآخرة، وذلك في ما يعدّه لهم من أزواج مطهّرة، بكلّ ما تعنيه كلمة الطهارة من معاني الروح والجسد، حيث تتمّ لهم بذلك نعم اللّه وألطافه في حياة خالدة لا شقاء فيها ولا فناء، بل هو الخلود السابح في رحمة اللّه ورضوانه.
* * *
اللذة الحسيّة لا تتنافى والسموّ الروحي:
وقد يثير بعض النّاس في هذا المجال تساؤلاً عن مدى إمكانية انسجام الجانب الحسي للمتع التي يَعِدُ اللّه بها عباده في الآخرة، من لذائذ الطعام والشراب والجنس وغيرها، وطبيعة الآيات التي تعرّضت لذلك بالجانب الرمزي، الذي يعبر عن المداليل المعنوية بالكلمات التي توحي بالمعاني الحسية كأسلوب من أساليب تقريب الفكرة إلى الأذهان، لأنَّ الإنسان الذي يعيش عالم الحس، لا يستطيع إدراك عالم المجردات والمعاني في إطاره المادي الذي يعيش فيه، لأنَّ الصورة الفكرية تابعة للمشاهدات الحسية، في ما يُراد تجسيد الصورة له في وجدان الإنسان وفكره، فتنطلق المحاولة باعتماد وسائل الإيضاح الحسية، تماماً كما هو الأسلوب العملي في تربية الأطفال، لنقل المعاني إلى وجدانهم من خلال الصورة المجسدة عندهم، والمعروفة لديهم.
ولا ندري ما هو السبب في هذا كلّه؛ هل هو الفكرة التي ترى في الجانب الحسي شيئاً لا ينسجم مع طبيعة الجنّة باعتبار ما يستلزمه ذلك من إفرازات جسدية لا تتناسب مع قداستها، أم هي الفكرة التي تجعل من الجنّة والنّار رمزين لحقيقتين معنويتين يمثّلان الإحساس الروحي بالرضى والسعادة، أو بالقلق والتعب والشقاء؟ ولكنَّنا لا نستطيع الاقتناع بذلك، لأنَّ الفكرة الأولى قد تكون خاضعةً للرأي الذي يعتبر الملذّات الحسية شيئاً يتنافى مع السمو الروحي الذي تمثّله الدار الآخرة، لأنَّ المادة تمثّل القذارة والانحطاط، ولكنَّها فكرة غير إسلامية، لأنَّ الإسلام لم يرفض المادة من خلال طبيعتها أو إفرازاتها، بل جلّ ما رفضه منها، ليس ما يتصل بها مباشرة، وإنما ما يتصل بموقفنا الإنساني منها لجهة الاستغراق في لذائذها بالمستوى الذي يُبعدنا عن اللّه ويدفعنا إلى تجاوز حدوده وعصيان أوامره.
وهذا ما نستطيع استخلاصه من الآيات الكريمة التي وجهت الإنسان إلى المتع الحسية في الآخرة كبديل عن الحرمان الذي يعانيه من رفض ما يرفضه من محرّماتها، إلى جانب المتع الروحية التي وعد اللّه بها المتقين، وذلك في أمثال قوله تعالى: {وَرِضْوانٌ مِّنَ اللّه أَكْبَرُ} [التوبة:72]. ولذا لا نجد أي مبرر لتشويه تصوّر الإنسان للجانب الحسي أو المادي من حياته، ولا سيما في الإطار التربوي الذي يُراد به بناء الشخصية الإسلامية المتكاملة للإنسان. نعم، ما يجب الالتفات إليه دوماً، هو أن تكون العلاقة مع هذا الجانب علاقة متزنة ومتوازنة لا يشوبها الاستغراق، ولا تحول بين الإنسان وبين التطلع نحو اللّه سبحانه وتعالى، بحيث تشكل حجاباً يغلّف بصره وبصيرته، فلا يعود ينظر إلى الأمور كما هي، ويفتقد معها التوازن الأخلاقي ولا سيما في شخصيته.
* * *
الدنيا والآخرة ليستا عالمين متضادّين:
أمّا الفكرة الثانية، فقد يكون الأساس فيها، هو اعتبار عالم الآخرة عالم الروح في مقابل عالم الدنيا الذي هو عالم المادة، ولكنَّنا لا نجد لذلك أيّ أساس فكري في المفاهيم الإسلامية، لأنَّ التجريد الروحي الذي يمثّل انفصالاً كاملاً عن المادة بأشكاله المتنوّعة، والذي يمثّل الفكرة التي تعتبر الجسد سجناً للروح، يرجع إلى الفلسفات اليونانية والهندية، ولا يرتبط بالفكرة الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة. أمّا ما نشاهده من تقرير هذه الفكرة في كتب بعض الفلاسفة المسلمين، فليس ناشئاً في أغلب الظنّ من المصادر الإسلامية الأصيلة، بل هو مرتكز على تأملات ذاتية مستمدة من ثقافات فلسفية سابقة.
ونحن لا نمانع في وجود ظلال لهذا التفكير في بعض اللمحات الخاطفة من مصادر الفكر الإسلامي مما يمكن أن يتعلّق به الإنسان في تقرير الفكرة، ولو من بعيد، لكنا نريد تأكيد قضية حيوية جداً في دراستنا للفكر الإسلامي، في مفاهيمه وشريعته، وهي أنَّ الظواهر القرآنية هي الحجّة التي ندين للّه بما تكشفه لنا من حقائق الإسلام ومفاهيمه، إلاَّ أن يقوم عندنا دليل آخر على خلاف ذلك من عقل أو نقل. وعلى ضوء هذا، نرفض كلّ الأفكار الباطنية التي حاولت تفسير الآيات القرآنية تفسيراً رمزياً، لا يستند إلى أسس عقلية أو شرعية، بل يرتكز على تأملات فلسفية، أو شطحات صوفية..
* * *
للذين آمنوا جنات تجري من تحتها الأنهار:
وبشر اللّه في هذه الآيات {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} تتنوّع، وتمتد أشجارها وأثمارها، وتتحرّك كلّ جمالاتها، بما ينعش الروح، ويسحر البصر، ويأخذ باللبّ؛ {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} المتدفقة بالحياة الصافية، العذبة، الرقراقة، التي تمنح الأرض الخصب والنموّ والحياة، لتنبت من كلّ زوج بهيج، ولتهتز بالخضرة المعشوشبة والثمار اللذيذة.
{كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْق} وتناولوه بأيديهم، وحدّقوا فيه، وفي خصائصه، وفي حجمه، ولونه، وشكله، وتلذذوا بطعمه في عناصره الحلوة الشهية، {قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} في الدنيا فلم يتغيّر علينا شيء مما ألفناه وعرفناه من الثمار، {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِه} يشبه بعضه بعضاً في الشكل، ولكنَّه يختلف في طبيعته، أو يشبه ثمار الدنيا، مع تميّزه عنها في الجودة، أو يشبه بعضه بعضاً في الجودة، ذلك أنّ لثمار الجنّة خصائصها التي تتميّز عن كلّ ما في الدنيا من لذة، كما قال اللّه في الحديث عن كلّ ما في الجنّة مما ينتظر المؤمنين والمؤمنات: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِي لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]، فلا يعرف الإنسان ماذا يتخير منها.
{وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَجٌ مُّطَهَّرَةٌ} من قذارة الروح والجسد، وربما أريد بهنّ الأبكار بقرينة ما ورد في القرآن عن الحور العين كما في قوله تعالى: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاب} [الواقعة:35ـ37] فتكون الطهارة كناية عن البكارة على هدى قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن:56]. وربَّما يُقال: إنَّ الأزواج جمع زوج، والزوج يطلق على الرّجل والمرأة فيُقال لكلّ واحدٍ منهما زوج، فتكون الآية مسوقة للحديث عن أزواج الرجال المؤمنين من النساء المطهرات، وعن أزواج النساء من الرجال المطهرين، ويكون تأنيث مطهرة بلحاظ الجمع وفيه خفاء. {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، لأنَّ الجنّة هي دار البقاء من خلال ما يعلمه اللّه من ذلك في ما قدره لعباده في الآخرة.
* * *
الأمثال في القرآن:
{إِنَّ اللّه لاَ يَسْتَحْي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللّه بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} .
إنَّ الآية توحي بوجود حالة نفسية تحاول أن تُفصح عمّا في داخلها من حالة ريب أو اعتراض على ما يورده اللّه من الأمثلة المتعلّقة بصغار الأمور وكبارها. وربَّما أمكن للإنسان أن يستوحي منها وجود موقف مضادّ، على أساس فكرة خاطئة تربط بين عظمة المتكلّم وحجم القضايا التي يتحدّث عنها، فكانت هذه الآية التي ترفض هذه الفكرة، وتقرر مبدأ ضرب المثل، في صغير الأمور وكبيرها، بطريقة حاسمة، كأسلوب قرآني بارز في أغلب السور، بعيداً عن كلّ وهم يعتبر ذلك بعيداً عن مقام اللّه وعظمته، لأنَّ دور المثل هو أن يقرّب الصورة للنّاس ما يعيشونه في حياتهم، وفي ما يمارسونه من أعمالهم، لتقترب بذلك الفكرة التي يُراد بها هدايتهم للحقّ من غير فرق في ذلك بين الصغير والكبير، لأنَّ القضية ليست قضية صاحب المثل، بل هي قضية الفكرة التي يثيرها في حياة النّاس، وفي أفكارهم، مما يدعو المتكلّم إلى أن يتلمّس كلّ الأشياء التي تشارك في توضيح الصورة وتقريب الفكرة.
وعلى ضوء ذلك، لم يكن أسلوب ضرب الأمثال بدعاً من الأساليب، بل هو نموذج من الأساليب العامة التي يتداولها المتكلّمون في الإقناع والهداية والتوجيه للنّاس، من أجل أن تجد الكلمة مجالاً في وجدانهم إذا واجهوها من موقع المسؤولية، فترى المؤمنين يتقبّلونها بإيمان وإذعان، لأنهم يعرفون كيف تتحرّك الكلمة، وكيف تتجه من موقع الفكر المتأمّل، فلا يخالجهم شك في طبيعتها وفي عطائها.
أمّا الكافرون الذين لم تنفتح قلوبهم للحقّ، ولم يعيشوا مسؤولية الكلمة في حياتهم، فلا يحاولون أن يتفهموا وجه الحقّ في ذلك؛ بل يعملون على التهرب من مواجهة المسؤولية بإثارة الاعتراضات والتساؤلات التي لا يريدون بها إلاَّ المشاغبة والتشكيك بعيداً عن أية رغبة في المعرفة، أو نزوع إلى الإيمان، فيثيرون القضية في سؤال يوحي للآخرين بأنهم لم يفهموا ماذا أراد اللّه بهذا المثل.
وقد نستوحي من خلال هذا التساؤل أنهم يريدون التهرب من الحقائق الصارخة التي يجسّدها المثل، لا سيما في النيل من معتقداتهم وتضليلاتهم وكفرهم ونفاقهم، فيواجهونه مواجهة عدم الفهم إمعاناً في الهروب من تحدّيات الحقّ ـ الذي تمثّله الرسالة ـ للباطل المتمثّل في خطواتهم الكافرة والضالة، تماماً كما نشاهده في بعض الجماعات الكافرة التي تثير الضباب أمام الحقائق الدامغة بطرح الأسئلة التي تجعل القضية تتحرّك في أجواء بعيدة عن الحوار الجديّ العميق.
ولكنَّ اللّه، سبحانه وتعالى، يواجه هذا التساؤل بالجواب الحاسم، فيوحي ـ من خلال الآية ـ بأنَّ دور المثل هو إقامة الحجّة للحقّ على النّاس، باعتباره أسلوباً حياً من أساليب الاحتجاج للفكرة، فأمَّا المؤمنون فيتقبلونها بوعي لأنهم ينفذون إلى أعماقها، فتنفتح لهم منها آفاق المعرفة والإيمان، فيهتدون بها، وأمّا الكافرون فيهربون منها فيضلّون بها. ثُمَّ حدّد لنا هؤلاء الذين يتجهون إلى الضلال أمام هذه الأمثال، فوصفهم بالفاسقين الذين يتجاوزون الحقّ إلى غيره.
أمّا نسبة الضلال والهدى إلى المثل الذي ضربه اللّه للنّاس، وأراد أن يضل به الكثير ويهدي به الكثير، على حسب مضمون الآية، فلعل الوجه فيه هو أنَّ وجود الحجّة يحدّد للنّاس الموقف الذي يقفونه من قضايا الكفر والإيمان والهدى والضلال، فيهتدي به من ينسجم معه، ويضلّ به من يبتعد عنه، تماماً كما يقول النّاس إنَّ التجربة والامتحان يسقطان النّاس أو ينجحانهم، مع أنَّ القضية هي أنَّ النّاس يسقطون أمام التجربة بالابتعاد عن أسس النجاح، وينجحون معها بالاقتراب من ذلك، فهي السبب لكلا الموقفين، باعتبار أنها القاعدة التي أطلقت الموقف هنا وهناك، وبذلك تبتعد الآية عن ملامح الفكرة الجبرية التي تربط الضلال باللّه بشكل مباشر.
{إِنَّ اللّه لاَ يَسْتَحْيِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَ} أي: لا يدع ضرب المثل استحياءً من حقارة الموضوع الذي يتعلّق به لعدم تناسبه مع موقع العظمة في ذاته، لأنَّ طبيعة المثل، في موضوعه، تتصل بالفكرة التي يُراد تقريبها للذهن الإنساني، من خلال الصورة الحسية المتمثّلة في وجدانه؛ فقد تفرض حديثاً عن الأشياء الحقيرة لأنها أكثر تمثيلاً للفكرة، كما هي البعوضة التي ضربها اللّه مثلاً لعجز المستكبرين الذين يضعون أنفسهم في موقع الآلهة، فلا يملكون أن يخلقوا الذباب، أو يسترجعوا ما يسلبهم الذباب من الأشياء المتصلة بحياتهم مما يحافظون عليه[2]، وكما هي الحال في العنكبوت الذي ضرب اللّه مثلاً ببيته تمثيلاً للبيوت التي لا ترتكز على أساس، وقد تفرض حديثاً عن الأشياء الكبيرة كما في مثال: {كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} .
{فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُو} باللّه وانفتحوا على آياته وتدبّروا معانيها، وعرفوا مقاصدها وإيحاءاتها، وانطلقوا في وعيهم الفكري إلى أعماقها، فلم يتوقفوا عند البُعد السطحي لها، {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} ، من خلال ما يستوحونه منها في ما يريد اللّه لهم أن يفهموه ويؤمنوا به، لأنَّ إيمانهم يربطهم بالحقائق الإلهية التي توحي بها آياته التي أنزلها في كتابه؛ {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُو} وابتعدوا عن وعي الحقّ، واتخذوا من الرسالة والرسول موقفاً سلبياً متمرّداً، وواجهوا الموقف بالسخرية والعبث وأساليب اللعب، وحرّفوا الكلمة عن موضعها، وأبعدوا الآيات عن معانيها العميقة، {فَيَقُولُونَ} ، تعليقاً على الأمثال المتعلّقة بالأشياء الحقيرة كالبعوضة والعنكبوت، {مَاذَآ أَرَادَ اللّه بِهَـذَا مَثَل} أي: ما الذي يريده اللّه بهذا المثل، وكيف يتناسب مع عظمته؟ ما يؤدي إلى التشكيك بصدوره منه، لتنتهي المسألة إلى الشك بالنبيّ محمَّد (ص)؛ {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرً} من الذين لا يقفون منه موقف المتدبر الواعي الذي يواجه القضايا من خلال عناصرها الطبيعية في مداليلها وإيحاءاتها، بل يقف منها موقف المعقّد الجاحد المتمرّد الذي يحاول أن يجد في الإيجاب سلباً، وفي القوّة ضعفاً، وفي الحقّ باطلاً، فيتحرّك في درب الضلال الذي سلكه بسوء اختياره وعدم تفاعله مع الخطّ الذي يقوده نحو الهدى؛ {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرً} من المؤمنين الذين آمنوا باللّه ورسله ورسالاته وكتبه، فاهتدوا بآياته التي فهموها كما يجب أن يفهموها، واستوحوها في كلّ ما تختزنه من إيحاءات الهدى في كلّ دروب الحياة وآفاقها وتطلعاتها؛ {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} الخارجين عن عبوديتهم للّه والتاركين طاعته، والمنحرفين عن خطّ الاستقامة في دروب هداه.
أمّا نسبة الضلال والهدى إلى اللّه من خلال ضربه المثل، فقد يكون الأساس فيه هو أنَّ المثل الذي ضربه اللّه كان السبب الحيّ لحركة التجربة الإنسانية في طبيعة الاختيار الخيّر أو الشرّير، فلو لم يطلق اللّه سبحانه هذا المثل الذي يوحي بالمعاني التي يريد للإنسان أن يفهمها ويؤمن بها، لما انطلق الضالّ نحو الضلال بإرادته، ولما تحرّك المهتدي نحو الهدى باختياره. وفي ضوء ذلك، فإنَّ علاقة اللّه بالضلالة والهدى، لا تعطل الإرادة الإنسانية في الاختيار المسؤول، كما أنَّ حركة الإنسان في المسألة لا تبعد اللّه عن حياة عباده في أقوالهم وأفعالهم على أساس القاعدة العقيدية الواردة عن أئمة أهل البيت (ع): «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين».
* * *
قيمة الوفاء بالعهود في الإسلام:
{الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّه بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . هذه هي بعض ملامح الفاسقين التي أراد اللّه ـ من خلال الآية ـ أن يجسدها في وعي النّاس، ليعرفوا كيف ينطلق الفسق في حياة بعضهم، ليهدّم الركائز الأساسية التي يستند إليها كيان المجتمع. أمّا أبرز هذه الركائز فأمور ثلاثة:
1 ـ الوفاء بالعهود والمواثيق، لأنَّ ذلك هو الذي يؤكّد الثقة بين أفراد المجتمع ويحفظ لهم تماسكهم الاجتماعي.
وعهد اللّه هو الأساس لكلّ هذه العهود، لأنها، في طبيعتها، منطلقة من إيحاءاته، وفي قيمتها، منفتحة على الالتزام به. ولذلك، فإنَّ نقض أيّ عهد يريد اللّه للنّاس أن يفوا به هو نقض لعهد اللّه، وذلك في الالتزامات الشرعية التي ألزم اللّه بها عباده في نطاق العلاقات الإنسانية، من خلال ما فرضه من الحقوق المتبادلة بينهم، أو في الالتزامات الذاتية التي يلتزمها النّاس على أنفسهم في معاملاتهم ومواثيقهم، في قضاياهم العامة والخاصة، لأنَّ اللّه أراد لهم الوفاء بالعقود، فلا بُدَّ للنّاس من أن يقفوا عندها في كلّ خصوصياتها والتزاماتها، لأنَّ اللّه أراد للإنسان في الحياة أن يحرّك وجوده في علاقاته به وبالإنسان الآخر وبالكون من حوله، من خلال الالتزام الوجودي الذي ينطق في كلّ حركته وحيويته بالعبودية للّه، فقد ركّب فيه العناصر التي تصرخ في ذاتها بوحدانيته وتشهد بربوبيته، وهذا ما نطلق عليه الميثاق الوجودي، ومن خلال الالتزامات التفصيلية في مسؤولياته مع النّاس، ومع الحياة العامة والخاصة، التي تنطلق طاقاته لتمثّل الالتزام الواقعي بانفتاحه على الآخرين، وعلى مفردات الواقع التي هي بحاجة إليه، وهذا ما يعني بالدرجة الأولى إعطاء العهد من نفسه على أن يكون الإنسان المسؤول عن كلّ شيء يتكامل معه أو يحتاج إليه.
وهكذا نجد أنَّ اللّه يطالب عباده بقوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة:40] فهناك عهد بين اللّه وبين عباده بأن يوحّدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأن يطيعوه ولا يعصوه، وأن يستقيموا على خطّه وشريعته التي تمثّل الاستقامة على خطّ توحيده، ليرعاهم ويرزقهم ويرحمهم ويمنحهم ثوابه وجنته، وهذا ما نتمثّله في قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بنِى ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس:60ـ61]. وقال تعالى: {وَكَانَ عَهْدُ اللّه مَسْؤول} [الأحزاب:15] وقال تعالى: ] وَبِعَهْدِ اللّه أَوْفُواْ[ [الأنعام:152] وقال: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّه وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد:20] فدعا إلى الوفاء بعهده في شمولية الالتزام بخطّ العبودية المنطلق مع التوحيد في كلّ خطوات الإنسان وتطلّعاته في الحياة. وتحدّث عن الذين {يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّه} [البقرة:27] وعن الذين {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم} [البقرة:100].
وتحدّث عن نفسه أنه الإله الذي لا يفي أحد بعهوده كما يفي بعهده: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّه} [التوبة:111] وقال تعالى: {فَلَن يُخْلِفَ اللّه عَهْدَهُ} [البقرة:80].
ودعا النّاس إلى الوفاء بالعهد بقول مطلق: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُول} [الإسراء:34] وتحدّث عن الصفات الإيجابية في النّاس الذين يرضى عنهم فقال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُو} [البقرة:177]، وقال تعالى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـهَدُواْ اللّه عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيل} [الأحزاب:23].
وهكذا نجد أنَّ اللّه يريد جعل حركة الإنسان في الحياة، حركةَ التزام بينه وبين خالقه، وبينه وبين النّاس، وبينه وبين الحياة، ليتحرّك الإنسان من موقع الإحساس بالمسؤولية المنفتحة على كلّ خير في الحياة، ليجد أمامه عهداً من اللّه بأن يتعهده بكلّ رحمته ولطفه ورعايته في الدنيا والآخرة، ما يجعل لديه الطمأنينة الروحية والسكينة الحياتية، ويبتعد عن الشعور باللامبالاة، فهو الإنسان الملتزم بأن يقدّم طاقاته كلّها للنّاس وللحياة، وأن يخضعها لإرادة اللّه تعالى الذي سخّر الحياة له، وعاهده بأن يحقّق له ما يشاء في خطّ الحكمة، والرعاية الربوبية، في الدنيا والآخرة.
2 ـ المحافظة على الروابط الروحية والاجتماعية، فإنها تشدّ أواصر المجتمع وتجعله وحدة متماسكة بعيدة عن أي انقطاع وانفصام في ما يريد من النتائج أو من الأرباح، مع الإيحاء ـ في مثل هذه القضايا ـ بخسارة الإنسان لوجوده مما تفرضه خصائص الوجود في الحياة. وقد تكون الخسارة في إيحاءاتها العملية في الارتباط بينها وبين الكفر، باعتبار أنه يبتعد بالإنسان عن الإحساس بالهدف الكبير للحياة التي أودعها اللّه فيه، وبالمسؤولية الكبرى في تفجير طاقاته الإنسانية في سبيل حاجات الحياة والإنسان الآخر، بحيث يعيش التكامل في وجوده مع النظام الكوني والإنساني، وهذا هو الذي يوحي به الإيمان باللّه الذي يشعر معه الإنسان بأنَّ طاقته ليست حالة ذاتية له، بل هي أمانة اللّه عنده، فلا بُدَّ له من أن يحرّكها في الاتجاه الذي يجعل من حركتها في الوجود صلاةً روحية وجوديةً ترتفع به إلى المستوى الأعلى في درجات القرب من اللّه والسموّ في مدارج الكمال، وهذا ما يخسره الإنسان في خطّ الكفر الذي يحوله إلى إنسان غير مسؤول في وجوده إلاَّ من خلال حاجاته الذاتية التي يختنق فيها في دائرته الضيقة.
3 ـ النزعة الإصلاحية التي تعمل على إصلاح ما فسد من حياة النّاس، ومحاربة تجدّد الفساد وانطلاقه في المجتمع، سواء في ذلك فساد العقيدة أو فساد السلوك والوجدان، وهذا هو سرّ الإيمان في حياة المؤمنين عندما ينطلق في حياتهم ليقوِّي هذه الركائز؛ فهم يحفظون عهد اللّه في كلّ التزاماتهم ومواثيقهم في العقيدة والحياة، ويصلون ما أمر اللّه به أن يوصل في علاقة الإيمان والقرابة والجوار وغيرها، ويصلحون ما فسد في الأرض، ويقفون ضدّ المفسدين، وبذلك يتحوّل الإيمان والفسق إلى عنصرين فاعلين في بناء المجتمع أو تهديمه بدلاً من أن يكونا عنصرين ذاتيين يحكمان النوازع الفردية للإنسان.
وقد حاول المفسّرون البحث في تحديد عهد اللّه بين قائل بأنه ما ركب في عقولهم من أدلة التوحيد والعدل وتصديق الرسل، وقائل بأنه وصية اللّه إلى خلقه على لسان رسوله بما أمرهم به من طاعته ونهاهم عن معصيته، وقد يتجه بعضهم إلى تحديد موضوع الآية بأهل الكتاب، ليكون المراد بعهد اللّه ما أخذه عليهم في التوراة من اتّباع محمَّد (ص)، وقد يبتعد بعضٌ بالآية عن ذلك كلّه، فيعتبره إشارة إلى العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم مثل الذرّ، كما وردت به القصة المعروفة، وردّه بعضهم بأنه ـ تعالى ـ لا يجوز أن يحتجّ على عباده بعهد لا يذكرونه، ولا يعرفونه، ولا يكون عليه دليل.
ولكنَّنا نميل إلى ترك الإفاضة في هذه التفاصيل، لأننا نستوحي من الآية التركيز على الملامح العامة للسلبيات التي ينتجها الفسق في تشويه شخصية الإنسان في الحياة، بعيداً عن التفاصيل، لأنَّ القضية هي قضية الفارق بين نتائج الإيمان ونتائج الكفر في معطياتهما العامّة التي ترسم الصورة من بعيد.
* * *
نقض العهد والفساد في الأرض خسران للنفس:
{الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} الذي يتمثّل في إبداع وجودهم بالطريقة التي يتحمّل فيها الإنسان مسؤولية الخلافة في الأرض، ممّا تحتاجه الحياة في نموّها وحركتها وتطوّرها، بحسب حجمه، الأمر الذي يجعل إفاضة الخلق عليه بهذه الطريقة عهداً تكوينياً أخذه اللّه عليه، مع وعي الإنسان للحقائق التوحيدية من خلال العناصر الذاتية، وانفتاحه على ما أوحى به اللّه إليه على لسان رسله من أوامره ونواهيه. {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ} في نسيانهم للّه، وابتعادهم عن خطّه المستقيم الذي يؤدي إلى السير في دروب الفساد، بما يثيرونه في أقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم ومواقفهم من عوامل الفساد في الأرض، على مستوى الواقع الاقتصادي الذي يفسدون به حركة المال في الإنسان، والواقع الاجتماعي الذي يتحرّك فسادهم فيه، ليؤدي إلى تمزيق المجتمع، وتحللّه الأخلاقي، وانهياره، والواقع السياسي الذي يسقط تحت تأثير الظلم والعدوان الذي يعيش فيه النّاس ظلم الحاكم والحكم والقانون، والواقع الأمني الذي يفتقد فيه النّاس من خلال هؤلاء الأمن في حياتهم الخاصة والعامة، فتدبّ الفوضى عندهم، ويسود الاضطراب وجودهم، وهكذا ينطلق هؤلاء ليتحولوا إلى جهة مفسدة للحياة كلّها، وللإنسان كلّه. {أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الذين خسروا أنفسهم في الدنيا، عندما أبعدوها عن خطّ الاستقامة، فعاشوا التخبط في خطواتهم العملية في السير على غير هدى، وواجهوا المتاعب المتنوّعة في ذلك، وخسروا مصيرهم في الآخرة، في عصيانهم للّه وتمرّدهم عليه، مما يستوجب دخولهم في النّار وبئس القرار.
وربما كان في تأكيد جانب الخسارة الأسلوب الإيحائي، بأنَّ على الإنسان أن يحسب حساب الربح والخسارة، من خلال النتائج الواقعية النهائية للأعمال، لا من خلال النتائج الحسية الأولية لها، ليدرس القضايا التي يتحرّك فيها من موقع الربط بين البدايات والنهايات، والانفتاح على العمق لا على السطح. هذا مع ملاحظة أنَّ التعبير بالخسارة، ينطلق من خسارة الوجود في خسارة الفرص السعيدة التي كان من الممكن أن يبلغها الإنسان إذا أخذ بأسباب الخير في الإيمان والعمل الصالح، فلا يرد السؤال: كيف يتحدّث اللّه عن خسارة ما لا يملكه الإنسان، باعتبار أنَّ مفهومها يعني فقدان ما لديه؟ لأنَّ الجواب عن ذلك بأنَّ المقصود هو أنَّ ما يملكه الإنسان قد يكون على مستوى الفعلية، وقد يكون على مستوى امتلاك الإنسان للفرصة التي يحصل عليها.
* * *
البداية من اللّه والنهاية إليه:
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه} أيها النّاس، وأنتم تملكون العقل الذي يتحرّك من خلال مفردات الحسّ الذي يتزوّد بعناصر الفكر، وطاقة الوعي المتحرّك التي توجهه نحو التأمّل والدراسة والمقارنة بين الأشياء، والاستنتاج الحيّ المنفتح على حقائق العقيدة والحياة. وللعقل أكثر من طريق يؤدي بكم إلى معرفة اللّه من دون حاجةٍ إلى الاستغراق في التجريد الفكري والعمق الفلسفي، لأنَّ الواقع الحيّ الذي تعيشونه في وجودكم، وتتحسّسونه في مشاعركم، هو الذي يمنحكم الإيمان باللّه من موقع الوجدان المنفتح على الفطرة، والفكر المتحرّك في نطاق البديهة. {وَكُنتُمْ أَمْوات} قبل وجودكم، حيث كان العدم هو الأفق الذي يحتويكم في دائرته، فليس هناك أي شيء يربطكم بالوجود في ذاتياتكم، أو في الأسباب الطبيعية التي تفرضها طبيعة الأشياء في ذاتها، الأمر الذي جعل مسألة الحياة بحاجة إلى إرادة الخالق القادر الذي يبدع الحياة في التراب، ويحوّل الدم إلى نطفة، لتتطور النطفة في مسيرة الحياة إلى علقة، فمضغة، فعظام، فلحم، فإنسان سويّ، تتحرّك فيه الروح، وينفتح فيه الإحساس، {فَأَحْيَاكُمْ} ، وكانت الحياة هي التي تختصر تفاصيل وجودكم في الوعي والحسّ والحركة والإبداع والإنتاج، في عملية تكامل مع الوجود الذي ينسجم مع وجودكم، وتفاعل مع الحياة في تنوعاتها، ومع الإنسان الآخر في عطاءاته الكثيرة، وهي التي تنفتح على المسؤوليات التي تجعل لكلّ طاقة قدراً من المسؤولية في بناء الذات على الصورة التي يريدها اللّه وبناء المجتمع على المنهج الذي يرضاه، لتكون الحياة حياة العقل والحس والوعي والانفتاح على الطاقات الداخلية والخارجية للحياة وللإنسان، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} ، لتدخلوا من جديد في غياهب الموت الذي يفصلكم عن هذه الحياة التي أبدعها اللّه فيكم، فيغيب وجودكم عنها، ويبتعد دوركم عن ساحاتها، وينقطع أثركم منها، ولكنَّه ليس الموت الأبدي الذي يموت فيه الوجود بالمطلق، بل هو الموت الذي تعقبه الحياة في أفق آخر، وبعد جديد، وعالم أوسع، هو عالم الآخرة الذي يطل على الغيب ليضعه في متناول الحس الإنساني، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} ، لأنَّ القادر على إبداع الحياة أوّلاً قادر على إبداعها ثانياً، لأنَّ القدرة على الإعادة من موقع المثال الحي أكثر سهولة من إبداع الخلق من دون مثال.
وإذا كان اللّه هو الذي أطلق لكم البداية من إرادته وقدرته، فمنه المبدأ الذي يعيدكم إلى رعايته من جديد. {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لتواجهوا مسؤولياتكم أمامه، ليكون لكم الاستقرار الموعود في ثوابه أو عقابه.
إنها الحقيقة الوجودية الإلهية التي ينطلق الحسّ في دلالاتها، ويتحرّك الإمكان العقلي في نهاياتها، وهي التي تفرض نفسها على العقل ليُعرف اللّه، فكيف تكفرون به وتنكرونه؟
ولما كانت العقيدة باللّه هي الأساس في كلّ هذا الجوّ الذي تتحرّك فيه السورة، في حديثها عن المؤمنين والكافرين والمنافقين، ولما كان الكفر كشيء يدعو إلى التعجب والاستنكار، لا إلى التفكير والتأمّل، لأنَّ القضية أوضح من أن تخفى، لهذا، واجه الموقف بأسلوب الاستفهام الإنكاري الذي يوحي للإنسان بأنَّ رفض الكفر لا يحتاج إلى جهد كبير، بل يكفي فيه الوقوف في حالة تأملية لمراحل وجود الإنسان؛ كيف كان ميتاً لا يحمل أي مظهر من مظاهر الحياة، وكيف دبّت فيه الحياة في عملية دقيقة رائعة في طريقة النمو والتكامل والكمال، وكيف يموت بعد ذلك لينتقل إلى الحياة الواسعة... وهكذا يعيش الإنسان في حياة عقب الموت الذي يعني العدم المحض، فقد وجدت الحياة من عدم، ثم تتجه إلى الموت الذي لا يُغرق الإنسان في الضياع، بل يثير الحياة بقوّة لتقوم قوية جديدة بإذن اللّه الذي ترجع الأمور إليه جميعاً.
هذه الفكرة البسيطة تقدم الإيمان للإنسان ببساطة وجدانية بعيدة عن تعقيدات الفلسفة ومشاكلها، فلا يحتاج معها إلى الالتفات والاستماع والوعي من دون ابتعاد عن نفسه بالذات، فمنها تنطلق العقيدة الحقّة وتنمو وتتكامل، ومن داخل الإنسان ينتقل الموقف إلى رحابة الخلق وإبداعه في رحاب الأرض وآفاق السَّماء، في دعوة إلى التأمّل الذي يقود إلى المعرفة الواسعة بالحياة في الطريق الرحب إلى الإيمان باللّه خالق ذلك كلّه.
(1) انظر: الواحدي، أبو الحسن، علي بن أحمد، أسباب النزول، دار الفكر، 1414هـ ـ 1994م، ص:13.
(2) نلاحظ أن للبعوضة في داخل تكوينها سراً عميقاً يتصل بعظمة الخالق فيها، فقد ورد الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع): إنما ضرب الله المثل بالبعوضة، لأن البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل، مع كبره، وزيادة عضوين آخرين، فأراد الله تعالى أن ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعه. (مجمع البيان، ج:1، ص:84).