من الآية 1 الى الآية 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات
{الر كِتَابٌ أَنزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمواَتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ* الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخرةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَـئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيد* وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1ـ4).
* * *
معاني المفردات
{وَوَيْلٌ}: الويل: الهلاك.
{يَسْتَحِبُّونَ}: يختارون ويؤثرون.
{بِلِسَانِ}:اللسان: اللغة.
* * *
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه
{الر} وهي من الحروف التي تقدم الكلام عنها في أوّل سورة البقرة، {كِتَابٌ أَنزَلْناه إِلَيْكَ} وهو القرآن {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ليشرق بآياته في عقول الناس التي عاشت في ظلام الكفر والخرافة والتقاليد السخيفة، وغرقت في ضباب الجهل، ولتنطلق في حياة الناس رسالةً تنير الدرب للسالكين، وشريعةً تنظم حياتهم، ومنهجاً يسدّد خطواتهم فيها. وهكذا كان دور القرآن دوراً تغييرياً لينقل الناس من المفاهيم المظلمة إلى الحقائق المشرقة، ومن أجواء الجاهلية إلى رحاب الإسلام {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} في ما يخطط لهم من وحيه {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} الذي يوجه الناس نحو الخط المستقيم الذي يؤكده بأسباب القوّة والقدرة، فلا يستطيع أحد أن ينتقص من عزته، أو يسيء إلى جوانب الحمد في ذاته سبحانه.
وقد نستوحي من ذلك أن الله لا يريد للقرآن أن يدفع الناس إلى تغيير مفاهيمهم فحسب، ويحولهم ثقافياً من الجهل إلى العلم، ومن الخرافة إلى الحقيقة، ومن الكفر إلى الإيمان، بل يريد لهم أن يؤكدوا ذاك التحرك في تحريك الواقع من حولهم، لأن الدين ليس حالة ثقافية مجرّدة، بل هو حالة فكرية وروحية تسعى للتغيير عبر خطة واقعية شاملة، تتكامل فيها النظرية والتطبيق. وهذا ما نفهمه من التعبير بشكل مطلق عن الآخراج من الظلمات إلى النور، لأن الناس إذا اكتفوا بالجانب الفكري من المسألة، وتركوا الجوانب الواقعية، فإن الظلمات تبقى متحكمة في حياة الناس ولا يتحقق هدف الرسالة في تحويل الجانب المظلم من حياتهم إلى جانبٍ مشرقٍ. ولعل التأكيد على الصراط في الآية يوحي بذلك.
{اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} فإذا كان يملك ذلك كله، فلا بد من أن يملك التصرف في تنظيم حياة الإنسان على الأرض، لتنسجم مع الخطة التي أراد للأرض أن تتحرك من خلالها، وللإنسان أن ينطلق منها في حياته الفكرية والعملية، كي يعيش العبودية المطلقة أمام الربوبية المطلقة، في خط الإيمان والطاعة والالتزام، فذلك ما يضمن للإنسان أمنه من العذاب. أمّا من يتمرد على الله، ويخرج من خط العبودية، فلا مجال للأمن لديه، {وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} في ما يعنيه الويل من حالة الإحباط والسقوط والاستغاثة في مواقف الضعف {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخرةِ} بما تمثله الحياة الدنيا من القيم المادية التي يخلد بها الإنسان إلى الأرض، فلا يرتفع إلى الآفاق الروحية، ولا يسمو إلى آفاق الله، بل يظل في حالة انحطاط، مع غرائزه وانفعالاته، مقابل الآخرة، التي تمثل القيم الروحية والإنسانية التي تدعو الإنسان للتجرد من جانبه الغريزي، وتوجهه نحو السموّ بآفاق فكره وروحه وحياته، وتدفعه إلى التخلُّق بأخلاق الله، والالتزام بشريعته حيث يمكن أن يلتقي بالخير من أقرب طريق.
{وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّه}، بوقوفهم ضد الدعاة إليه ومنعهم الناس من الاستماع إليهم، ومن الانسجام مع طروحاتهم، وتعاونهم مع قوى الكفر والشر والضلال لتأكيد مناهجهم، في الفكر والعمل، ولإبعاد الناس عن سبيل الله الذي هو الإسلام كله، وزجّهم في سبيل الشيطان الذي هو الكفر كله، والانحراف كله. {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} فلا يريدون السير على خط الاستقامة، بل يعملون على خط الالتواء والانحراف والاعوجاج. {أُوْلَـئِكَ فِي ضلالٍ بَعِيدٍ}، فقد امتد سيرهم في خط الانحراف الفكري والعملي، فتاهوا في مجاهل الكفر والعصيان، حتى بلغوا في الضياع شأواً بعيداً.
وإذا كان الأساس في عذاب الكافرين وبعدهم عن ساحة رحمة الله، هو تفضيلهم الدنيا على الآخرة، وصدّهم عن سبيل الله، وسيرهم في خط الاعوجاج، فإن المسألة قد تطال غير الكافرين من المسلمين الذين قد يعيشون الإسلام في أفكارهم كحالةٍ ثقافيةٍ، ولكنهم يعيشون الكفر في خطهم العملي، في ما تمثله من قيمٍ سلبيةٍ تسيء إلى مسيرة الإيمان والطاعة والالتزام.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، ليفهموا دعوته، ويعوا رسالته من خلال المعرفة بها، بوصفهم القاعدة الأولى التي ينطلق منها ويعمل من خلالها على تأسيس مرتكز صلب للحركة، بهدف الامتداد إلى حياة الآخرين. وهذا هو سبب نزول كل كتاب بلغة النبيّ المرسل، ولغة قومه، ليبين لهم الرسالة باللغة التي يعرفونها والطريقة التي يفهمونها، وليقيم عليهم الحجة، {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ} من موقع اختياره للضلال بابتعاده عن خط الهدى {وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} باختياره سبيل الهدى على خط المعرفة التي تفتح القلوب على الله، والعقول على الحق في رسالته {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الذي انطلقت عزته من مواقع قدرته وأحاطت حكمته بمواقع علمه.
تفسير القرآن