تفسير القرآن
إبراهيم / من الآية 9 إلى الآية 12

 من الآية 9 الى الآية 12

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَآءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ* قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّـى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}(9ـ12).

* * *

ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} الظاهر أن هذا الكلام تتمة لحديث موسى مع قومه، إذ لو كان خطاباً موجهاً من النبي محمد(ص) للمشركين من قومه، لكان من المناسب أن يتحدث عن أقوام الأنبياء الذين يعرفونهم، كقوم موسى وعيسى. والآية تستخدم أسلوب التذكير بالتاريخ للبرهان على النتائج السلبية للكفر والانحراف، من خلال ما عاشه الكافرون من عذاب الله في الدنيا قبل الآخرة، بغرض ردع الكافرين المتأخرين، عندما يقفون أمام المعادلة الإلهية التي لا تفرق بين الماضي والحاضر في أساس الثواب والعقاب، فإذا كان كفر أولئك سبباً في نزول العذاب، فإن كفر هؤلاء لن يكون بعيداً عن استحقاقهم لما استحقه أولئك الذين {جَآءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} التي تفتح عقولهم بالحجة الواضحة والبرهان القاطع على الحقيقة من أقرب طريق، ودعوهم للإيمان على هذا الأساس ليفكروا ويتأملوا ويقتنعوا، {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} تعبيراً عن الغيظ، فقد ذُكِر أن رد اليد إلى الفم يمثل مظهراً حيّاً للإعراض ولشدّة الغيظ، {وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ}، لأننا لم نقتنع به بديلاً عن عقيدة الشرك لدى الاباء والأجداد، {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ}، بل إننا في شك يتزايد في مضمون الدعوة وشكلها وصاحبها، كلما امتدت الدعوة فينا. ولكن هل هم جادّون في ادعائهم الريب والشك في هذه الدعوة؟ وكيف يوفّقون بين الالتزام بالكفر الذي يعني الجحود والنكران والقناعة المضادّة لخط الإيمان، وبين التأكيد على الشك الذي يمثل حالة التذبذب بين مضمون الإيمان ومضمون الكفر؟ فإن هذا يشبه الجمع بين الشك بالشيء واليقين بخلافه، إلاّ أن يكون المراد من الكفر عدم الإيمان الذي يلتقي بالشك، لا الإيمان بالعدم، ولهذا كان ردّ الفعل لدى الرسل، أنهم ناقشوا مسألة الشك ولم يناقشوا مسألة الإيمان بالعدم.

وقد نلاحظ أن هؤلاء يحاولون التهرُّب من خط الالتزام بمثل هذه الادّعاءات، لأن القضية لو كانت قضية الشك الجدّي في مضمون الدعوة، لكان من المفروض أن يقفوا ليدخلوا في تفاصيل العقيدة ومسائل الدعوة، ليثيروا علامات الاستفهام حول النقاط المثيرة للريب، الباعثة على الشك، ولكنهم تركوا القضية في دائرة الإبهام والغموض، ليثيروا الضباب، وليهربوا من حركة المسؤولية في خط الحوار. وهذا هو ديدن كثير ممن لا يريدون مواجهة الدعوة بمسؤولية فكراً وممارسة، فيلجأون إلى الإيحاء بالشك من زاويةٍ فكرية يبحثون من خلالها عن اليقين، في حين أنهم ينطلقون من مواقع العناد الذي لا يريدون التعبير عنه بصراحة.

* * *

تأكيد الرسل على حقيقة وجود الله

{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، إن قضية الشك في كل القضايا، لا بد من أن تخضع لمعطياتٍ تحتويها داخلياً أو خارجياً فيما يتمثل فيه الغموض أو الالتباس الذي يحجب الوضوح عن الرؤية ويعقّد الحل للمشكلة ويبتعد بالفكرة إلى آفاق الضباب. وهذا ما يمكن ملاحظته في كثير من الأمور التي يختلف فيها الناس، وتتعدّد فيها الاراء، لتعدد وجوهها وإمكانات تفسيرها. ولكن هل يمكن أن يقترب الشك من إشراقة الشمس في رابعة النهار، أو يلتقي الغموض بالصحو المنتشر في صفاء السماء؟

بالتالي،كيف يمكن أن يتحدث هؤلاء عن الشك في وجود الله أو في توحيده، وهم يعيشون حضوره في وجودهم، في ما يفكرون، وفي ما يحسون، وفي ما يمارسونه من شؤون الحياة. هذا الحضور الذي لا يغيب عن شيء، ولا يغيب عنه شيء ولا يخلو منه شيء، وهو الذي فطر السماوات والأرض بقدرته، ففي كل ظاهرة إشراقةٌ لوجوده، ودلالة على توحيده. إن المسألة لا تحتاج إلى تحليل فلسفي يضيع معه الإنسان في ضباب الفكر ودخانه، بل يكفي لتأكيدها حسٌّ صافٍ يتطلع إلى ما حوله، وفكر ينطلق في آفاق الكون للالتقاء بالحقيقة الإلهية في وعي الوجدان وصفاء الحس وإشراقة الفكر، بعيداً عن كل شبهة وعن كل غموض. ولهذا فإن الشك الذي يحصل لدى البعض، لا يعبر عن حالةٍ فكريةٍ، بل يعبر عن عقدة مرضيّةٍ وانحراف.

إنه الله الحاضر في الوجدان الصافي، الذي فطر السموات والأرض، وفطر الإنسان بقدرته، ولم يخلقه عبثاً، بل أراد له أن يتحرك في نطاق المسؤولية، فإذا انحرف عن خطها الأصيل في لحظات الضعف، فإنه لا يهمله ولا يتركه، بل يظل يرعاه ويدعوه ليؤكّد له رحمته ولطفه وعطفه، {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} في دعوتكم للسير على نهجه الأصيل الذي بعث به رسله، لمنعكم بذلك عن المعصية، قبل الوقوع فيها، أو تخليصكم من نتائجها بعد الوقوع فيها، بما تمثله المغفرة في الخط الأول، من وقايةٍ للإنسان، وبما تمثله في الخط الثاني من رحمةٍ له، وإبعادٍ له عن الوقوع في الهلاك، {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّـى}،ليترك لكم الفرصة للتراجع عن خط الانحراف، وللابتعاد عن خط الكفر. وذلك هو منطق الرسل الذين يريدون لأممهم اللقاء بالله والقرب منه من أقصر طريق من موقع نعمة الوجود والحياة. فماذا كان جواب هؤلاء؟ هل ناقشوا الفكرة وحاوروا؟

الواقع أن شيئاً من ذلك لم يحصل، بل هربوا إلى زاوية أخرى، يثيرون من خلالها الشك حول رسالة الرسل، بطرحهم بعض المفاهيم القلقة حول شخصية الرسول، الذي لا بد من أن يكون من طينةٍ غير طينة البشر، كأن يكون من الملائكة أو من نوع آخر.

* * *

تمسك أقوام الرسل بعبادة الآلهة المزيفة

{قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا} ما هي ميزتكم علينا ليكون لكم دور الرسل، ويكون لنا دور الأتباع، وحديثكم عن الله وتوحيده وعبادته ليس سوى خطة تخريبيّة ضد المقدسات التي كان يتعبّد لها الآباء والأجداد، لذا نعتبرها عدواناً علينا وعلى التاريخ الذي نحترمه ونتعاطف معه ونقدّسه.

{فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} يؤكد ما تدّعونه من نبوة تمثل الاتصال بالله الذي يعني ـ بطريقةٍ وبأخرى ـ امتلاككم لقوةٍ خارقةٍ قادرة على تغيير مظاهر الكون حولها، كما أن الله قادر على ذلك، ولكننا لا نرى لكم مثل هذه القوّة وهذا السلطان، فأنتم لا تقدمون إلاّ الكلام تدعوننا من خلاله إلى توحيد الله ونفي الشركاء عنه، كأي شخص عاديّ يحمل دعوة إلى فكر معيّن.

{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ}، فنحن لا ننفي البشرية في أصل وجودنا وفي حركة هذا الوجود، ولكننا ننفي الفكرة التي تعارض بشرية الرسول، فإن الرسالة هي كرامة من الله لبعض عباده الذين أراد لهم أن يحملوا تعاليمه إلى الناس، فما المانع من أن يكرم الله الإنسان بحمل الرسالة ويمنّ عليه بها؟ وما الفرق بين الإنسان وبين الملك في هذه النقطة، ما دامت القضية قضية رسالةٍ وتبليغ، لا قضية تغييرٍ لنظام الكون، للتفريق بين الإنسان والملائكة؟ ثم من قال إن الملائكة يملكون قدرةً خارقةً غير ما يملكه الإنسان، ما دامت المسألة متعلقة بقدرة الله التي يمكن أن يعطيها أو يسلبها لأيّ مخلوقٍ من عباده؟

{وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}، لأننا لا نملك القدرة الذاتية على ذلك، ولا يملكها غيرنا، بل هي ملك الله وحده، فإذا لم يأذن لنا بذلك إذناً تكوينياً، فكيف يمكن أن يكون لنا هذا السلطان، فهو الخالق والرازق والقادر على كل شيء والمرجع في كل شيء، {وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} لأنه هو الذي يملك القدرة على أي شيء يريدون الحصول عليه أو الحماية منه.

وهذا ما ننطلق منه ونسير عليه، فإننا لم نبدأ الطريق إلا من خلال توكلنا عليه {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} من موقع الثقة المطلقة به {وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا}، وعرفنا طريق الحق والباطل، وقوى إرادتنا في اتجاه الحق حتى اهتدينا عبر ما أمّنا به من عقيدةٍ، وحملناه من رسالة، وبلغناه من دعوة إلى سواء السبيل. وليست عندنا مشكلةٌ تجاه ما تمارسونه ضدنا من ألوان الإيذاء، لأننا نعرف مسبقاً أن الرسالة ستواجه تحديات تجعلنا ندفع ضريبة استمرارنا بها، {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا} لأن صاحب الرسالة يدرك جيداً أن القوى المضادّة تعمل على إسقاط روحه المعنوية وهزيمته نفسياً بهدف إبعاده عن الساحة، ولهذا فإن من مسؤوليته أن يثبت ويتحمل الحرمان والاضطهاد والإذلال، للانتصار على تمرد المعاندين وجحودهم في نهاية المطاف. فالثقة بالله وبالنتائج الإيجابية التي يحملها المستقبل، يدفعنا إلى مواصلة خط السير، مهما واجهنا من مصاعب ومشاكل وآلام، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } لأنه هو الذي يحميهم من كل أخطار المجهول ومشاكله، فهو حسبهم ونعم الوكيل.

* * *

شعار الرسل هو الأنسب للدعوة

وهذا هو شعار الرسل الذي ينبغي للدعاة إلى الله والعاملين في سبيله، أن يحملوه في كل مراحل مسيرتهم التي يواجهون فيها التحديات الصعبة من قِبَل قوى الكفر والضلال، وأن يتمثلوه في أنفسهم، وأن يعيشوه في وجدانهم، إذا أحاطت بهم الأخطار والأهوال، وواجهوا مخاوف المجهول، لأن الله يملك الأمر كله، ويحيط بعلمه وقدرته بكل جوانب المجهول وخفاياه وكل مخاطره وأهواله، والإيمان العميق به يملأ النفس ثقةً وقوّة واطمئناناً بملئه فراغ الإنسان كله بلقاء الله الدائم، بحيث لا يترك مجالاً للحيرة والقلق والضياع، أمام الخط الثابت الواضح الذي يتصل بالإرادة الإنسانية في ما يملك الإنسان أمره في الحاضر، والذي يلتقي بالإرادة الإلهية، في ما لا يملكه الإنسان في المستقبل. وبذلك لا ينطلق التوكل من حالة هروب من الواقع، كما لا يمثل حالة فراغٍ في التصور والممارسة في الحياة .