تفسير القرآن
إبراهيم / من الآية 13 إلى الآية 17

 من الآية 13 الى الآية 17

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ* وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ* وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ* مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ* يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} (13ـ17).

* * *

خيبة كل جبار عنيد

ويستمر الحديث بين الرسل وبين الكافرين من أممهم، دون فرق في المنطق والموقف بين أمّةٍ وأمة، حيث لا يوجد فكر يحكمها، بل عنف يتمسك به من لا يتقنون فنّ الحوار، ولا يحملون قوّة الفكر، ولا يعيشون وعي الموقف.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}، إنه موقف أخير وإنذار حاسم، لا مجال معه للتسويات بينهم وبين الرسل، فلا بد من أن ينسجم الرسل مع الأجواء العامة التي تحكم حياة أقوامهم، لجهة ما يعتنقونه من أفكار، وما يضعونه من مشاريع، وما يتخذونه من مواقف، وإلا فليلتمسوا بلاداً أخرى يعيشون فيها، حتى لا يهدموا وحدة الأمة. وبذلك فإن العودة في ملة الكفار التي اشترطها أولئك على الرسل لا تعني أن الرسل كانوا كفاراً كما يدل المعنى الحرفي للعبارة، لأن ذلك لا ينسجم مع التاريخ الإيماني للرسل، بل إنهم كانوا غير معارضين بالمعنى الحركي للكلمة، وإن كانوا كذلك بالمعنى الفكري للإيمان. وهكذا وقف الكافرون ليطرحوا عليهم الابتعاد عن خط المعارضة والتحدّي في حركة الإيمان تحت تأثير التهديد بالإبعاد عن أرضهم. إنهم يستضعفون الرسل ليخضعوا لمنطق القوّة، لأن الرسول كان وحيداً في البداية والجميع ضدّه إلا من اتبعه من الضعفاء.

ولكن الله لا يترك رسله لهذا الموقف الذي يضغط عليهم بكل قوّته وجبروته، {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}، فهذه هي إرادة الله في إهلاك هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، وظلموا الناس من حولهم، بعد أن أقام الله عليهم الحجة تلو الحجة من خلال الرسل، فلم يأخذوا بأسباب الإيمان، بل أمعنوا في خط الكفر والعناد والضلال. وهكذا أراد الله أن يعيش الرسل الشعور بالقوّة، عندما يتابعون الموقف بصلابةٍ وقوّة، ويستقرُّون في أرضهم بعد أن يخرج منها الظالمون إلى غير رجعة بعد أن يهلكهم الله، {وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ}، فتكونون أولى بالقوة، ويكونون أولى بالسقوط، {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} فراقب الله في كل مواقفه وخشي عذابه الذي توعّد به المنحرفين عن هداه، فأطاع الله في كل أوامره ونواهيه.

{وَاسْتَفْتَحُواْ}، أي طلبوا الفتح والانتصار على الرسل ومن اتبعهم من المؤمنين، ولكنهم لم يحصلوا على شيء مما أرادوه، {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} من هؤلاء الذين عاشوا الكبرياء، في ما كانوا يتمتعون به من مالٍ وجاهٍ وقوّةٍ، دفعهم إلى العناد والتمرّد والجحود، فلم ينفعهم ذلك كله، {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ} التي دخلوها من خلال أعمالهم السيئة وعنادهم وكبريائهم، {وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} وهو القيح المختلط بالدم {يَتَجَرَّعُهُ} الكافر عندما يحس بالعطش {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي يبتلعه لأن نفسه لا تتقبّله، لما يثيره في داخله من مشاعر القرف، {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} من خلال العذاب الغليظ الذي يحيط به من كل جهة، حتى يشعر وكأن نفسه تزهق من ذلك ويتمنّى لو يريحه الموت ويتحول بالنسبة له إلى حلم لذيذ يطلبه، ولكن الموت لا يأتي إليه {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} فتبقى مكامن الإحساس في جسده، ليتعذّب بها، وليمتد عذابه ما امتدت حياته {وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} في حجمه ونتائجه، وذلك جزاء الكافرين المتكبرين المعاندين.