من الآية 21 الى الآية 23
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ* وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا ْوَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلامٌ} (21ـ23).
* * *
معاني المفردات
{وَبَرَزُواْ لِلَّهِ}:ظهروا له.
{مُّغْنُونَ}: دافعون.
{مَّحِيصٍ}: منجى ومهرب.
{بِمُصْرِخِكُمْ}: مغيثكم.
* * *
حوار الضعفاء والمستكبرين والشيطان يوم القيامة
تتناول الآيات موقف المواجهة الصعب يوم القيامة، بين الضعفاء والمستكبرين من جهةٍ، والعذاب الذي يلقونه جميعاً عقاباً على ما عملوا وما أسلفوا من خطايا وذنوبٍ وجرائم، كانت تجسّد التمرد على الله وعلى رسله وشرائعه، من جهة أخرى، في حوار تتنوع طبيعته تبعاً لاختلاف مواقع أطرافه والعلاقات التي كانت سائدة بينهم، ونجد في هذه الآيات النموذج الرائع الذي يوضح لنا الفكرة بأسلوب حيّ.
* * *
وبرزوا لله جميعا
{وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جميعاً} ظهروا لله في موقف المسؤولية الحاسم الذي لا يملكون فيه إلا النطق بالحق، بعيداً عن كل عوامل القوّة والضعف التي كانت تحكم علاقاتهم في الحياة، فهم الآن متساوون أمام الله بصفتهم الحقيقية التي توحدهم جميعاً كعبيد أمامه.
{فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} لقد كنا نمثل الفئة المسحوقة التي لا تملك أن تريد أو لا تريد بما تعنيه التبعية في كل شيء.
إن الآية تؤكد لنا كيف واجه الجميع نتائج المسؤولية في عذاب الله، وإن اختلفوا في نوعية العذاب، وتصور لنا موقف أولئك الذين أخضعوا إرادتهم لإرادة الآخرين ولنزواتهم في حين كانوا يستطيعون تحرير أنفسهم وإرادتهم من تلك التبعية، ولكنهم خضعوا أمام مظاهر القوة ومطامع المال التي ساقتهم للسير خلف المستكبرين دون وعيٍ ولا شعور.
إنهم الآن يستيقظون على ما وصلوا إليه من واقع يحاولون التخلص من بعض قسوته على الأقلّ، متوجهين إلى من كانوا يتبعونهم في كل شيء، طالبين منهم تحمل تبعاتهم في الآخرة، مقابل ما تحمّلوه من تبعاتهم في الدنيا، تماماً كما كان الحال في الدنيا، حيث كان الرئيس يقدم لأتباعه الحماية من المتاعب والمشاكل، مقابل ما يقدمونه من خدمات تصل إلى درجة المخاطرة بالحياة.
وينطلق سؤالهم، بلهجةٍ متوسّلةٍ يائسةٍ، تحمل كثيراً من خيبة الأمل، وعدم الثقة بالنتيجة، كما توحي كلمة «من شيء» في سؤالهم {فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ}، أي شيء، ولو بالمقدار الذي يخفف عنا قسوته وشدّته؟
وتجسد الصورة القرآنية تهرب أولئك المستكبرين، باعتبار الموقف يائساً من كلا الطرفين، فهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، فكيف يملكون لأتباعهم الحماية، حيث لا متسع للحساب، ولا مجال للهروب، بل أمامهم الاستسلام اليائس للمصير الذي تعبر عنه هذه الكلمة القرآنية أبلغ تعبير: {قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ }، لأن المشكلة أننا ابتعدنا عن الله وتمرّدنا عليه، ولم نهتد بهداه، بعد أن أقام علينا الحجة وتركنا لأنفسنا، دون أن يتدخل بقوّته لفرض الهداية علينا، فضللنا وأضللناكم لأنكم جعلتم حياتكم تبعاً لحياتنا. لذا نقف هنا ـ جميعاً ـ وجهاً لوجه ـ أمام نتائج المسؤولية الصعبة، دون أن يكون هناك فرق بيننا في الموقف، لأننا مشتركون في تجميد إرادة الحق في وعينا، في ما يحكم به العقل والوجدان، والذي جاءت به الكتب وبلغه الرسل، واتبعنا شهواتنا ومطامعنا، فلا بد لنا من أن نواجه الحقيقة، بكل صعوبتها وقسوتها {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}، ومهرب من المصير الأسود الذي لا نملك إلا أن نتقبّله ونخضع له، لأننا لا نملك له تغييراً، سواء سقطنا جزعاً أو استسلمنا للصبر.
وقد نفهم من جواب هؤلاء المستكبرين، نوعاً من الهروب من طبيعة المسؤولية، فهم لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن ضلال أتباعهم، لأن الهداية تكون من الله، فإذا لم يوفّرها لهم، فكيف يمكن أن يوفروها هم لغيرهم. وفي ذلك تجسيد لغاية اليأس في الموقف.
فالله يريد من خلال هذا النص أن يصوّر للمستضعفين في الدنيا، كيف تتجسّد مواقف الندم واليأس في الآخرة، ليواجهوا واقعهم، مواجهة من سيتحمل مسؤوليته وحده، ولذا فإن عليه أن يبدأ الحساب على هذا الأساس.
* * *
تملص الشيطان من مسؤولية الضلال
ولعل من الطريف ـ في هذا الحوار ـ أن الشيطان يتدخل كطرفٍ ثالث، ليبرِّىء نفسه من مسؤولية ضلال كلا الطرفين، التابعين والمتبوعين، مؤكداً الفكرة الدينية التي تقرر حرية الإرادة التي فطر الله الإنسان عليها، فليست هناك قوّةٌ قاهرةٌ ٌتشلّها بدون اختيار صاحبها، حيث يورد القرآن الكريم:
{وَقَالَ الشَّيْطاَنُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} وحسمت المواقف، وانطلقت إرادة الله التي تقود االكافرين والعاصين إلى النار، وتقود المؤمنين إلى الجنة، ولم يبق هناك مجال للدفاع أو للاعتذار، فقد جاء إبليس ليتخفف من بعض ثقل المسؤولية التي يحملها الناس له في عملية الإغواء والإضلال، ليجعلها على عاتق الناس الضالين: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ}، بالجنة للطائعين المؤمنين، وبالنار للعاصين المتمردين {وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}، في ما منّيتكم به ودفعتكم إليه، مما لم يتحقق، لأن الأمر كان مجرّد خدعةٍ وتضليل، من أجل تحقيق ما أريده من إضلالكم، وقد عرّفكم الله طبيعة الدور الذي أقوم به في حياتكم، وهو دور الإغراء والخديعة والتزيين وتصوير الحق بصورة الباطل، والباطل بصورة الحق، وتشويه الصورة الجميلة، وتجميل الصورة المشوّهة، بما أملكه من وسائل وأدوات. وهذا هو كل شيء في دوري معكم، ولا أملك معه أيّة قوّةٍ إضافية تمكنني من الضغط على إرادتكم بطريقةٍ قاهرةٍ {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}، بما تتضمنه أساليب الدعوة وأجواؤها من عناصر الإغراء والإغواء {فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} لأنني أتحرك في وسائلي وأهدافي من خلال الخط الواضح الذي أعلنت السير فيه أمام الله، منذ طلبت منه الانتظار إلى يوم القيامة. ولكن ماذا عن دوركم أنتم، لماذا لم تلتفتوا إلى أساليبي ووسائلي وغاياتي التي عرّفكم الله إياها، وقد أرسل إليكم الرسل ليحذروكم مني، وخلق لكم العقل الذي يستطيع أن يحاكم كل الدعوات التي أثيرها في حياتكم، وكل التهاويل والأحاسيس التي أعمل في سبيل الضغط على مشاعركم من خلالها؟ فليتحمّل كل واحد منا مسؤولية نفسه، {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} فإذا استغثتم بي من العذاب، فلن أستطيع أن أدافع عنكم {وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} فلا تملكون لي شيئاً إذا استصرختكم واستغثت بكم، {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ}، فأنا لا أقر ولا أعترف بجعلكم إياي شريكاً لله في العبادة، {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وهكذا أغلق الملف الذي يمثل هذه الحالة التي تتحرك فيها الضغوط النفسية أو الجسدية لتلغي إرادة فريقٍ من الناس، تحت تأثير العوامل الداخلية والخارجية، ليواجه الجميع مسؤوليته، من موقع حرية الإرادة التي تستطيع أن تعبّر عن نفسها بألف طريقةٍ وطريقةٍ، كما لو لم يكن هناك ضغط، لا من المستكبرين، ولا من الشيطان نفسه الذي يحمّله الناس كلهم مسؤولية إضلالهم ويلعنونه لذلك. فليس هناك سلطة في الإضلال حتى للشيطان، بل كل دوره هو أن يوسوس ويثير ويدعو الإنسان إلى الاستجابة له، بعيداً عن دعوة الله، وتلك هي مهمته الأساسية، ويبقى، بعد ذلك، للإنسان دوره في التفكير والمقارنة بين دعوة الله ودعوة الشيطان، فإذا سار مع دعوة الله، كان ذلك باختياره، وإذا انطلق في طريق الشيطان، فبإرادته سارت خطواته، فلماذا يلقون اللوم على الشيطان، ولا يلقون اللوم على أنفسهم، في الوقت الذي لم يكن منه إلا إثارة مكامن الشهوة، وتزيينها للنفس، بينما كان منهم التصميم والإرادة والعمل؟!
وهكذا تأخذ الفكرة مجالها الطبيعي في الكلمة الأخيرة للشيطان، التي يقرر فيها حمل الإنسان لمسؤولية إرادته، في مقابل حمل الشيطان لمسؤولية وسوسته وإضلاله، دون أن يستطيع أحدهما تخليص الآخر.
ويبرز في خاتمة المطاف العنصر المثير الذي يجعل الشيطان يكفر بإشراكهم إياه بالله، ليبقى الإنسان المنحرف المتمرّد على الله، وحده، دون ناصر أو معين.
ويدخل الجميع النار، ويبقى هناك فريق واحد، لم يستسلم للمستكبرين، لأنه كان يملك قوة الموقف الذي يستطيع من خلاله أن يتمرّد على كل طروحاتهم، ويتحدّى كل ضغوطاتهم، ويواجه كل ألاعيبهم، ولم يستسلم للشيطان، بعدما اكتشف خداعه وتضليله، وعرف كل النتائج السلبية التي تحصل من اتباعه والسير معه، واستطاع هذا الفريق أن يكتشف الطريق المستقيم الذي يؤدّي به إلى الله، ويربطه بالجانب الخيّر من الحياة.
{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْري مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} بما أعده للمؤمنين عاملي الصالحات من نعمةٍ ورحمة وكرامة، {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} تعبيراً عن تكريم الله لهم، لما توحيه كلمة السلام من معاني الطمأنينة الروحية التي تفتح قلب الإنسان على كل خيرٍ وحقٍ وإيمان.
تفسير القرآن