تفسير القرآن
إبراهيم / من الآية 32 إلى الآية 34

 من الآية 32 الى الآية 34

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ* وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ* وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (32ـ34).

* * *

معاني المفردات

{دَآئِبَينَ}:دائمين.

نعم الله على العباد لا تحصى

* * *

ينفتح التصوّر الإنساني على آيات عظمة الله في الكون، ومواقع قدرته، وحركة نعمته، من خلال ما يشاهده الإنسان ببصره، ويعيشه في وجوده، ويلتقي به في كل مفردات حياته، وذلك بانفتاحه على التربية القرآنية التي تدعو الإنسان إلى الالتقاء بالله في طاعته، من خلال تربية الإحساس بعظمة الله في نفسه، لتتحرك الطاعة من أعماق الذات، لا من خارجها، ولتلتقي الحركة السائرة نحو الهدف بالقاعدة الروحية في خط مستقيم لا التواء فيه ولا انحراف.

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ} بما فيها من أكوان وخلائق ونظمٍ وأوضاع تنطلق فيها النعمة من مواقع القدرة، {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} أودعه على سطح الأرض وفي عمقها، فأبدع فيها قدرة الخصب والنموّ، وشق داخل الحبة والنواة سرّ الثمرة والشجرة، {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ}، تأكلونه أو تلبسونه أو تستمتعون به، ولولا ذلك لما أمكن للحياة أن تنمو في داخل أجسادكم، وللقوّة أن تتحرك في وجودكم، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْريَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} بما أودعه في أجواء البحر من نُظُم وأوضاعٍ تسمح للسفن أن تبلغ أهدافها من خلاله، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ} التي تتدفق من الينابيع الكامنة في أعماق الأرض، ومن الثلوج المتفجّرة من قمم الجبال، فتتحول إلى حركةٍ متدفقةٍ تبعث الخير والخصب والنماء في كل أرضٍ تمر عليها، وتشكل للإنسان وللحيوان شريان الحياة الذي تنطلق منه وتتحرك من خلاله، {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ} لا ينقطعان عن الحركة في النظام الكوني الذي يؤمن الشروط الطبيعيّة لبقاء الحياة على الأرض وفي الجوّ، من خلال هذين الكوكبين اللذين يتدخلان في نظامها المتقن البديع، في أكثر من سرٍّ في حركة الحياة في الكون، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّليْلَ وَالنَّهَارَ} في تنظيمهما لحياة الإنسان على القاعدة الثابتة المريحة التي تعطي الجسم راحته وهدوءه في الليل مع ما يؤمنه الظلام من سكونٍ وراحةٍ ووداعة، وإطلاق حركته في تحصيل لقمة العيش مع ما يؤمنه النهار من إشراق النور وانفتاح كل مطالب الإنسان في الحياة. وهكذا تلتقي الرؤية الواعية بالله في الكون، حيث يشعر الإنسان، بأن الله قد أودع فيه الشروط الطبيعية لوجود حياته واستمرارها، وهذا هو معنى تسخير كل الظواهر الكونية للإنسان، بحيث يشعر أن كل ما فيها من عناصر القوة كان رحمةً من الله به، وليس هذا هو كل شيء في مظاهر نعمة الله على الإنسان، بل هناك الظواهر الأخرى المبثوثة في كل مكان من حوله، وفي داخل جسمه، مما أعدّه الله للإنسان، لينعم به في كل ما يحتاج إليه.

{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} مما تحتاجه حياتكم، في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، مما تعرفون سرّه، أو تجهلونه، أو مما تحسون به، أو لا تشعرون به ولكنكم تجدون آثاره في حياتكم. {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا}، وكيف يستطيع الإنسان إحصاء مواقع نعم الله في حياته، في مفرداتها الصغيرة والكبيرة التي تتجلى آثارها في كل لحظة، بالمستوى الذي يجعل كل شيء من حوله مظهراً من مظاهر نعم الله عليه، لعلاقته بالحياة التي يحياها، في المبدأ وفي التفاصيل.

ولكن إحساس الإنسان اللازم بالشكر لهذه النعم العظيمة التي لا تحصى، والتزامه بالطاعة والخضوع لله، وتحريكه لتلك النعم في ما يرضاه له من وجوه الخير كتعبير عن ذاك الشكر، لا يتمثل في سلوكه وفي حركة حياته، {إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} فهو يظلم نفسه بالكفر والمعصية، ولا يؤدي إلى ربه حقه من الشكر لنعمه، بل يعيش الكفران والجحود في أكثر مظاهر وجوده، عندما يستعمل نعم الله عليه في معصية الله، وهذا ما أشار إليه الإمام علي(ع) في كلمات حدد فيها المستوى الأدنى لمسؤولية الإنسان أمام نعم الله عليه: «أقلّ ما يلزمكم لله ألاّ تستعينوا بنعمه على معاصيه»[1].

ولكن ما معنى هذا الوصف للإنسان بأنه ظلوم كفار، هل هي صفة لازمة للإنسان في سرّ وجوده، وخاصية من خصائصه الذاتية، وإذا كان الأمر كذلك، فما معنى المسؤولية عن سلوكٍ لا إرادة له فيه ولا اختيار، وكيف يعاقب الإنسان على ما لم يكن له دخل فيه؟

هذه أسئلة تدور في الذهن أمام هذا الحكم القرآني على نوع الإنسان، فكيف نجيب عنها؟

والجواب عن ذلك، أن الآية لا تتحدث عن خصائص الذات، ولكن عن الصفة كظاهرة في السلوك، لأن الأغلب في الناس أن يعصوا الله في الصغير وفي الكبير، وأن يجحدوا نعمه في حياتهم العملية، فهم لا يعيشون العصمة في فكرهم وإرادتهم، وفي عملهم ومواقفهم، ما قد يسمح باختلال التوازن، بين التصور والواقع، والإيمان والحركة، ولما تفرضه ساحات الفراغ الفكري والعملي من ثغرات، تدعو الشيطان إلى الاختباء في داخلها، والعمل بما تقتضيه.

ومن خلال هذا الواقع الظاهر في واقع الإنسان، تأتي الدعوة إلى التفكير والانضباط والاستقامة في الخط وفي العمل، وإلى جهاد النفس في ذلك كله، من أجل أن يتغير الإنسان في فكره، ويملك الوضوح في رؤيته، والقوّة في إرادته، ليغير مصيره ومصير العالم من حوله، فليس الانحراف قدر الإنسان وقضاءه الذي لا يملك الفرار منه، بل هو الظاهرة الطارئة الخاضعة لبعض العوامل الداخلية والخارجية التي يملك الإنسان وسائل التغلب عليها وقهرها على كل الأصعدة.

ـــــــــــــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة، قصار الحكم، 33، ص:402.