تفسير القرآن
إبراهيم / من الآية 42 إلى الآية 45

 من الآية 42 الى الآية 45

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصارُ* مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ* وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ* وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} (42ـ45).

* * *

أحوال الظالمين يوم القيامة

ويعود الحديث إلى يوم القيامة في حديث الحساب والجزاء الذي ينتظر هؤلاء الناس اللاّهين العابثين بالمسؤوليات، الغافلين عن مستقبل أعمالهم، وعن موقفهم بين يدي الله.

* * *

الله لا يغفل عن عمل الظالمين

{وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} كما يبدو من إهمال أمرهم، والصبر عليهم، والإملاء لهم، وتركهم لأنفسهم في ما يعملون من أعمال، وما يمارسونه من جرائم، فإن ذلك لا يعني أن الله لم يطلع عليهم داخل حياتهم، أو أنه راضٍ عنهم، ولكن حكمته اقتضت قيام نظام الحياة على الإرادة والاختيار، ليكون الإنسان مسؤولاً، وليواجه نتائج مسؤوليته يوم القيامة، لأن اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل.

أما المراد بالظالمين، فإن الظاهر من السياق أنهم الذين ظلموا أنفسهم بالكفر أو بالمعصية، أو الذين ظلموا الناس بغياً وعدواناً. وعلى كل حالٍ، فإن المعنى الأول يوحي بالمعنى الثاني، لأن استعمال كلمة الظلم في التعبير عن الكفر أو المعصية، يوحي بأن الظلم مرفوض عند الله، بالمستوى الذي يرفض فيه الله الكفر، من موقع كونه ظلماً. وهكذا نجد أن الله لا يغفل عن الظالمين، لمجرد أنه لا يعاقبهم في الدنيا {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصار} في حالة تطلّع مذهولٍ، يجعلها مفتوحةً متصلبة أمام الأهوال المخيفة التي تواجههم في ذلك اليوم {مُهْطِعِينَ} مسرعين في حركة مشيهم تلبيةً لدعوة الداعي، لا يملكون أيّ نوعٍ من التماسك والتوقف {مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} أي رافعي رؤوسهم أمام الهول الكبير.

{لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي لا يطرفون بعيونهم من الخوف والحذر، {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} لا تنطوي على أيّ شيء من الإدراك والشعور، فقد أذهب الرعب كل ما فيها، فكأنها ليست بشيء، كما هو الهواء لا يمثل أيّ شيء في داخله.

إنها الحقيقة الهائلة المرعبة التي لا بد من أن يعيشها كل الناس في الدنيا ليواجهوا الموقف عبرها في الآخرة، ولهذا كان من الضروري للأنبياء وللرسل وللمرشدين من بعدهم أن يقوموا بعملية توعيةٍ وإبلاغٍ وانذارٍ للناس.

* * *

الأجل لا يؤخَّر

{وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} على كفرهم وعصيانهم وتمردهم، وانحرافهم عن طريق الله، فيحاولون الهروب منه بأية طريقةٍ ممكنةٍ، ويعملون على تفادي مواجهة هذا الواقع الصعب، ملتمسين لأنفسهم الأعذار والمبرّرات، ويطلبون من الله المهلة التي تتيح لهم إمكانية التراجع عن الخط المنحرف الذي ساروا فيه، ليستقيموا من جديد على خط الله ورسله، {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}، لأن المسألة لم تكن واضحةً في السابق عندما كنا في الدنيا كما هي واضحة الآن. لقد كنا في غفلةٍ عن هذا، في ما كنا نخوض فيه من مطامعنا وعلاقاتنا وشهواتنا التي كانت تحجب عنا وضوح الرؤية للأشياء، فلتكن لنا مهلةٌ جديدة، وليس من الضروري أن تكون طويلة، لندلّل بها على صدق إيماننا وصحة نظرتنا الجديدة للأمور، وسلامة موقفنا في السير على الخط المستقيم، ولكن الله يرد عليهم ذلك، أن الغفلة لم تكن حالةً لا إراديّة في حياتهم، بل كانت حالةً متعمّدةً للهروب من الحقائق الواضحة، ومن مناقشتها بوعي وإخلاص، كما يريد الله لهم أن يناقشوها. وهذا ما أكده إنكارهم لليوم الآخر الذي عبروا عنه بتشديد النفي، باليمين المغلّظ الذي كانوا يؤكدون فيه خلودهم {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} فهل كانت المسألة صادرة عن حالة اللاّوعي، أو عن حالة وعي يدرك طبيعة الأمور ولكنه يهرب منها ويتمرّد عليها؟! ذلك أن الأمور التي تذكركم بزوالكم من الدنيا موجودة {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} ممن كانوا مثلكم في الكفر والتمرد والعصيان {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} في ما أوقعناه عليهم من العذاب، وفي ما أنزلنا بهم من هلاك {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} التي تثير فيكم التفكير والحذر من أن يحلّ بكم مثل ما حلّ بهم في الدنيا، وأنذرناكم بمختلف الأساليب، بما يمكن أن يحدث لكم، مما هو أكثر من ذلك، في الآخرة، فلم تعتبروا ولم تتعظوا، بل انطلقتم في الكفر والغيّ والعدوان، من مواقع التكبر والعناد، فلا حجة لكم في طلب تكرير التجربة من جديد، لأن التجربة الأولى لم تكن تجربةً قصيرة، بل كانت طويلة طول العمر الذي عشتموه، الأمر الذي فسح أمامكم مجالاً واسعاً للتراجع والتغيير والتبديل الكبير.