من الآية 46 الى الآية 52
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ* فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ* يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ* وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ* سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ* لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ* هَـذَا بلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (46ـ52).
* * *
معاني المفردات
{وَبَرَزُواْ}: ظهروا.
{مُّقَرَّنِينَ}: مشدودين.
{الأصْفَادِ}: جمع صفد وهو القيد.
{سَرَابِيلُهُم}: جمع سربال وهو القميص.
{قَطِرَانٍ}: نوع من الدهن تدهن به الإبل إذا جربت وللنار فيه اشتعال شديد.
{وَتَغْشَى}: تعلو وتغطي.
{بَلاغٌ}: التبليغ على ما ذكره الراغب[1].
* * *
ارتداد مكر أهل الباطل عليهم يوم القيامة
يحاول الباطل بكل جنوده وأسلحته وأدواته، أن يعقّد الظروف، ويثير المشاكل، ويخلق المنازعات والمشاحنات، ويحرّك الرواسب والخلفيّات، ويبعث الشكوك والشبهات، ويمارس كل الأساليب الانفعالية في مواجهة الأساليب العقلانية، ويضع الخطط الخبيثة وكل ما يدخل في دائرة الكيد والمكر والحيلة والخداع، لمحاربة الحق في ساحة صراعه المرير معه.
* * *
مكر أهل الباطل تزول منه الجبال
{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} في كل المواقف والأعمال والأوضاع التي أثاروها في وجه الحق {وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} لا يغيب عنه شيءٌ من خفاياه ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّةٍ مما يخفيه الناس من مؤامراتهم وخططهم الخبيثة، وذلك هو ضمان حماية المسيرة الإيمانية الواعية المنفتحة على الحق وأهله، واستمرار مضيها في طريقها المستقيم، بكل قوّةٍ وعزيمةٍ وإخلاص، {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} بما يمثله من ضخامةٍ وصلابةٍ وشدة ودهاءٍ.
وقد نستوحي من ذلك نقطتين:
مراقبة خطط الأعداء
الأولى: متابعة مخططات أهل الباطل والكفر والضلال والطغيان، ومواجهة نتائجها على مستوى القاعدة والأسلوب، إضافة إلى التفكير الدقيق بالخصائص التي تميّز هذه الخطة أو تلك، وبالعناصر الإيجابية أو السلبية هنا وهناك، وبالنتائج العملية التي تحصل من هذه الحركة أو تلك، وهكذا تنطلق الدراسة الشاملة، لتضع بين أيدينا المزيد من المفردات، والكثير من القضايا التي تعيننا على وضع الخطة المضادّة التي تحمي الساحة من جهة، وتواجه الصراع بالقوة التي تهزم الآخرين من جهةٍ أخرى.
إن المسألة التي يجب أن تحكم موقفنا في الهجمة الشرسة التي تندفع نحونا من مواقع الباطل وخططه الشريرة، هي أن لا نتحرك بعقلية ردّة الفعل العاطفية، التي تثير في النفس الحزن والألم، وتوحي للفكر بالسلبيّة، وتدفعنا للمزيد من الخوف والضعف والجمود، بل أن نتحرك بعقلية الفعل الذي يخطط في اتجاهين:
أحدهما: يركز الحق على أساس قاعدة فكرية ثابتة تمدّ الجوانب الأخرى، سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وعسكرية، بشكل متوازن ومتواصل، ليعرف العاملون قاعدة الانطلاق، وخط السير، ونهاية الطريق، بعيداً عن كل الرياح القادمة من بعيد، الملائمة وغير الملائمة.
ثانيهما: يخطط ضد الباطل، من موقع المفاهيم والأسس التي تحكم تلك القاعدة أو تتفرّع منها، وبذلك لا يكون التحرك لوناً من ألوان رد الفعل، بل فعلاً يهزم فعل الآخر ورد فعله، في عملية ملاحقة لكل المتغيرات الواقعية التي تطرأ على الظروف الموضوعية المحيطة بالصراع على أكثر من صعيد.
إن من الضروري للعاملين أن لا يكونوا في حالة انفصال عن حركة الساحة من حولهم، وما يطرأ عليها من اهتزازاتٍ ومتغيّرات، بل عليهم أن يرتبطوا بأحداثها ارتباطاً عضوياً، بحيث يصبحون جزءاً فاعلاً من حركة الواقع، لا يستكين لظروف الكل، بل يعمل على أن يعطي الكل من حيويته وفاعليته وحركيته، قوّةً جديدة، وحيويّةً جديدة.
* * *
كيد الرجل والمرأة
الثانية: إن في الآية إشارةً إلى هذا الكيد العظيم الذي تكاد الجبال أن تزول منه، ما قد يوحي بخطأ الفكرة القائلة بأن الخطر كل الخطر هو في كيد النساء انطلاقاً من الآية الكريمة في سورة يوسف: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}، فإننا قد نلاحظ أولاً: أن هذه الكلمة جاءت في سياق ما نقله الله من كلام العزيز، لا من كلام الله في موقع تقرير الفكرة تأسيساً أو إمضاءً، وثانياً: أن هذه الآية تؤكد أن كيد الرجال قد يصل إلى المستوى الذي تزول منه الجبال، ما قد يوحي إلينا بأن كيد المرأة لا يبلغ هذا المبلغ مهما كان عظيماً، بل قد نفهم من ذلك أن كيد المرأة هو من نتائج كيد الرجل الذي قد يثير أمامها الكثير من أجواء الانحراف، أو يعرّضها لكثير من أجواء الضغط تدفعها إلى مواجهته بوسائل الحيلة والمخادعة التي تملكها في دائرتها الصغيرة المحاصرة بالضغوط.
* * *
انتقام الله من المجرمين يوم القيامة
{فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} في ما وعدهم به من الرعاية والحماية والنصرة والتأييد والقوّة.
{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} فهو الذي لا يمكن لأحد أن يغلب إرادته أو ينتقص من عزته، وهو الذي ينتقم لأولياء الحق من أولياء الباطل، بالطريقة التي يحدّدها، وفي الموعد الذي يريده، دون عجلةٍ في أمره، لأن الذي يعجل هو الذي يخاف الفوت.
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَـوَاتُ}، وهو أمر حدثنا الله عنه في أكثر من آية، تصويراً لفناء الأرض عبر تحولها إلى غبار منتشر، أو إلى قاعٍ صفصف، وتحول السماء إلى كونٍ تتناثر فيه الكواكب وتتساقط، وغير ذلك مما لم يوضح لنا تفاصيله، ومما لا نستطيع تصوّره بشكل واضح، لأننا لا نملك النموذج الذي نستطيع وعي الصورة من خلاله {وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}، في وقفة مواجهة حاسمة لنتائج أعمالهم في الدنيا، من خير وشرّ، حيث يعذب الله الكافر بكفره، ويثيب المؤمن بإيمانه.
{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ} مشدودين في الأغلال {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} أي ثيابهم من مادّةٍ شديدة الالتهاب، {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} التي يتصاعد لهيبها ليغطي وجوههم وهي صورة مرعبة للمصير المحتوم الذي يواجهه هؤلاء المجرمون الذين ساروا في خط الإجرام الفكري والعملي، ليفسدوا في الأرض على مستوى قضية العقيدة، أو على مستوى الشريعة، فكانوا حرباً على الله ورسوله، فضلوا وأضلوا، ومنعوا الكثيرين من السير في طريق الهداية، فكان جزاؤهم النار وبئس المصير {لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
وإذا كان البعض يستبعدون مثل هذا العقاب كجزاءٍ على جريمة الإنسان، لأنها مهما كبرت، فلن تكون بحجم هذا العذاب، فإننا نثير أمام هذا البعض أن العقاب لا بد من أن يكون منسجماً مع حجم النتائج العملية السلبية في حياة البلاد والعباد، وليس من الضروري أن يكون منسجماً مع حجم الجريمة على مستوى الكمّ، وأيّة جريمةٍ أفظع من جريمة الكفر بالله الذي يبعد الحياة عن الانسجام مع شريعة الله، في أوامره ونواهيه.
* * *
مقاصد تنزيل الكتاب
{هَـذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ} أنزله الله على نبيه، ليحدّد الفواصل بين الحق والباطل، وبين الخير والشرّ، {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} ليفكروا من موقع المسؤولية، بواقعيةٍ وموضوعيةٍ، فهو يتضمن منهجاً في التفكير وأسلوباً للحوار لا يسمح للخلاف أن يتحول إلى عقدة ذاتية لدى أطرافه، بل يجعله أرضية للتجاذب الفكري الذي يخضع للبراهين القويّة والبيّنات الواضحة، ما يجعله منطلقاً للبقاء، وفرصةً للوصول إلى نوعٍ من الصداقة الفكرية، أو التفاهم الفكري على الأقل، بما يثيره القرآن في نفوس المؤمنين من ضرورة الانطلاق في مواجهة الخلافات، من الهدف الإسلامي الكبير في تحويل الأعداء إلى أصدقاء، بدلاً من تحويل الأصدقاء إلى أعداء. ولعل أسلوب الإنذار والتخويف، يحقق بعض الصدمة النفسية القويّة التي قد تخلّص الإنسان من ذاتية الأنانية، وتدفعه إلى التفكير الموضوعي السليم، لأن الغالب في حالات استخدام الأساليب العدوانية، انطلاقها من غياب الشعور بالمسؤولية على مستوى وعي النتائج السلبية الكامنة في هذا التصرف أو ذاك.
{وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ} بما يمثله التوحيد من عنوان كبير للإسلام في دعوته وشريعته ومنهجه للحياة، لأن ذلك يربط الحياة بالله عملياً، حيث يجرّد الإنسان من أي انتماء أو علاقةٍ بالعناوين والأشخاص والأفكار والأشياء، التي تدخل الفكر والقلب والشعور من طريق غير طريق الله، كما هي حال كثير من الشخصيات التي يراد لها أن تطبع الإنسان بطابعها الذاتي على حساب ارتباط شخصيته بالله بهدف إبعادها عنه، كقاعدة مركزية للحياة.
على ضوء ذلك، ينبغي للمؤمنين أن يواجهوا قضية التوحيد والشرك من موقع ما تمثله من خط فاصل بين الانحراف والاستقامة، في جميع مفردات الحياة الخاصة والعامة على جميع المستويات، والمقياس الذي يمكن أن تقاس به صحة الأشياء وفسادها، في دائرة الخطأ والصواب، ولا يواجهونها كحالة فكرية مجرّدة لا عمق لها ولا امتداد.
إن التوحيد يختصر كل شيء في الفكر والشريعة والمنهج، فهو الذي يحدد للأفكار هويتها لا العكس، {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ} الذين ينفتحون على قضايا الحياة، في خط العقيدة والتشريع، من موقع العقل الذي يفكر، لا من موقع العاطفة التي تلتهب شعوراً. وبذلك يعملون على أن يقفوا أمام أية ظاهرةٍ، أو أيّة قضيّة، أو أيّ موقف يريدون أن يقفوه، موقف من يثير الوعي العميق الذي تمثله الذكرى، من خروج الإنسان من أجواء اللامبالاة بالأشياء التي تحيط به، إلى أجواء الاهتمام المسؤول، الذي يدعو الإنسان إلى الأخذ بأسباب المعرفة، والتحرك من خلالها إلى مواقع العمل، الذي يدعو الإنسان إلى الأخذ بأسباب المعرفة، والتحرك من خلالها إلى مواقع العمل.
إن القرآن هو البلاغ الصادر من الله إلى الناس، والذي يريد منهم أن يستمعوا إليه، أو يقرأوه، ليتمثلوه في وعيهم ووجدانهم، ليثير فيهم الخوف من نتائج المسؤولية، وليحرّك فيهم الاهتمام بالقضايا التي أراد الله لهم أن يواجهوها في حياتهم، في إطار الالتزام بأمره ونهيه، وليحطّم في داخلهم حالة الاسترخاء، والكسل الفكري والروحي، والضياع العملي، وذلك من أجل أن يتحوّل الإنسان إلى طاقةٍ حيّةٍ فاعلةٍ مسؤولةٍ، تفكر بالعقل، وتدعو إلى اعتباره أساساً لاكتشاف الإيمان، ولتحويل الإنسان من إنسان يقلّد إلى إنسان يبدع ويلتزم بالخط المستقيم المنطلق من رحاب الله، المتصل بمسيرة الرسل وآفاق الرسالات.
تفسير القرآن