تفسير القرآن
الحجر / من الآية 6 إلى الآية 20

 من الآية 6 الى الآية 20

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَقَالُواْ يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ* لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَة ِإِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ* وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ* وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ* كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ* لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ* وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ* وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ* وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ* إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ* وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شيْءٍ مَّوْزُونٍ* وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِراَزِقِينَ} (6ـ20).

* * *

معاني المفردات

{الذِّكْرُ}: القرآن.

{شِيَعِ}: جمع شيعة: وهي الفرقة المتفقة على مبدأ واحد ديناً وعقيدة.

{نَسْلُكُهُ}: ندخله.

{يَعْرُجُونَ} العروج : الصعود.

{سُكِّرَتْ}َ: سدّت.

{شِهَابٌ}: شعلة من النار.

{رَوَاسِيَ}: الجبال.

{مَّوْزُونٍ}: المقدّر بقدر.

* * *

طلب المكذبين رؤية الملائكة

{وَقَالُواْ يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ}، قالوها، على سبيل السخرية والاستهزاء، فقد نادوه بهذا النداء، في الوقت الذي كانوا ينكرون نزول الوحي عليه من قِبَل الله، وربما كان إتيانهم بالفعل المبني للمجهول، للإيحاء بكونهم يجهلون مصدر هذا الذكر، ما يبعث على عدم الوثوق به {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} لأنك تدّعي أمراً لا يدّعيه من يزن الأمور بميزان العقل. وكيف يمكن لبشر أن يدّعي نزول الوحي عليه من السماء، وهو أمرٌ لا يمكن حدوثه للبشر، لأن للنبوّة علامات لا نجدها عندك، {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} معك ليشهدوا بما تدعيه، فإتيانك بهم هو السبيل الوحيد للدلالة على أن هناك علاقة بينك وبين العالم العلوي الذي يمثل الملائكة جزءاً منه {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} بما يفرضه الصدق من وجود دلائل وعلامات عليه، {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ} وهذا جواب الله لهم على ما اقترحوه، فإن الله لا يُحدِثُ أيّ أمرٍ خارقٍ للعادة، كنزول الملائكة، إلا بالحق الفاصل الذي يستتبع نزول العذاب عليهم في حال إنكارهم له، فلا ينظرهم الله بعد ذلك، ولا يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة، وتلك هي سنة الله في عباده حال استجابته لما يقترحونه من معجزات، فهو لا يمهلهم بعدها إذا استمروا على التمرّد، ولعل هذا التفسير لكلمة الحق هو أقرب الوجوه لأجواء الآية، والله العالم.

* * *

حفظ الذكر

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} الذي تواجهون آياته بأساليب السخرية، دون وعيٍ أو مسؤولية، لأنكم لم ترتكزوا في موقفكم من الرسالة على موقع التأمل والتدبّر، لتعرفوا عمق الإعجاز فيه، وتلتفتوا إلى أن الله هو الذي أنزل آياته لتكون نوراً وهدىً للناس، وأنّ البشر لا يمكن أن يأتوا بسورة من مثله، لأن خصائصه الإبداعية شكلاً ومضموناً فوق قدرتهم، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من الضياع ومن التحريف، ليبقى وثيقةً إلهيةً معصومةً يرجع الناس إليها في كل جيل عندما تشتبه الأمور، وتضطرب الأفكار، وتختلط المفاهيم وتتحرك التيارات المضادة أو التحريفيّة، وتكثر الأكاذيب على صاحب الرسالة، فإن القرآن يبقى المرجع المعصوم الذي يمثل الحقيقة الإلهية في كل آياته، والميزان الصادق الذي يمكن للناس من خلاله أن يحددوا الحديث الصادق من الكاذب، عند عرض التركة الكبيرة من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول(ص) عليه، لأن ما خالفه زخرف، كما جاء في الحديث عن أئمة أهل البيت، بحيث يستطيع العارف بخصائص أسلوبه، أن يكتشف زيف كل كلمةٍ تضاف إليه، في ما يضعه الواضعون، أو يحرّفه المحرّفون، فلا تقترب الكلمة من الآية، إلا لتبتعد عنها، فلا تؤثِّر على سلامة النص القرآني في وعي المسلمين. وهذا ما نلاحظه في إجماع المسلمين، إلا شاذاً منهم، على أن النص القرآني الموجود بين يدي الناس، هو كل ما أنزله الله على رسوله دون زيادة أو نقصان، وأن الباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه.

* * *

بطلان التحريف

تنقل بعض كتب الحديث أحاديث تشير إلى زيادة كلمةٍ هنا، أو نقصان كلمةٍ هناك، أو سورةٍ كاملة في موضع آخر، ولكن الذين ينقلونها يلاحظون دائماً أن مثل هذه الكلمات لم تذكر بعنوان الإضافة إلى النص القرآني، بل بعنوان التفسير الذي يتناول المعنى المصداقي لها كما لو كان جزءاً منها، كما يلاحظون أن الكثير من هذه الأحاديث موضوعٌ من قِبَل بعض الكذابين الذين يريدون إرباك العقيدة الإسلامية، أو الرؤية الإسلامية للحياة فكراً وتشريعاً، أو الذين يريدون تأكيد بعض الخلافات الفكرية بين المسلمين من خلال القرآن.

وعلى ضوء ذلك، نلاحظ أنّ أيّ فريقٍ يتحدث عن مثل هذه التحريفات زيادةً أو نقصاناً، لم يستطع مسَّ النص القرآني وسلامته على مستوى الواقع في حياة الناس، فلم يحدث في شرق البلاد الإسلامية أو غربها أن وجدت ولو نسخة واحدة، تحمل أيَّة زيادةٍ أو نقصان في الكلمات المنسوبة إلى النص القرآني، ما يدلّ على عبثيّة هذا النوع من النقل أو الاعتقاد وعدم قدرته على النفاذ إلى واقع المسلمين، فقد بقي ذاك الادعاء مجرد روايةٍ في هذا الكتاب أو ذاك، ككثير من الروايات التي تتناقلها الكتب دون إحداث أيّ تأثير إيجابي في المسيرة الفكرية والعملية العامة.

* * *

مصحف الزهراء

يتحدث بعض الناس عن وجود كتاب اسمه «مصحف الزهراء» انطلاقاً من بعض الأحاديث المأثورة عن أهل البيت(ع) التي قد توحي لدى هذا البعض بأنّه يمثل «قرآناً آخر» أو شيئاً من القرآن، فمن خلال ما جاء في مضمون بعضها: (إنه ثلاثة أمثال قرآنكم)، (وما فيه حرف من القرآن). وفي بعض الروايات كما ورد عن الإمام جعفر الصادق(ع): (عندي الجفر الأبيض.. ومصحف فاطمة.. أما والله ما فيه حرف من القرآن ولكنه إملاء رسول الله وخط علي)، ما يوحي بأنه ليس مصحفاً كبقية المصاحف لجهة ما توحيه كلمة المصحف، ولكنه كتاب حديث يشتمل على أحكام الشرع ونحوها مما أملاه رسول الله على علي(ع)، وفي بعض الأحاديث أن فيه وصية فاطمة.

ولعل الملاحظ في مثل هذا الموضوع الذي يثير مثل هذه الضجة لدى كثير من الكتّاب، أنه يتحرك ضمن خطةٍ إعلاميةٍ تستهدف تسجيل نقطةٍ سلبيّةٍ ضد بعض المذاهب الإسلامية دون نقدٍ أو تمحيص، وفي الواقع أن أيّ مسلمٍ مخلص يستطيع أن يعرف كذب مثل هذه الإثارة، من خلال ملاحظة واقعية، وهي أنه لو فتش في شرق الأرض وغربها على نسخةٍ واحدةٍ من مصحف فاطمة، لم يجدها، لعدم وجود المصحف أساساً في كل الأوساط حتى بطريقة خفيّةٍ، كما أن أحداً لا يعتقد بوجوده.

* * *

تأويل القرآن لمصلحة الخلافات

ويبقى أن نتناول في شأن حفظ القرآن من قبل الله، التركة المثقلة من الأحاديث التي تتدخل في تفسير القرآن لمصلحة هذا الفريق أو ذاك، بالمستوى الذي يسيء إلى الفهم القرآني المنفتح عندما تحاصره التفاصيل من كل جانبٍ، ما يجعل النص القرآني أدباً رمزياً، لا تعبّر فيه الكلمة عن المعنى إلا بطريقةٍ بعيدةٍ جداً، تقصيه عن الأسلوب البلاغيّ، إلى درجة أننا نلاحظ من خلال ذلك، أن هؤلاء الناس قد يهمّهم حماية مذاهبهم وأفكارهم الخاصة، أكثر مما يهمهم حماية كتاب الله، إذ لا يكفي وجود حديث واحد من شخص ثقةٍ بحسب الموازين الفنية في علم الحديث، لنرفع اليد عن الإشراق التعبيري للقرآن بما يتضمنه من معنى، أو يدلّ عليه من ظاهرٍ، لأن القرآن يمثل الكتاب المعصوم الذي نقطع بصحة كلماته المنسجمة مع أروع الأساليب الفنية في اللغة العربية، فلا بد في تأويله والخروج عن ظاهره، من وثيقةٍ حديثية بالقوّة التي تتناسب مع قوته، أو تكون قريبةً منه مع ضرورة دراسة طبيعتها المضمونية ومدى ملاءمتها للأجواء العامة للقرآن روحاً ومنهجاً وفكراً.

إننا نضع هذه الملاحظة أمام المهتمين لدراستها، حتى لا نضيع في متاهات الأحاديث الكثيرة التي تؤول القرآن، وتتصرف في مضامينه، بطريقةٍ وبأخرى، دون أيّة محاكمةٍ دقيقةٍ، فنبتعد بذلك عن صفاء الوحي الإلهيّ، لنفرض عليه فكراً من فكرنا ونخضعه لخلافاتنا، فلا يصلح بعد ذلك لأن يكون حكماً في ما نختلف فيه، لابتعادنا عن صفاء مدلوله، وإشراق معانيه.

* * *

حفظ الله للقرآن.. في مستوى الحقيقة

إن استمرار القرآن لدى جميع المسلمين، في صيغةٍ واحدة، في ما يلتزمونه كمصدرٍ للتشريع، وفي ما يقرأونه في الصلاة وفي غيرها، وفي ما يثيرونه على ضوئه في حياتهم من مفاهيم وعقائد، هو دليل على حفظ القرآن، فليس هناك في العالم الإسلامي كله، ولا في غيره، صيغة أخرى أو نسخة أخرى يختلف فيها القرآن لدى مذهبٍ عنه لدى مذهب آخر، بالرغم من وجود كلمات شاذّةٍ هنا أو هناك، فإن مثل هذه الكلمات لم تستطع أن تنفذ إلى مستوى العقيدة العامة. وإذا كان بعض الذين ذهبوا إلى القول بالتحريف يملكون موقعاً متقدماً من حيث العلم والوثاقة لدى أهل مذهبهم، فإنهم لم يتمكنوا من النفاذ إلى واقع الناس العقيدي والعملي، كما أنهم لا يملكون الوعي الذي يستطيعون به إدراك خطورة هذا الاتجاه على مستوى العقيدة الإسلامية، عندما يتسرّب الخلل إلى النص القرآنيّ. هذا إلى جانب أن هؤلاء لا يملكون الذوق الفني الذي يعينهم على فهم أسرار اللغة العربية ليقارنوا بين هذه الكلمات التحريفية، وبين الأسلوب القرآني المعجز، فبقي كلامهم لغواً وجدلاً عقيماً لا قاعدة ثابتة له، غرضه تسجيل النقاط على غيرهم من الفرق لحسابات مذهبية أو سياسية، لذا لا بد من الابتعاد عنه عند تناول القرآن.

* * *

استهزاء الناس بالرسل من قبلك

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ} فلم تكن أول رسول يرسله الله إلى الناس، فقد سبقك رسلٌ كثيرون بعثوا إلى الأمم الأولى، التي بدأ تاريخها مع بداية التاريخ حتى يومك هذا، ولم يكن سلوك قومك معك وما لاقوك به من استهزاء، بدعاً من السلوك، فقد عايش أقوام الرسل الآخرين مثل ذلك السلوك مع رسلهم {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} لأنهم لا يستطيعون مواجهة الحجة، فيلجأون إلى السخرية، ليبرروا هروبهم من الحجة الدامغة، وابتعادهم عن خط الحق، وليُسقطوا عن الرسل تأثيرهم في المجتمع، لما يوحيه الاستهزاء من عدم الاحترام للشخصية التي يطالها.

{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} من خلال ما يشتمل عليه من إبداع الأسلوب وروعة المضمون، وإشراق الجوّ، ولكن مشكلتهم أنهم لا يعيشون إرادة الإيمان ليستريحوا إلى دلائله، وليفكروا في طروحاته، وليناقشوا أفكارهم على ضوئها كي يصلوا إلى معرفة الحقيقة الإيمانية، ولذلك فإنهم {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}، فقد سبقهم إلى هذه الطريقة، في مواجهة دعوات الرسل بالتكذيب والاستهزاء، آباؤهم وأجدادهم، هروباً من الإيمان وتجاوزاً لكل الموازين الفكرية والروحية والعملية التي تدعو إليه.

* * *

مظاهر كونية تدل على عظمة الله

{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ} استجابة لاقتراحهم إيجاد سبيلٍ يستطيعون من خلاله الوصول إلى العالم السماوي حيث يعيش فيه الملأ الأعلى من الملائكة وغيرهم، ليطلعوا على أسرار ذلك العالم التي قد تتضمن أسرار عالمنا الذي نعيش فيه، وما يتحكم فيه من نظم وقوانين، ما يسهل عليهم الوصول إلى الإيمان من أقرب طريق {لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} وغشيت بطريقة سحرية تحرك البصر في دائرة الوهم الذي يوحي برؤية ما ليس حقيقةً، {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} أي أن رؤيتنا تلك هي نتيجة السحر وليس استناداً إلى واقع. وخلفية هذا الرد أن هؤلاء المجرمين لا يفكرون بما يُعرض عليهم، لأن ذلك سوف يحرجهم أمام الحقيقة، وأمام أنفسهم، وأمام الناس، ولهذا فإنهم يتهربون باستمرار من كل الحجج التي تلاحقهم، برفضها أو بتأويل الظواهر، حتى إذا لم يجدوا مجالاً للهروب، أعلنوا العناد بكل صلفٍ وقساوة وكفران.

{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} منازل الشمس والقمر، التي خلقها الله على هذا المستوى وأطلق عليها اسم البروج، تشبيهاً لها بالقصور لعظمتها، وتدليلاً على القدرة الإلهية في إبداعها من الضخامة والعلو دون قواعد ثابتة ترتكز عليها، بالإضافة إلى ما فيها من نظام يمدّ الكون كله بالدفء والنور والحياة، ويحقق للناس النعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، حتى عادت السماء مظهراً للقدرة من جهةٍ، وللنعمة من جهةٍ أخرى.

{وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}، بما تمثّله الكواكب المتلألئة والنجوم الزاهرة من جمال وزينة تثير الشعور بالمتعة والجمال لدى الناظرين، وتحثهم على التفكير بما خلفها من عوالم وأكوان. {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} بوضع حاجز بين وصول تلك المخلوقات القادرة على الاطلاع على أسرار الخلقة وعظمة التكوين وأخبار العالم العلويّ بما تملكه من قدراتٍ ذاتيةٍ أودعها الله فيها، وبين السماء، لمنعها من اختراق الحجب، والوصول إلى ما خلفها من عوالم، {إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} فنفذ من خلال بعض الثغرات التي يحاول أن يستمع منها إلى بعض ما يدور في أجواء السماء، ولكنه لا يبلغ هدفه، لأنه كلّما اقترب منها وحاول الوصول إلى ما يريد، سلّط الله عليه شيئاً يمنعه من ذلك، {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} مثل الشعلة الملتهبة الخارجة من النار، كما نلاحظ في الأجرام المضيئة، كأنّ الواحد منها كوكب ينقضّ دفعة واحدة من جانبٍ إلى آخر ثم لا يلبث أن ينطفىء.

وقد يتساءل المرء عن المنطقة التي يمكن أن ينفذ إليها الشياطين لاستراق السمع، وما هي هذه الأحداث التي تدور في هذا العالم الذي يسمى السماء، هل هناك ملائكة يتحدثون بأسرار الكون وقضايا الناس فيحاول الشياطين التعرُّف عليها، ليملكوا من خلالها السيطرة على العالم الأرضي؟ وما هي هذه الشهب، هل هي مثل الأجرام التي نشاهدها في السماء، أم أنها حواجز طبيعية تمنعهم من الوصول إلى غاياتهم؟ أو ماذا؟ إنها علامات استفهام مفتوحة على علامات استفهامٍ أخرى عند الدخول في التفاصيل، ولكن الإجابة عنها غير موجودة بشكل كاف يشفي الغليل ويرفع الحيرة. لذا يحسن أن نترك أمرها إلى الله، لأنها في دائرة الغيب الذي احتفظ به لنفسه، ولم يعرّفنا تفاصيله، ولم يكلفنا معرفته، لعدم امتلاكنا وسائله.

{وَالاَْرْضَ مَدَدْنَاهَا} في هذا الامتداد المنبسط طولاً وعرضاً الذي جعلها صالحة للحياة وللسكنى، وللزرع ولغير ذلك، ولولا ذلك لما استطاع الموجود الحيّ أن يتحرك أو يحيى فيها بسهولة، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} ثابتة في أعماقها، لتمنعها من الاهتزاز، وهي الجبال الشامخة {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} على أساس التقدير الذي يراعي الحاجة بشكل دقيق، من حيث الخفة والثقل، فلكل شيءٍ أودعه الله في الأرض من النبات وغيره، ميزان دقيق يوازن بينها وبين ما تحتاجه الحياة والإنسان، فلا يزيد شيء عن الحاجة، ولا ينقص عنها، ولكل شيء منها تقديره الذي يتحقق فيه التناسب والانسجام بين الأمور، ضمن النظام الذي يحكم الأشياء بالحكمة والتقدير، {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} مما تأكلون وتشربون وتحفظون به حياتكم {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} من مخلوقات سخرناها لكم دون أن نجعل رزقها عليكم، كالحيوانات وغيرها، بل تكفلنا برزقها.

في هذا العرض السريع، حيث تلتقي العظمة بالنعمة، وتنطلق الحياة ضمن نظام متوازنٍ زاخرٍ بالروعة والجمال، ويتحرك الإنسان في رعاية الله وحمايته التي تدبر كل شؤونه وأموره، حتى يشعر بأن الحياة كلها له، وفي خدمته، ليشكره على ذلك من موقع الإحساس بضرورة الانسجام في حركته مع النظام الكوني الذي أراد الله أن لا يسيء إليه الإنسان، بالانحراف عن غاياته ومقاصده، وهكذا نجد في هذا الجو الكوني ما يدفع الإنسان إلى الشعور بالروحانية الفيّاضة بالرحمة واللطف الإلهيين، ليرتبط بالله أكثر، إحساساً بارتباط كل وجوده به، في كل شيء، ومع كل شيء. وبذلك يلتقي، في داخله، جانب الإحساس، بجانب التصور في حالةٍ مشرقةٍ من وضوح الرؤية وسلامة الشعور.