من الآية 21 الى الآية 25
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ* وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ* وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ* وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (21ـ25).
* * *
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه
تجسد هذه الآيات قصة العقيدة التوحيدية الصافية التي تتطلع إلى الله، ولا تتطلع إلى غيره، في كل شيءٍ موجود في حركة الحياة، أو تنتظر وجوده. إنها كلمات الله في خلقه ونعمه التي يشتمل عليها التكوين من حقائق وموجودات تتصل بالواقع الكوني، وترتبط بنظامه، وتتكامل في عملية تحقق الوجود وتطوّره، بطريقةٍ تدريجيةٍ، كالينبوع الذي يختزن في داخل الأرض البحيرات الكبيرة، ولكنه يتفجّر بالعطاء تدريجياً. فالأشياء كلها مخزونةٌ في علم الله، وحاضرةٌ في قدرته، ومتحركةٌ من خلال حكمته، وتلك هي الحقيقة الإلهيّة التي تقف الأبصار شاخصة إلى ما تراه منها وإلى ما لا تراه، وتخشع النفوس خاضعةً، لما تحتويه ولما لا تحتويه، فهو مصدر الفيض، وسرّ وجود كل شيء.
{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} في ما يتمثل في الإحاطة العلمية بالأشياء من خزائن، وفي ما يتمثل في ساحة القدرة من مواقع وآفاق، هل هو المطر الذي يختزنه الله في الأعماق وفي الآفاق، أو هو الأشياء كلها؟ الظاهر من الآية، أن المسألة تتحرك في خط الشمول، لأنها واردةٌ في مجال تحديد القاعدة الكلية لإحاطة الله بالأشياء وقدرته عليها، ولا خصوصية لخزائن الماء في ذلك. {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} توحي كلمة الإنزال بالعلوّ في المكانة والقدرة، وليس من الضروري أن تكون دالّة على الجانب المكاني منها لتختص بما ينزل من السماء من مطر، وهكذا أجرى الله الحياة على نظام دقيق، تتجدّد فيه الأشياء وتتدرّج في تكاملها في خط الامتداد، كما تتكامل في خط العمق والعرض والارتفاع، تبعاً للحكمة في تقدير حاجة الحياة إلى ذلك.
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} أراد الله في حركة هبوب الرياح أن تحمل الذرات التي تكمن في نطفة ذكور النبات لتلقح بها إناثها على أساس قانون الزوجية التي قررها القرآن في الكون كله.. وربما يرى البعض أن المسألة تتصل بدور الرياح في عملية إنزال المطر، من خلال ما تحدثه من الحركة في أجواء السحاب، وهو أمر محتمل، ولكنه ليس بواضحٍ {فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} فهو المصدر الأساس لكل الماء الموجود في خزانات الأرض الجوفية، وعلى سطحها، مما يشربه الإنسان والحيوان والنبات {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} بل هو من خزائن الله المودعة في علمه وفي قدرته، فهو الذي يدفعه إليكم، وهو الذي ينظم حركته على سطح الأرض، وفي أعماقها، وهو الذي يحوّلها إلى طاقةٍ حيّةٍ في كل شيء حيّ في الحياة.
{وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ}، من خلال السنّة الجارية في الكون في قوانين الحياة والموت {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} الذين نرث الأرض ومن عليها بعد أن تنتهي الحياة فيها ويموت الخلق جميعاً، لأن الله هو الواحد الذي لا شريك له في ملكه، ولا انتهاء لقدرته، وهو الحيّ القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأخِرِينَ} لأن الزمن لجهة ما يحتويه من موجودات، حاضرٌ بكل مراحله أمام الله، فلا فرق في إحاطة علم الله وقدرته بها بين الموجودات السابقة والموجودات اللاحقة، {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} بعدما يبعثهم إليه، ليكون الجزاء بالأعمال {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} في تحديده حركة المسؤولية في الحياة، ونتائجها في ما بعد، وفي علمه بكل ما أسرّوه وما أعلنوه.
تفسير القرآن