تفسير القرآن
الحجر / من الآية 26 إلى الآية 48

 من الآية 26 الى الآية 48

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَأنَ مِن صَلْصاَلٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ* وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ* وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ* قَالَ يا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ* قَالَ لَمْ أَكُن لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ* قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ* قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ* إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ* قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ* قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ* إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ* لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ* إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ* وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ* لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (26ـ48).

* * *

معاني المفردات

{صَلْصاَلٍ}: الطين اليابس غير المطبوخ.

{حَمَإٍ} : الطين المتغير إلى السواد.

{مَّسْنُونٍ}: المتغير.

{سَوَّيْتُهُ}: أتممته.

{رَجِيمٌ}: أي مرجوم، والمراد به هنا المطرود من رحمة الله.

{فَأَنظِرْنِي}: أمهلني.

{سُرُرٍ}: جمع سرير.

{نَصَبٌ}: التعب.

* * *

عقدة الشيطان من الإنسان

بداية خلق الإنسان، كيفيتها ومصدرها وظروف صراعه مع إبليس، ونتائجه، قضايا كرر القرآن الحديث عنها في أكثر من سورة، ليذكر الإنسان أولاً بأصله الترابي ويدفعه إلى الإحساس الدائم بالتواضع كحقيقةٍ من حقائق إنسانيته، وليذكّره ثانياً، بالعقدة الإبليسية التي تشكلت مع بداية خلقه على الأرض، فقد أعلن إبليس الحرب على الإنسان لمنعه من الإيمان، ومن التحرك الإيجابي في خط المسؤولية أمام الله، لإبعاده عن طاعة الله، وعن رحمته وجنته، تنفيساً لعقدة إبعاده عن الجنة، بإبعاد الأكثرية من أولاد آدم عنها.

* * *

مادة خلق الإنسان والجان

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}، الصلصال هو الطين الجافّ، باعتبار أن أصل الكلمة هو تردد الصوت من الشيء اليابس، فاستعير لكل شيءٍ يابس، باعتبار أن اليباس يبعث على تردد الصوت، والحمأ هو الطين الأسود المنتن، والمسنون هو المتغير، ومنه قوله تعالى: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259] أي لم يتغير، كأنّ الله خلق الإنسان من تراب، ثم تحول التراب إلى طين، ثم تركه حتى جفّ وتغيّر واسودّ وأنتن.

{وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} وهو مخلوق حي عاقل يعيش مع الإنسان على الأرض ولكن في مجتمعٍ منفصل عنه، دون أن يبرز أي مظهر من مظاهر حياته أو حركته على الأرض مع الإنسان، إلا في حالاتٍ خاصة، وهو مخلوق كالإنسان تماماً يعقل ويفكر ويتحمل المسؤولية أمام الله في الحياة، ثم يموت ويبعث ليواجه نتائج المسؤولية، لكنه يتميز عن الإنسان بحرية أكبر، لما أودعه الله فيه من خصائص وأسرار، لا نملك إمكانية اكتشافها لمحدودية طاقاتنا وتجاربنا في هذا المجال، كما أننا لا نملك أيّة وثيقةٍ حيّة للوصول إلى ذلك إلا ما عرفنا الله إياه في كتابه، أو ما شرحه النبي في سنته، مما ثبت النقل فيه عنه بشكلٍ موثوق. وقد بيّن الله لنا في هذه الآية، أنه خلق الجان من نار السموم، ولعل المراد بها الريح الحارّة التي تؤثر تأثير السمّ، كما أفاد الراغب[1] في تفسير معناها، مما حوّلها إلى نار، أو جعلها قريبةً إلى النار، ولكن كيف كان ذلك؟ هذا ما لم يبيّن لنا الله أمره.

ولكن لماذا بيّن الله لنا هذه الحقيقة التكوينية؟

لعل السبب في ذلك أن إبليس كان من الجن، كما شرح الله لنا في آيةٍ أخرى، وأن شعوره بامتياز مادّة خلقه وهي النار على التراب الذي هو مادة خلق الإنسان، هو الذي جعله يرفض الأمر الإلهي بالسجود للإنسان.

* * *

الأمر بالسجود لآدم

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} كملت خلقه حتى تمّت صورته {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} توحي كلمة النفخ بوجود تجويف داخليّ، لأن معنى النفخ إدخال الهواء في الجسم بفمٍ أو بغيره، وتوحي كلمة (روحي) بقدرة الله الذي أبدع الروح في داخل جسم الإنسان، كقوّةٍ مستقلةٍ في ذاتها عن البدن، ولكنها تتصل به لتحرك فيه الحياة، ثم تنفصل عنه ـ بعد ذلك ـ لتموت فيه الحركة والحياة. {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} لأن هذا المخلوق يتميز بصفات تجعله في موقعٍ متقدمٍ عن غيره من الموجودات، لحمله رسالاتي، وقيامه بعبادتي، وإدارته شؤون بناء الحياة على الأرض خلافة لي، وتحكيمه الإرادة القويّة في عملية الاختيار بين الخير والشر في عملية المواجهة والصراع وغير ذلك من الأمور التي تجعل منه مخلوقاً مميّزاً، ما يفرض على الملائكة أن يسجدوا له، تحيّةً لله وخضوعاً، أو يسجدوا لآدم، تعبيراً عن خضوعهم لما يريد الله أن يخدموا به مصالحه التي أوكل الله إليهم أمرها كما يحتمل بعض المفسرين. وعلى كل حالٍ، فإنه أمر إلهيٌّ لا بد من إطاعته، كأيّ أمرٍ آخر، وليس للملائكة الاعتراض، أو السؤال عما لا يريد الله أن يعرّفهم به. وهكذا وقف الملائكة وقفة الخضوع لله {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}لم يتخلف منهم أحد عن هذه الفريضة {إِلاَّ إِبْلِيسَ} الذي كان يعيش في مجتمع الملائكة كأيّ واحد منهم، وهكذا كان الأمر متوجهاً إليه، كما هو متوجهٌ إليهم، ولكنه لم يكن منهم، بل كان من الجن ففسق عن أمر ربه و {أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} بل وقف وقفة التمرد والكبرياء، في حالةٍ نفسيةٍ معقدةٍ خاضعةٍ للنوازع الشريرة التي ينسى فيها عواقب فعله، وموقعه من ربّه {قَالَ يا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} هل هي غفلةٌ، أو نسيان، لما تفرضه عليك طبيعة العبودية من استسلام لأمري دون أيّ توقّفٍ أو تأمّلٍ أو اعتراضٍ أو تمرّد؟ وكيف حدث ذلك منك؟ ولماذا؟

* * *

معصية إبليس

{قَالَ لَمْ أَكُن لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}، فلم أعصك يا رب من موقع التمرد عليك، فقد عبدتك طويلاً، وأطعتك كثيراً، ولكن المسألة أنك أردتني أن أسجد لمخلوقٍ مثلي، لم أستطع أن أفهم معنى السجود له، فإذا كان ذلك لعلوّ مكانته، وتعبيراً عن الخضوع له، لتكون حياتي في خدمته، فإن مكانتي تعلو مكانته، فقد خلقته من طين أسود منتن، بينما خلقتني من نارٍ تنطلق منها الشعلة الملتهبة اللافحة التي تفني التراب، وتفتّت الطين، وبذلك يفقد السجود معناه، وإذا كان السجود لك سجود تحية له، فالمسألة هي المسألة، لماذا لم يسجد هو لي، ما دمت أفضل منه؟!

* * *

طرد إبليس من الجنة

{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أي مطرود من الجنة ومن رحمتي، فهذا هو الجواب عن موقفك، فلا مكان في الجنة إلا للمطيعين لله، الخاضعين لأوامره ونواهيه {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}.. بما تمثله اللعنة من إبعادٍ عن رحمة الله، لأنه افتتح معصية الله في الكون من موقع الكبرياء الذي يبغضه الله لأنه رداؤه الذي تفرّد به، فكيف إذا كان ذلك الكبرياء سبيلاً للتمرد عليه في مواجهة أمره المباشر، وهكذا كانت هذه المعصية مميّزةً عن بقية المعاصي، لأن إبليس كان مصرّاً على الاستمرار في مواجهة الأمر الإلهيّ بالتمرُّد، لأن موقفه من الإنسان كان موقف عقدةٍ، لا حالةً طارئةً، وهذا ما يكشفه موقفه المستقبلي من الإنسان، حيث يفكر بإلحاق الأذى به في كل مكان وزمان.

* * *

إمهال إبليس إلى الوقت المعلوم

{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أمهلني إلى آخر موعدٍ تتحرك فيه المسؤولية في حياة الإنسان، وإلى آخر يوم يقف فيه ليواجه نتائج المسؤولية بين يديك. إنه آخر طلبٍ أقدّمه إليك، فإذا كنت قد عصيتك الآن، فقد أطعتك في ما مضى كثيراً.. إنها رغبتي الأخيرة، لأني إذا كنت فقدت الجنة بسبب هذا المخلوق الذي سيمتد في ذريته إلى وقت طويل، فلا تحرمني فرصة الثأر لنفسي منه. واستجاب الله دعاءه، لا لكرامةٍ منه عليه، ولكن لأن رغبته تلك التقت بالحكمة الإلهيّة التي شاءت أن يعيش الإنسان حركة الإرادة والاختيار من مواقع الصراع بين الخير والشر، والحق والباطل، تماماً كما أراد لأبيه آدم أن يكون كذلك، فلا بد من عنصر يثير الإحساس بالشرّ ويقوّيه في نفسه، في مواجهة العنصر الذي يثير الخير فيها وينمّيه، ليختار الخير من موقع القناعة، ويرفض الشرّ من موقع وعيه للعناصر التي تقوده إليه، ومقاومته لتأثيرها في موقفه.. وإذا اختار الشرّ، فإنه يختاره من موقع الإرادة التي تتحمل مسؤوليتها، على أساس الوعي للنتائج السلبية في هذا الجانب، وللنتائج الإيجابية في الجانب الآخر.. فتقوم الحجة عليه، بذلك، من عند الله، لتكون الحجة البالغة له في كل عناصر الاختيار لدى الإنسان {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ* إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}. إن لك أن تعيش جنباً إلى جنبٍ مع هذا الإنسان في جميع مجالات حياته، فالساحات مفتوحةٌ لك معه، كما هي الساحات مفتوحةٌ له معك، لكلٍّ منكما إمكانات الصراع وأدواته، ومن الطبيعيّ أن تكون الغلبة للأقوى في هذه الساحات، لتقفوا غداً بين يديّ في اليوم الحاسم المعلوم الذي يعرفه المطيعون والعاصون على السواء. وبذلك حصل إبليس على ما يريد، فاطمأنّ وبدأ يكشف عن نواياه وعن مشاريعه التضليلية في حياة الإنسان.

{قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} وألقيت بي في مهاوي الغيّ، ومواقع الضلال، وأبعدتني عن ساحات رحمتك وطردتني من جنتك، بسبب هذا المخلوق الضعيف {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} المعصية، وأحوّل الحق في نظرهم إلى باطل، وأتفنّن في إبداع وسائل الإغواء والإغراء، وفي تغيير الصورة الحقيقية للأشياء، فأجعل الحسن قبيحاً عندهم، وأجعل القبيح حسناً في نظرهم، وأزيّن لهم الأوضاع المنحرفة الشاذّة، لتبدو مستقيمة معقولة لديهم، حتى أصرفهم عنك وعن صراطك المستقيم، {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} لأني أملك لكل فريقٍ منهم وسيلةً تمكنني من دخول عقله وقلبه، فهناك من يغويه الجمال، أو المال، أو الجاه، وهناك من تغويه العصبية، وتتحكم به الأنانية، وهناك من تلعب به الأوهام، وتضيّعه الأحلام، وتعبث به الأفراح والالام.. وهكذا أجلب الجميع إلى ساحتي، حيث الغواية اللاهية العابثة التي ترهق العقل، وتتعب الفكر، فلا يهتدي إلى الرشد سبيلاً، {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} الذين أدركوا الحقيقة في عمق المعرفة، فأخلصوا لك من خلال صفاء العقيدة، وروحيّة الإيمان، وصلابة الموقف، وصدق الالتزام، فراقبوك في سرِّهم وعلانيتهم، فخلصت لك نيّاتهم وأعمالهم، وأحسّوا تجاه ربوبيتك المطلقة إحساس العبودية المطلقة، فكان لهم في طاعتك شأنٌ عظيمٌ، وفي الإخلاص لك دورٌ كبير، حتى تحوّلت الحياة عندهم إلى موقف عبادةٍ، في كل حركة حياة، فلم أستطع النفاذ إليهم من أيّة زاويةٍ من زوايا فكرهم، ولم أتمكن من الدخول إلى خلفيّات مواقفهم، أو إلى عمق مشاعرهم، ولم أقترب من أحلامهم وتطلعاتهم وأهدافهم في الحياة، لأنهم كانوا معك في كل ذلك، فلم يتركوا لي فراغاً أملك فيه حرية الحركة، وإمكانات الإغواء والإضلال.. هؤلاء الذين أعطاهم الإيمان قوّةً روحيّةً في الداخل، فاستطاعوا أن يحققوا لحياتهم مناعة في الخارج. هؤلاء لا يملك الغي إليهم سبيلاً، ولا يلتقي بهم الانحراف في أيّ موقعٍ، {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ}، إنه الخط الذي لا التواء فيه ولا انحراف، الذي جعله الله قاعدة لحركة الإنسان في الحياة، يفصل من خلالها بين من يسقطون أمام التجربة الصعبة وبين الذين يملكون التماسك أمام الاختيار الصعب.

{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} لأنهم يملكون مواقفهم من حيث يملكون إيمانهم، ويسيطرون على أنفسهم من حيث يسيطرون على نوازعهم وشهواتهم، لأن من ملك نفسه ملك شهوته، ومن ملك شهوته فلا مجال لأيّ سلطان للشيطان عليه، لأن الشيطان لا يأتي الإنسان إلا من خلال نقاط الضعف التي تفتحها شهواته ونوازعه، ولهذا فإنك لا تملك أي سلطان على السائرين في هذا الاتجاه، {إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} الذين عاشوا الحياة في أجواء اللامبالاة في خط العقيدة، وساحة العمل، فضلّوا الطريق إلى الحق، والتقوا بك في أجواء الضلال، فاتبعوك في ما سوّلت لهم من معاصٍ، واستسلموا إليك في ما زينت لهم من وجه الباطل {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}، فهي الموعد الذي ينتظر الكافرين والمشركين والطاغين والباغين والمتمردين على الله {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} فهي تتسع للداخلين إليها، ولا تضيق عن أحدٍ منهم، لأنها تنفتح من خلال هذه الأبواب على أكثر من موقع، ولكل فريق منهم باب يدخل منه تبعاً لموقعه من العذاب والنار نوعاً وموقفاً، فقد قسّم الله مواقع النار على الكافرين من عباده بما يتناسب مع طبيعة كفرهم.

* * *

حال المتقين في الجنة

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} الذين اتقوا الله في ما فكروا به، فلم يفكروا إلا خيراً، وفي ما تكلموا به، فلم ينطقوا إلا بحق، وفي ما عملوه، فلم يعملوا إلا بطاعة الله، وإذا طاف بهم الشيطان في بعض أمورهم، فإنهم يفتحون عيونهم على الله، فتزول الغشاوة عنهم، ويبصرون الصراط المستقيم في وضوحٍ من الرؤية، ويلتقون بالإيمان في سلامةٍ من التفكير، هؤلاء الذين عاشوا الحياة من مواقع المسؤولية عندما عاشوها في ساحات التقوى، أعد الله لهم جناته التي تتفجر فيها الينابيع بالماء الصافي صفاء نفوسهم، العذب عذوبة مشاعرهم، وأعطاهم فيها روح السلام.

{ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} إنه النداء الإلهيّ الذي ينطلق باللطف والرحمة لينساب في أرواحهم أمناً وسلاماً، فلا يحسون معه بخوف، ولا يشعرون أمامه بحزن، بل هو السلام الهادىء العميق والسرور المنفتح على كل جمالات الجنّة وأفراحها.. وتلك هي النهاية الحلوة السعيدة التي يتطلع إليها المؤمنون الأتقياء عندما يعانون آلام الحياة، ويعيشون مشاكلها، ويواجهون صعوباتها، ويصبرون على سلبياتها، من أجل الله، في ما يحملونه من رسالاته، وفي ما يتحرّكون به من أوامره ونواهيه.

{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} أي من حقد، فأهل الجنة يعيشون المحبة بعيداً عن الحقد، لأن الحقد لا مكان له في النفس المؤمنة، لا سيما في رحاب الجنة التي تتسع لتطلعات كل الناس ومشتهياتهم، فلا تخص بذلك، من أهلها، قوماً دون قوم، ليتنازعوا على ما فيها كما كانوا يتنازعون في الدنيا، ولا تضيق بجماعةٍ دون جماعةٍ، ليتزاحم الناس على هذا الموقع أو ذاك، كما كانوا يفعلون في الدنيا، فيؤدّي بهم ذلك إلى العداوة والبغضاء. وهكذا يعيشون الانفتاح الروحي على مجتمعهم كله، ويلتقون في مواقع المحبة والرحمة {إِخْوَانًا} بما توحيه الأخوّة من معاني الإخلاص والحب والمواساة والعطف والحنان {عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} في جوّ من الانفتاح الكامل على بعضهم البعض، فلا حجاب يحجبهم في حياتهم، ولا حواجز تحجز أحدهم عن الآخر، {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} وهذه هي الصورة التي يريد الله للناس أن يعيشوها في الدنيا، وربما كانت الآية إشارةً إلى عدم وجود الغل في صدورهم لجوّ التقوى الذي يعيشونه، ويكون التعبير بالنزع كناية عن ذلك؛ والله العالم.

ـــــــــــــــــــــ

(1) الراغب الاصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن، دار الفكر، ص:247.