تفسير القرآن
الحجر / من الآية 49 إلى الآية 84

 من الآية 49 الى الآية 84

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ* وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ* إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ* قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ* قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ* قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقانِطِينَ* قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ* قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ* قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ* إِلاَ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ* فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ* قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ* قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ* وَآتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ* فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ* وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَـؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ* وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ* قَالَ إِنَّ هَـؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ* وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ* قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ* قَالَ هَـؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ* لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ* فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ* فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ* إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ* وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ* إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ* فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ* وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ* وَآتَيْناهُمْ آياتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ* وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ* فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ* فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (49ـ84).

* * *

معاني المفردات

{الْغَابِرِينَ}: الغابر: الباقي والماكث، وقد يستعمل فيمن ذهب ومضى.

{بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ}: طائفة منه.

{وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ}: كن على أثرهم.

{وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ}: أوحينا اليه.

{مُشْرِقِينَ}: أي داخلين في وقت شروق الشمس.

{لِلْمُتَوَسِّمِينَ}: أصحاب الفراسة الصائبة.

{الاَْيْكَةِ}: الشجر الملتف الكثيف.

{لَبِإِمَامٍ}: للإمام معان شتى والمراد به هنا الطريق.

* * *

تقابل المغفرة والعذاب

{نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أخبرهم هذه الحقيقة، ليقودهم ذلك إلى الرجوع إليّ من موقع الإحساس بأن الخطيئة يمكن أن تذوب أمام المغفرة، وبأن الخاطىء يمكن أن يأمل بالرحمة، ليبدأ من جديد حركة المسؤولية في الخط المستقيم، في جوّ روحيٍّ حميمٍ، يبعده عن نوازع اليأس، {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} وهذه حقيقة أخرى تقف قبالة حقيقة المغفرة الإلهية، وتوازن في وعي الإنسان بين ما يفتح للقلب أبواب الرجاء ويحفظه من الانغلاق على مشاعر اليأس، وما يفتح الضمير على أجواء الخوف ويمنعه عن الامتداد في العصيان، وهذا ما يجب أن يعيشه الإنسان العاصي أمام ربّه لتتحرك في داخله كل العناصر التي تحفظ له إنسانيته وتدفعه إلى خط التوازن في مشاعره الروحية، ومشاريعه العملية.

* * *

ضيف إبراهيم والبشرى بالولد

{وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} الملائكة الذين أرسلهم الله إليه بمهمّةٍ محدّدةٍ تتحرك في خط الرحمة من جهةٍ، وفي خط العذاب من جهةٍ أخرى، {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا} في تحيّةٍ روحيّة تنفتح على كل معاني السلام في المواجهة، لتثير كل المشاعر الحميمة على مستوى العلاقة، {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} لعدم وجود أي علاقة سابقة لكم توحي بالأمن، كما أنّ طبيعة الأجواء المحيطة بقدومكم وغرابتها، أو الأشكال المثيرة التي تتمثلون فيها، توحي بوجود شيء خفيّ ينذر بالخوف، {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ} لا تخف، فليس لك عندنا إلا الخير والفرح، فنحن رسل ربك القادمون إليك برسالةٍ منه تحوي أكثر من قضيّة، {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} يملك المعرفة الواسعة التي تؤهله لأن يكون ذا شأنٍ كبير. وكانت مفاجأة إبراهيم كبيرةً في هذا الخبر، لأن إنجابه طفلاً بعد هذا السن الكبير أمر يتخطى المألوف في الطبيعة في هذه المسألة، مسألة ولادة ولدٍ له بعد هذا السنّ الكبير الذي قد لا يوحي بذلك، خاصةً وأن امرأته لم تكن في سنّ الحمل، أو أنه مر عليها زمن طويل لم تحمل به، ما جعل احتمالات العقم لديها كبيرة، {قَالَ أَبَشَّرْتُمُوني عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} إنكم تتحدثون بأشياء لا يتقبلها الوجدان في ما ألفناه من هذه الأمور {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} الذي انطلق من وحي الله وإرادته وقدرته التي يتسع لها كل شيء، {فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ} اليائسين، لأنّ اليأس متعلق بالنظر من زوايا ضيقة تحاصر قدرة الإنسان وإرادته، لتحصرها في داخلها المحدود. أما عند النظر في الآفاق اللانهائية التي تنطلق في رحاب الله وسعة قدرته، فلا مجال إلا للأمل الكبير الواسع الذي تسقط أمامه كل نوازع اليأس والتشاؤم، لأن الحدود والحواجز والموانع كلها تتهاوى أمام الامتداد اللانهائي لقدرة الله، فكيف يمكن لك أن تقنط من أن يرزقك الله ولداً بعد هذه السن المتقدمة. {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} الذين لا يعرفون الله حق معرفته، ولا يملكون الوعي الإيماني الذي ينفتحون فيه على الله بالنظرة الواسعة والفكرة المشرقة والخط المستقيم.

* * *

الإرسال إلى قوم لوط

{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}، ما هي قصتكم؟ وما هي حاجتكم؟ هل هناك شيءٌ آخر غير هذه البشارة، لأنني لا أجد فيها مبرراً لهذه المظاهرة الملائكية القادمة من عند الله؟ إنني أتصور أن هناك مهمّةً موكولةً إليكم في شأن يتعلق بواقع الناس.

{قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ}، وهم قوم لوط الذين تمرّدوا على الله، ومارسوا الجريمة الأخلاقية، بعد جريمة الكفر والضلال، لنعذبهم بأمر الله، ولندمّرهم جميعاً {إِلاَ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} فلا يمسّ أحداً منهم السوء، ولا ينالهم العذاب {إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} الهالكين، لأنها سارت مع قومها في خط التمرُّد على الله ورسوله، فلم تُغن عنها علاقتها الزوجية بلوط أيّ شيءٍ.

وهكذا انتهت مهمتهم لدى إبراهيم، واتجهوا إلى لوط لإخباره بالقرار، {فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ *قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} فليست لنا أية معرفةٍ سابقةٍ بكم، فمن أنتم؟ وما هي قصتكم؟ وماذا تريدون؟ إن المسألة توحي بجهل مطبق يعيشونه، {قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} ويكذبون به من العذاب والهلاك الذي كنت تنذرهم به {وَآتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} في وعيدنا، وسترى ذلك بعينيك عندما تحل الساعة الحاسمة، وتتم كلمة الله عليهم، وينزل عليهم الغضب منه، وما عليك إلا تلقِّي التعليمات {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ}، عندما يتقدم الظلام وينتشر، وقبل أن يطلع الصبح، لئلا يكتشف أحد أمرك، فيعطلوا مهمتك في الإسراع بالنجاة {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} وكن في آخرهم لترعاهم وتتفقدهم لئلا يضيعوا في هذا الظلام البهيم {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} خلفه لئلا يرى العذاب النازل فيفزع أو يجزع، أو لشيءٍ آخر {وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} حيث يريد الله لكم أن تصلوا إلى نقطة تحقّق لكم النجاة. {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤلآْءِ} أي آخرهم، كناية عن استيعاب الهلاك لهم جميعاً، وذلك بالتأكيد على الآخر الذي يوحي بما يحدث للأول {مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} فإذا جاء الصباح فلن يبقى منهم أحد، ولا يرى لهم أثر. وهكذا عرف لوط طبيعة المهمّة التي جاؤوا بها، ونوعية النتائج المنتظرة التي قد تحدث في اليوم الثاني.

* * *

تمادي قوم لوط في الفحش

{وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ}. فقد جاءتهم هذه الغنيمة الجديدة التي يستطيعون من خلالها إشباع رغباتهم الجنسية الشاذّة، فربما كانوا يعيشون حالة جوع جنسي إلى نوع جديد من البشر، بعد أن استهلكوا أنفسهم في هذه الفعلة الشنيعة.. وقد يكون الملائكة الذين جاؤوا إلى لوط في صورة فتيانٍ صباح الوجوه، يُحركون الشهوة. وهم في موقع ضعفٍ، لأنهم أضياف لوط الذي كان ضعيفاً بين قومه. وفوجىء لوط بهم وأخذه الإحساس بالحرج الشديد، لا سيّما بعد أن اطّلع على شخصيتهم الملائكية المتمثلة في صورة بشر، ما يجعل جريمة الاعتداء عليهم مضاعفةً {قَالَ إِنَّ هَـؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ} بالاعتداء عليهم، ما يجلب لي العار عندما يتناقل الناس خبر عجزي عن الدفاع عن ضيوفي ضد من اعتدوا عليهم {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} وراقبوه في شأن ما تقدمون عليه من فحشاء {وَلاَ تُخْزُونِ} فإن في ذلك الخزي كل الخزي بالنسبة لي. {قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} فلماذا تستقبل ضيوفاً، إذا كنت لا تريد لنا أن نعتدي عليهم، وربما كان المعنى، لماذا تجير أحداً منهم، أو تدفع عنهم، أو تمنع بيننا وبينهم، انطلاقاً من رسالتك التي توحي لك بأن ما نقوم به هو المنكر الذي يجب أن تنهى عنه، وتقف حاجزاً بيننا وبينك. {قَالَ هَـؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فاعلِين}، لأن هذه العلاقة بهم هي العلاقة الإنسانية الطبيعية التي يمكن أن تمارسوا الجنس معها بطريقة مشروعة. وقد يكون المراد ببناته كل النساء، كما يقال، وهو بعيد، {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}، وقيل: إنه خطاب من الملائكة للوط، فهم يقسمون له بأن الكلام لا يفيد مع هؤلاء الذين غلبت عليهم غوايتهم التي لا أمل أن يثوبوا منها إلى رشد، بل يظلون يتحيرون فيها ويترددون، فكيف يمكن أن يركنوا إلى وعظك وإرشادك، فاتركهم لمصيرهم المحتوم الذي اختاروه بأنفسهم، بعد قيام الحجة عليهم من الله.

* * *

نزول العذاب على قوم لوط

{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} عند شروق الصباح، ولعلّ الصيحة كناية عن العذاب الذي نزل بهم بشكل مفاجىء، كما هي الصرخة التي تنطلق بطريقةٍ غير متوقعةٍ {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا}، في زلزالٍ عنيف يقلبها رأساً على عقب {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} أي من طين متحجر، كان ـ في ما يقال ـ ينزل على الشخص فيقتله بطريقةٍ صاعقةٍ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} الذين ينظرون إلى الوقائع والأحداث والأشخاص نظرة تأمّلٍ وفراسةٍ وتدقيق بحثاً عن المعرفة حتى تتضح لهم السمات البارزة للأشياء في العمق، وهكذا يريد الله لهؤلاء أن ينطلقوا في استيحاء الدرس الذي تضمنه هذا العذاب الذي نزل بهؤلاء المتمردين المنحرفين، ليعتبروا به في حياتهم الخاصة، وفي حياة الآخرين الذين يمارسون ما مارسه هؤلاء من انحراف.

{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} والظاهر أن الضمير يعود إلى المدينة التي كانت تقع على السبيل الذي يسير عليه الناس، المقيم الثابت الذي يستطيع كل مسافر أن يشاهد آثاره وما حل فيه من عذاب ودمار. وقيل: إنها كانت تعرف باسم سدوم، كما عن بعض المفسرين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويستوحون من هذا العذاب المنهج العملي الذي يتحركون به في الحياة في خط الإيمان، لئلا يلاقوا المصير الذي لاقاه هؤلاء.

* * *

ظلم أصحاب الأيكة والحجر

{وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الاَْيْكَةِ لَظَالِمِين* فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} والمراد بهم قوم شعيب الذين عذبهم الله، كما عذب قوم لوط، لتمردهم وطغيانهم، فقد ظلموا أنفسهم بالكفر والعتوّ والضلال {وَإِنَّهُمَا} أي قرية لوط وشعيب {لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} ويقال: إنه الطريق الواضح، فقد كانا واقعين في طريق الناس بحيث يستطيعون أن يشاهدوهما عند مرورهم بهما.

{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} والمراد بهم ثمود قوم صالح، والحجر هو اسم المكان الذي كانوا فيه، كما قيل، وقيل أيضاً: إنه يطلق على كل مكان أحيط بالحجارة {وَآتَيْناهُمْ آياتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} فلم يكن تكذيبهم من موقع الشبهة التي تتيح ذلك أو تبرّره، بل كان من موقع الحجة التي أقامها الله عليهم بعد إنزال الآيات الكثيرة التي أعرضوا عنها ولم يفكروا فيها أو يناقشوها ليعرفوا وجه الحق فيها {وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ}.. وبذلك كانوا يملكون وسائل الرفاه والقوّة ومظاهر الحضارة التي تجعلهم من سكان الدور لا من سكان الخيام، كما يخضعون لنظام قويٍ من الحكم أو من العلاقات يشعرون معه بالأمن في سكناهم، أو في أنظمة مجتمعهم، {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} فنزل عليهم العذاب، المفاجأة، في ما يشبه الصيحة عند الصباح، {فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من وسائل القوة، أو من مواقع الثروة، أو من مظاهر الحضارة في ما يبنونه من دور وقصور، بل خضعوا للعذاب النازل عليهم دون أيّ قدرةٍ على الدفاع أو المقاومة، لأن قدرة الله فوق كل شيء.