تفسير القرآن
النحل / من الآية 1 إلى الآية 4

 من الآية 1 الى الآية 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات

{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ* يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَ أَنَاْ فَاتَّقُونِ* خَلَقَ السَّمَـوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ تَعالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ* خَلَقَ الإِنْسانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} (1ـ4).

* * *

لا تستعجلوا أمر الله

{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}.. اختلف المفسرون في المعنى المراد من هذه الكلمة، فقال بعضهم إنه العذاب الذي تحدث الله عن استعجال المشركين له، على سبيل الاستهزاء أو التعجيز، كما في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ}[يونس:50]، وقال بعضهم إنه يوم القيامة الذي كان يلحّ المشركون على السؤال عنه دائماً كما في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يس:48]. وذكر صاحب تفسير الميزان أن «المراد بالأمر، ما وعد الله النبي(ص) والذين آمنوا وأوعد المشركين مرّةً بعد مرة، في كلامه، أنه سينصر المؤمنين ويخزي الكافرين ويعذبهم ويظهر دينه بأمرٍ من عنده، كما قال: {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109]. وإليه يعود أيضاً ضمير {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} على ما يفيده السياق، أو يكون المراد بإتيان الأمر إشرافه على التحقق وقربه من الظهور، وهذا شائع في الكلام، يقال لمن ينتظر ورود الأمير: هذا الأمير جاء، وقد دنا مجيئه ولم يجىء بعد»[1].

ونحن نتحفظ على هذا الاستظهار، لأننا إذا أردنا استنطاق كلمة الأمر، فإن هناك أكثر من مورد لها في القرآن، ما يجعل الإنسان في حيرةٍ كبيرة أمام الواقع التطبيقي للكلمة، لأن أمر الله يشمل كل إرادته في الحياة.

أمّا ما ذكره من ظهور الآيات في الخطاب للمشركين، والاحتجاج عليهم، والإيحاء لهم بأنهم لا يستطيعون الانتصار على المؤمنين، بل إن القضية تفرض هزيمتهم في النهاية عندما يأتي أمر الله بالنصر، أما هذا، فلا ينهض أساساً للاستظهار، لأن أجواء هذه الآية وما بعدها، هي أجواء الإنذار الحاسم الذي يؤكد للإنسان أن الله هو وحده القوة القاهرة القادرة، التي يجب أن يتعبّد الناس لها، ويخضعوا لها، وهو الإله الذي يملك كل النعم التي تحيط بهم والقادر على أن يحرمهم منها في أيّة لحظة.

إن هذه الأجواء توحي بأن المسألة هي مسألة عذابٍ ينتظر الجاحدين في الآخرة، لا مسألة هزيمةٍ تنتظرهم في الدنيا، ويضاف إلى ذلك، أن كلمة الاستعجال التي وردت في الآية تتحدث عن العذاب الذي كان الكافرون يستعجلون الأنبياء إنزاله.

إن ذلك كله يجعلنا نستظهر هذا المعنى الذي يوحي بأن أمر الله قد جاء، من خلال قرار الله الحاسم الذي يملك القدرة على تنفيذه، وملاحقة كل المتمرّدين عليه، ما يجعل من قضية الوقت مسألةً غير أساسية في الموضوع، لأن الوقت لا يمثل مشكلة إلا للذين يضيّع الوقت الفرصة عليهم، أما بالنسبة إلى الله، فإنه لا يخاف الفوت، فلا يعجل في تنفيذ إرادته. ومن هنا جاءت الآية لتؤكد المسألة كما لو كانت حاضرةً، فلا مجال لاستعجالها، لأنها آتية لا ريب فيها في وقتها المقرر عند الله.

{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} في ما يعبدونه من أوثان، وما يخضعون له من أشخاصٍ لا يملكون لهم ولا لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فكيف يملكون لهم الحماية من أمر الله الواحد الذي لا شريك له في خلقه، ولا شبيه له في عظمته، ولا منازع له في أمره، ولا مضاد له في قدرته.

* * *

المراد من كلمة الروح

{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} بما يتمثل في كلمة الروح من معنى القوّة التي تتحرك بالحياة وتتحرك بها الحياة، ولكن ما هو معناها في عمق الكلمة الواقعي؟

ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به هو الوحي الإلهي، الذي يعطي الحياة معناها الحي المتحرك في الفكر والشريعة والمنهج والحركة، بما يمكن أن يحققه للإنسان من تقدم وانفتاح وحيوية، كما هي الروح عندما تدبّ في الجسد، فتعطيه نشاطاً من خلال حركة الحياة في داخله.

ولكن صاحب تفسير الميزان لم يوافقهم على ذلك، بل اعتبر أن الروح «موجود مستقلّ ذو حياةٍ وعلمٍ وقدرةٍ، وليس من قبيل الصفات والأحوال القائمة بالأشياء، كما ربما يتوهّم، وقد أفاد بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] أنه من سنخ أمره، وعرّف أيضاً أمره بمثل قوله: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ* فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس: 82 ـ 83]، فدلّ على أنه كلمة الإيجاد التي يوجد سبحانه بها الأشياء أي الوجود الذي يفيضه عليها، لكن لا من كل جهةٍ، بل من جهة استناده إليه تعالى بلا مادّة ولا زمان ولا مكان، كما يفيده قوله: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50] فإن هذا التعبير إنما يرد في ما لا تدريج فيه، أي لا مادّة ولا حركة له. فتحصّل أنّ الروح كلمة الحياة التي يلقيها الله سبحانه إلى الأشياء فيحييها بمشيّته، ولذلك سمّاه وحياً وعدَّ إلقاءه وإنزاله على نبيه إيحاءً في قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]، فإن الوحي هو الكلام الخفيّ والتفهيم بطريق الإشارة والإيماء، فيكون إلقاء كلمته تعالى ـ كلمة الحياة ـ إلى قلب النبي(ص) وحياً للروح إليه»[2].

ثم يناقش التفسير الأول بقوله: «وأما قوله: إن الروح بمعنى الوحي أو القرآن وكذا قول بعضهم إنه بمعنى النبوّة، فلا يخلو من وجهٍ بحسب النتيجة، بمعنى أن نتيجة نزول الملائكة بالروح من أمره هو الوحي أو النبوّة، وأما في نفسه وهو أن يسمّي الوحي أو النبوّة روحاً، باشتراكٍ لفظيٍّ أو مجازاً، من حيث إنه يحيي القلوب ويعمّرها، كما أن الروح به حياة الأبدان وعمارتها، فهو فاسدٌ، لما بيناه مراراً أن الطريق إلى تشخيص مصاديق الكلمات في كلامه تعالى، هو الرجوع إلى سائر ما يصلح من كلامه لتفسيره دون الرجوع إلى العرف وما يراه في مصاديق الألفاظ. والمتحصل من كلامه سبحانه أن الروح خلق من خلق الله، وهو حقيقة واحدة ذات مراتب ودرجات مختلفة، منها ما في الحيوان وغير المؤمنين من الإنسان، ومنها ما في المؤمنين من الإنسان.. ومنها ما يتأيّد به الأنبياء والرسل»[3].

ونلاحظ من خلال هذا العرض الذي أفاض به المفسِّر الجليل السيد الطباطبائي رحمه الله، في الحديث عن حركة الكلمة في مواردها في القرآن، أنه يحاول تأكيد التفسير من خلال التوقف عند كلمة «الروح» على أساس إرادة معنى واحدٍ جوهريّ في مواردها، وهكذا في كلمة «الأمر»، وذلك من خلال التوقف عند المدلول الحرفي للكلمة هنا وهناك، وهذا ما لاحظناه من استنطاقه الآية الكريمة {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس:82]،. ليعتبرها كل مدلول الأمر، وليمتد بعد ذلك في تفسيره بأنه أمر غير مادي، لتكون النتيجة أنه هو الروح، في ما استفاده من قوله تعالى: {وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ} [النحل: 77].

ولكن قد نتحفظ على هذا الفهم، لأن كلمة «الأمر» التي تنسب إلى الله، أو تضاف إلى اسمه، تختزن المعنى المتمثل في إرادته، أو في فعله، أو في السرّ الخفي الذي لا يعرفه أحد إلا الله، وليس من الضروري أن يكون المعنى واحداً في كل موضع من موارد استعمالها، فإذا وردت الكلمة في قوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] فيمكن أن نستوحي منها أنها السرّ الذي يختزنه الله في علمه، ويخفيه عن عباده، لأنه من خصوصياته، أما في قوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً} [يس:82] الخ، فإننا نفهم منها فعله الذي لا يحتاج فيه إلى جهدٍ وتعب أو وقت طويل. وهكذا نجد أن تطبيق المعنى يختلف في الموردين.. ولا نفهم وجهاً لاستفادته من كلمة {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً} [يس: 82]، أن الأمر هو شيء لا مادّة له ولا حركة، لتكون النتيجة أنه «الروح».

إننا نجد في هذا التفسير الكثير من التكلُّف البعيد عن روح النص القرآني، الذي لا يتجمّد معناه في حرفيته، بل يتعداه إلى آفاق أخرى تلتقي فيها الاستعارة والكناية والمجاز، بآفاق واسعةٍ من المعاني المتحركة في أكثر من مجال.

وهكذا نستطيع أن نستوحي من {يُنَزِّلُ الْملائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} المعنى الذي يلتقي بالوحي، أو بالقرآن في التطبيق، في ما تمثله كلمة الروح من معنى الحياة التي تعطي الفكر والشعور والواقع حيويةً جديدةً، تماماً كما هي الروح عندما تدب في الجسد، فتبعث فيه الحركة والحياة.

{عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} ممن يصطفيهم الله لوحيه، لما تحويه عقولهم وأرواحهم من صفاءٍ وطهر، تجعلهم في مستوى عالٍ يلتقون فيه بمعاني الوحي، وممن يختارهم الله لرسالته، لما يمتلكونه من قوّةٍ وإرادةٍ وعزيمةٍ وشجاعةٍ في الكلمة والموقف، يؤهلهم لمواجهة التحديات الصعبة من أعداء الله، الذين يوجه الأنبياء إليهم كلمة الله القوية الحاسمة المنذرة التي يواجهون فيها الموقف النهائي، الذي لا مجال فيه لأيّ تراجعٍ أو تردّد أو اهتزازٍ، لأنه الموقف الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأنه المنهج الذي أراده الله للحياة، لترتكز ـ من خلاله ـ على أساس القاعدة الثابتة الممتدة في الأعماق من حيث العمق، وفي الآفاق، من حيث الامتداد، والخط الذي أراد الله للإنسان أن يتحرك فيه في الصراط المستقيم.

{أَنْ أَنْذِرُواْ}، الإنذار يعني تحميل الإنسان المسؤولية في مواجهة النتائج السلبية لعمله، من اهتزاز الدنيا، وعذاب الآخرة، في حال إغراقه وابتعاده عن المدار الصحيح الذي تقتضيه القاعدة والخط.

* * *

مبدأ التوحيد

{أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَ أَنَاْ} التوحيد هو المبدأ الذي ينطلق منه كل الحق ويصب فيه، حيث تلتقي الحياة كلها في منهجٍ واحدٍ، لا تتعدد معه السبل، ولا تتحيّر فيه الإرادات، ولا تختلف فيه الغايات، فهو البداية وهو النهاية، يربط بينهما خط السير الواضح المستقيم، {فَاتَّقُونِ} والتقوى هي الالتزام بالنهج الإلهي، وما يأمر به الله عباده من أعمالٍ وأقوال وعلاقات، وما ينهاهم عنه من ذلك كله، والإصرار على الانضباط الذي لا يسمح بالاهتزاز والانحراف والحيرة، بل يركز الإرادة على أساس الوضوح في الرؤية، والقوّة في اتخاذ القرار وفي تنفيذه. وبذلك يمكن لنا أن نلخّص ونختصر العقيدة في تفاصيلها، والشريعة في مناهجها وأحكامها، والمفاهيم في جزئياتها، وكلياتها، في الإسلام وكل الأديان الآخرى، في كلمتين هما التوحيد والتقوى.

هل يكفي أن يتصور الإنسان الله بشكل مجرّد يحلّق به في آفاق لا مجال يحويه إلا الغيب، الذي لا يدركه إلاّ بطريقةٍ غائمةٍ؟ أم لا بدّ له من اختزان الصورة في وعيه، من خلال عظمة الله في خلقه، ومن خلال رحمته في نعمه؟

* * *

خلق السموات والأرض بالحق

{خَلَقَ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ}، الذي جعله أساس التكوين، في ما أودعه في هذه العوالم الضخمة الواسعة من أسرار خفيّة، وسنن وقوانين تحكم مسيرة الكون في خطٍّ واضح محدّد لا ينحرف ولا يهتز ولا يبتعد عن إرادة الله. وهكذا أراد الله للسماوات والأرض بما خلقه فيها من مخلوقات واعية عاقلة مريدة أن ترتكز على الحق في التشريع، فجعل لها نظاماً في العبادة والعمل، وفي كل شيءٍ يحكم حركتها في الحياة، فتحس هذه المخلوقات كلها بأن كل شيءٍ صغيرٌ أمام عظمته، وأنه هو وحده العظيم المنزّه عن كل قبيحٍ وعن كل شريك، فترتفع أصواتها بالتسبيح له: {تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

* * *

خلق الإنسان من نطفة

{خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ} لا تمثّل شيئاً مهماً على مستوى الحجم، بل هي نقطة منيٍّ صغيرة تتحول إلى مضغة فعلقة تندرج في دور التكامل الجسدي لتصبح صورة إنسان كامل ينطق ويفكر ويتحرك، ويبتعد عن الإحساس بحقارة البداية، {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} يجادل في الله، ويخاصم في شؤون العقيدة، وقد يقوده الجدال إلى الكفر، وقد تؤدي به المخاصمة إلى الضلال، وقد يتساءل عن وجوده كيف بدأ، دون أن يفكر بالأفق الأعلى الذي يفسر هذا الوجود وكيفية خضوعه للحتمية التي تربط بين حركة الممكن في الكون، وبين إرادة الواجب في وجوده، كما قد يتساءل كيف يمكن أن يبعثه الله من جديد بعد أن يتحول إلى تراب، لأنه لا يفكر ببدايته التي كانت من عدم، حيث لا يستبعد أن تكون النهاية عودةً للوجود من خلال ما كان، وإرادة في حركة الشكل، مع وحدة الجوهر.

وفي ذلك إيحاء إلهي للإنسان بأن الخصام والجدال قد يطرقانه في زهوٍ كاذبٍ، وعظمةٍ فارغةٍ، بقدرته على الوصول إلى نتائج ضخمة، يؤكد من خلالها ذاته، فيبتعد بذلك عن التفكير في عمق الأشياء لجهة ما انطلقت منه، وما ارتكزت عليه، ما يؤدي به إلى الكفر والضلال، عندما يبتعد عن نقطة الانطلاق التي ركز الله السماوات والأرض عليها، وهي الحقّ الذي لا ريب فيه.

ــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:12، ص:203.

(2) تفسير الميزان، ج:12، ص:205.

(3) م.س.، ج:12، ص:206.