تفسير القرآن
النحل / من الآية 5 إلى الآية 9

 من الآية 5 الى الآية 9

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَالأنعامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ* وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (5ـ9).

* * *

معاني المفردات

{جَمَالٌ}: الزينة.

{أَثْقَالَكُمْ}: الأمتعة.

{قَصْدُ السَّبِيلِ}: الطريق المستقيم.

* * *

الأنعام من نعم الله على الإنسان

يريد الله للناس أن يلتقوا به من خلال مفردات حياتهم اليومية، حيث تشكل الحيوانات الأليفة بما تتضمنه من منافع للناس على مستوى المأكل والمشرب والملبس والتنقل، جزءاً أساسياً من مفردات تلك الحياة، وحيث يمكنهم أن يتحسسوا فقرهم المطلق لله وحاجتهم المطلقة إليه ويشعرون بالتالي بحضوره الشامل الدقيق في حياتهم، فيزدادون إيماناً به، ويفكرون بالعودة إليه، عندما يغريهم الشيطان بالابتعاد عنه، لأنهم لا يملكون الانفصال عنه، لارتباط حياتهم كلها به. وبهذا يتحول الإحساس بالمادّة، إلى عنصر فاعلٍ في نموّ الجانب الروحي في شخصية الإنسان، لما تتضمنه من عظمة تشير إلى عظمة الله في خلقه، ولما تدل عليه من نعمة تشير إلى رحمة الله، الأمر الذي يجعل من المادة شيئاً روحياً في المعنى والإيحاء، بعد أن كانت شيئاً مادّياً في الشكل والصورة، وبهذا نستطيع أن نحرّك المعاني الروحية في كل مظاهر المادّة في الحياة، كأسلوب تربويّ متوازن، لا يلغي في المادّة خصائصها المادية، في ما يفرضه العلم من وعيٍ للقوانين الطبيعيّة التي تحكمها في وجودها التكويني، ولكنه ينفذ إلى داخل تلك القوانين ليبصر فيها معنى القدرة والحكمة والرحمة والنعمة التي توحي للإنسان بالمعنى الإلهيّ الكامن في سرّ الأشياء.

* * *

فوائد الأنعام للإنسان

{وَالأنْعَـامَ} من الإبل والغنم والبقر {خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} تتقون به البرد، بما تلبسونه أو تتدثرون به، أو تجلسون عليه، من جلودها وأصوافها وأوبارها، التي تمنحكم مقداراً من الحرارة تبعد عنكم الإحساس بالبرد {وَمَنَافِعُ} في ما تستفيدونه من هذه الأشياء أو من ألبانها وشحومها في حاجاتكم العامة {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} مما تستطيبونه من لحومها وشحومها {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَال} وهي تتحرك في وداعة واستسلام، وتتجمع في هدوء. ويقوي إحساس الإنسان بجمالها ذاك، كونه يملكها ويرعاها في استسلامها له، ونظرتها الحانية إليه، وانقيادها له عندما يدفعها أمامه، أو يلحقها به، وكونها جزءاً من المنظر الجميل الذي تشكله في حياته. {حِينَ تُرِيحُونَ} وتردون الماشية بالعشيّ إلى مراعيها، {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} وتخرجونها بالغداة إلى المرعى.

{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ}، فهي تسهل لكم الانتقال إلى البلاد البعيدة، بما توفره عليكم من عناء حمل ما تحتاجون إليه منها من متاع لا تستطيعون حمله لمسافات قريبة إلاّ بالجهد، فكيف بكم إذا كان لمسافات بعيدة. وتلك نعمة عظيمة لا يحسها إلا من عاش أو يعيش في المناطق التي تمثل فيها الأنعام الوسيلة الوحيدة لنقل الأمتعة {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} في ما تمثله هذه النعم الحسية من معاني الرأفة والرحمة من خلال تسخيرها لكم، وتسهيلها عليكم.

{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا}، فقد خلقها الله لكم لتنتفعوا بها في الركوب والتنقل من مكان إلى آخر، ليخفف عنكم جهد السير وليقرّب لكم المسافات {وَزِينَةً} لكم في الصورة الرائعة الجميلة لمنظر ركوبكم عليها. وهكذا نجد أن الله يريد الإيحاء للإنسان بأن الجمال والزينة يمثلان نوعاً من أنواع النعمة التي منّ بها على الإنسان، كما يتميزان بقيمةٍ إنسانية، يريد الله من الإنسان أن يحس بها في حياته، {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من وسائل الركوب التي قد يلهم الإنسان اكتشافها، ويسهّل له استعمالها، أو ما يخلقه الله من الحيوان، وبهذا نستطيع استيحاء الفكرة الدينية التي تدعو الإنسان للتطلع إلى كل تطور في وسائل الحياة، بشكل إيجابي تدفعه لاكتشاف ذاك الجديد واستعماله.

* * *

الله يهدي إلى الطريق المستقيم

{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} والقصد ـ كما ذكره الراغب وغيره ـ استقامة الطريق[1] وهو كونه قيّماً على سالكيه يوصلهم إلى الغاية. وربما كان من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي السبيل القاصد، أي الطريق المستقيم، وقد نسبه الله إلى نفسه، لأن الهداية منه، في ما أودعه في الفطرة من استعداد، وما منحه من وسائلها الحسية والمعنوية التي إذا استعملها الإنسان اهتدى إلى الصراط المستقيم، ولكن السبيل ليست منحصرة بالخط المستقيم الذي يهدي الله الناس إليه، بل هناك نوع آخر منه {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} منحرف عن خط الاستقامة في ما يتحرك فيه الناس بتزيين الشيطان وتسويله وخداعه وتضليله الذي ينحرف بهم إلى الكفر والضلال والبغي والطغيان.

وقد جاء حديث الله عن الطريق المستقيم والطريق المنحرف، بمناسبة الحديث عن الإعداد الإلهيّ الدواب لتسهيل الوصول إلى البلاد البعيدة، حيث يبلغ الناس عندها غاياتهم التي يستريحون إليها. وقد نسب الله السبيل القاصد إليه، لأنه هو الذي تلتقي عنده كل وسائل الهداية، وترجع إليه كل أسبابها، بما لا يلغي عملية الاختيار لدى الإنسان. أمّا الانحراف عن الطريق، فإنه يمثل عدم الأخذ بأسباب الهداية، ما يجعلها حالةً إنسانيةً مرضيةً، يتحمل الإنسان مسؤوليتها، وإن كانت مقدماتها بيد الله، مما يمكن نسبة الفعل إليه في بعض الآيات على سبيل المجاز.

وقد أفاض الكلاميون في استنطاق المعنى الحرفي للآية، في مسألة الجبر والاختيار، وفي نسبة الإيمان إلى الله، والضلال إلى الإنسان، بما لا مجال للإفاضة فيه هنا، لأننا قد تحدثنا عن حرية الإرادة للإنسان في أكثر من موقعٍ في معرض تفسير الآيات المتعلقة بهذا الموضوع، وأشرنا إلى أن التأكيد على الجانب الحرفيّ للكلمة دائماً، يبعد القرآن عن روعة التعبير وجماله وبلاغته، في كثير من الأحيان، حيث لا يتحرك المفسرون من استيحاءٍ للقرآن في ما هو ظاهر فيه، بل ينطلقون من استيحاءٍ له، في ما يتبنونه من مواقف وآراء ليخضعوه لذلك، ولو جاء التفسير على حساب جانب البلاغة في القرآن.

{وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ولكنه أراد لكم أن تسيروا في الطريق المستقيم الذي أوضحه لكم وأعدّ كل وسائله، من موقع الاختيار، كما حمّلكم مسؤولية اختياركم الطريق المنحرف، لتواجهوا النتائج الإيجابية أو النتائج السلبية، في هذا أو ذاك، في الدنيا والآخرة.

ــــــــــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:419.