تفسير القرآن
النحل / من الآية 10 إلى الآية 21

 من الآية 10 الى الآية 21

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ* وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* وَأَلْقَى في الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ* أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ* وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ* وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ* أَمْواتٌ غيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (10ـ21).

* * *

معاني المفردات

{تُسِيمُونَ}: سامت الماشية إذا رعت، أي ترعون أنعامكم من النبات من غير كلفة.

{ذَرَأَ}: خلق.

{مَوَاخِرَ}: جمع ماخرة، والمخر شق الماء، يقال مخرت السفينة أي جرت وشقت الماء يميناً وشمالاً.

{تَمِيدَ}: تميل وتضطرب.

{وَعَلامَاتٍ}: العلامات، المعالم التي يستدل بها على الطريق.

* * *

بعض ما أودع الله في الكون من النعم

ويستمر الأسلوب القرآني في تربية الإنسان على تنمية التصور الفكري والروحي لعقيدة التوحيد، من خلال ما أودعه الله في الكون من مواقع نعمه وأسرار عظمته، في ما يريد الله له أن يفكر به، ويحرك عقله في آفاقه، ويهتدي به، ويتذكر ما يقبل عليه من مصير وما يجب أن يواجهه من مسؤولية.

وتلك هي قصة التربية القرآنية التي تؤكد ـ دائماً ـ على الفكر أن يتحرك، وعلى العقل أن يناقش، ليكون سبيلاً للهداية، ومنطلقاً للوعي والتذكّر، فيستنطق كل ما حوله، وكل من حوله، في عملية استيحاءٍ واستذكارٍ، واستنتاجٍ للفكرة الهادية والخط المستقيم، فلا يكون البصر مصدر استمتاعٍ للّهو، بل مصدر معرفةٍ للعبرة، ولا تكون الأشياء المحيطة به أو الموجودة أمامه، مجرد جوامد في معطياتها الفكرية والروحية، بل يتحوّل الكون بذلك إلى مدرسةٍ فكرية وروحيةٍ، تغني التجربة، وتمد الفكر بكل ألوان التصور في جانب الفكر والعقيدة، وتوجّه الإنسان إلى المنهج الذي يجعل من العقيدة حالةً حيّة في الواقع، بدلاً من أن تكون حالةً جامدة في الطريقة النظرية في التفكير.

* * *

نعمة الماء على الإنسان

{هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم} لتستفيدوا منه في تنمية حياتكم وتطويرها {مَّنْهُ شَرَابٌ} تشربون منه، أنتم وأنعامكم، وكل شيءٍ حيٍّ يحتاج إلى الماء في استمرار وجوده {وَمِنْهُ شَجَرٌ} ترتوي بذورها الأولى بالماء فتنمو، وتمتد جذورها في الأرض، وترتفع أغصانها في الفضاء، وتتدلّى أثمارها من الأغصان، {فِيهِ تُسِيمُونَ} من السوم وهو رعي الماشية، التي تتغذّى بأوراق الشجر، لتكون غذاءً لكم بعد نموّها وقوّتها. ويفصّل القرآن هنا في شأن النبات الذي يستمد قدرته على الحياة والنموّ والامتداد من الماء الذي أنزله الله لتكون منه حياة كل شيء {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَراَتِ} التي تتنوع بأشكالها وخصائصها، مما لم تعتادوه أو تشاهدوه أو تكتشفوه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ذلك أن التفكير في خصائص هذه النباتات يقود إلى اكتشاف سرّ عظمة الله ورحمته وقدرته المتجلية فيها.

* * *

تسخير الشمس والقمر والليل والنهار

{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّراَتٌ بِأَمْرِهِ} لجهة تنظيم حياتكم بين النوم واليقظة والراحة والعمل، والاستفادة من حركة الشمس والقمر والنجوم، من خلال الخصائص الكونية التي أودعها الله في هذه المخلوقات، ما يؤثر في حياة الإنسان والنبات وكل ما في الأرض والفضاء من موجوداتٍ وأوضاع، فينعكس على الإنسان في أصل وجوده وفي نموّه وامتداده و{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} إذ يعملون عقولهم في اكتشاف أسرارها وآثارها، ليتعرفوا من ذلك على مدى تكريم الله للإنسان، فقد خلقه في هذه الأرض، وأعدّ له في آفاقها الكونية في السماء، كل ما يمكن أن يكون مصدر راحةٍ وخيرٍ وحياة، ليلتقوا ـ من خلال ذلك ـ بالحقيقة الإلهية التي ترعى الحياة بالحكمة، والإنسان بالرحمة، {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} وما خلق من أصناف الأشياء المودعة في الأرض، في ظاهرها وباطنها، من معادن ومركّبات، مما ينتفع به الإنسان، وتتكامل به حركة الحياة في طريق النموّ والتطوّر، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} بما توحيه كلمة التذكر من وعي للكون والواقع والمصير، ما يجعل الإنسان يتوقف أمام كل شيء يراه أو يسمعه أو يلمسه أو يكتشفه، ليجعله موضع دراسةٍ وتجربةٍ، ومصدر معرفة واستذكارٍ للنتائج الإيجابية أو السلبية التي يواجهها، تبعاً للتخطيط الدقيق الذي يخضع له حياته.

وقد حاول صاحب تفسير الميزان أن يتوقف أمام اختلاف الكلمات في الآيات الثلاث، التي قد يكون المعنى فيها واحداً، وذلك في قوله «يتفكرون» و «يعقلون» و «يذكّرون»، ليستوحي منها اختلاف الموقع في كل واحدة منها قال ـ رحمه الله ـ: «وهذه حججٌ ثلاثٌ، نسب الأولى إلى الذين يتفكرون، والثانية إلى الذين يعقلون، والثالثة إلى الذين يتذكرون، وذلك أن الحجة الأولى مؤلفةٌ من مقدمات ساذجة يكفي في إنتاجها مطلق التفكر، والثانية مؤلفة من مقدمات علمية لا يتيسر فهمها إلا لمن غار في أوضاع الأجرام العلوية والسفلية وعقل آثار حركاتها وانتقالاتها، والثالثة مؤلفةٌ من مقدماتٍ كلية فلسفية إنما ينالها الإنسان بتذكر ما للوجود من الأحكام العامة الكلية، كاحتياج هذه النشأة المتغيرة إلى المادة، وكون المادة العامة واحدة متشابهة الأمر، ووجوب انتهاء هذه الاختلافات الحقيقية إلى أمر آخر وراء المادة الواحدة المتشابهة»[1].

ولكن نرى في ذلك لوناً من التكلف، لأن إدراك الصلة بين هذه الأمور في خصائصها العلمية وأسرارها الكونية، يحتاج إلى فكرٍ وعلم يتحركان في دائرة العقل، وينطلقان من وعي يعتبر المعرفة مصدراً للتذكر والاعتبار، فليست المسألة مسألة حاجة الأولى إلى مطلق التفكر، والثانية إلى عمق التصور العقلي، والثالثة إلى حركة الفكر الفلسفي، بل المسألة هي تنوع في التعبير البلاغي، لأن فهم خصائص كل منها، سواء أكان في الأرض أم في السماء، يحتاج إلى عمقٍ في الدراسة، وإلى جهد في الاكتشاف، أما الربط بينها وبين الحقيقة الإلهية، فإنه يحتاج إلى إعمال الفكر والعقل للوصول إلى التذكر والاستنتاج من خلال المعرفة.

* * *

خيرات الأرض ونعمها

{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} بما أودعه فيه من أسماك تصطادونها بسهولة، لما هيّأه لكم من وسائل الصيد {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تلبسونها} من اللؤلؤ والمرجان وغيرهما من الأصداف والقواقع التي تستخرج من البحر. {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} تشق الماء وتفرّق العباب، لتحقق للإنسان الكثير من منافع الانتقال إلى أماكن بعيدة، لا طريق لها إلا البحر الذي سخره الله له، بإخضاع قوانينه لخدمته، عبر ما ألهمه إياه من اكتشاف الوسائل التي تسيطر على جبروته وأهواله {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} من خلال ركوبكم البحر ووصولكم إلى مصادر الرزق في المناطق البعيدة {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على ما رزقكم إياه وأعدّه لكم من وسائل العيش، وأصناف الرزق، وعلى ما سخّره لكم من مخلوقاته.

{وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} وهي الجبال الرواسي التي تحفظ للأرض توازنها، حتى لا تهتز بالإنسان، فتمنعه من الاستقرار عليها. ويعلل علماء الطبيعة وجودها بنظريات كثيرة منها: «أن جوف الأرض الملتهب يبرد فينكمش، فتتقلص القشرة الأرضية من فوقه، وتتجمّد فتكوّن الجبال والمرتفعات والمنخفضات، {وَأَنْهَاراً} صنعت مما تشتمل عليه الجبال من ثلوجٍ تذوب في الصيف، فتجري لتتكون منها الأنهار {وَسُبُلاً} وطرقاً يسلكها الناس بين الجبال والسهول، لتسهل للإنسان الانتقال من مكان إلى مكان {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}، في ما جعله الله لهم من دلائل توضّح مسالك الطرق، وتمنعهم من الحيرة والضياع على الأرض،أمّا في الصحراء والبحار حيث لا علامات منصوبة مميّزة، فإن الله ألهمهم الاهتداء بالنجم، من خلال خارطة السماء التي اكتشفوا ما تبينه من طريق السير.

* * *

نعم الله لا تحصى

{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وكيف تفكّرون؟ وما هو الأساس الذي ترتكزون عليه في شرككم بالله عقيدة أو عبادة، وفي اتخاذكم أشخاصاً أو أوثاناً، لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً آلهة من دون الله. إن الألوهية لا ترتبط بالمعنى النفسي الذي نعيشه تجاه الإله، ولا بالمظهر الشكلي له، ولا بالأسرار الغامضة التي تحيط به، ولا بالمعاني الغيبيّة التي نصنعها له، ولكنها ترتبط بالقدرة المطلقة التي تبدع الوجود من قلب العدم، وتخلقه خلقاً جديداً، فيتحوّل إلى كونٍ ونظام وحياةٍ، تشمل الوجود كله. وهو الله الواحد الأحد الذي يرجع كل شيءٍ إليه، وتصدر كل حياة منه، فهو الذي خلق الأشياء كلها بقدرته. وهو بذلك لا يمكن أن تشركوا به موجوداً ضعيفاً، لا يملك أية حياة في وجوده، فكيف يمكن أن يعطي الحياة لغيره، وكيف يمكن إحداث التعادل بينه وبين الله سبحانه وتعالى؟! ولكنها الغفلة عن الحقيقة الإلهية التي لا ريب فيها، أفلا تذكرون، وهو المنعم الذي أعطى الخلق كله الحياة، وزوّدها بكل ما يكفل لها القوّة والنموّ والاستمرار، وأعطى الإنسان الكثير من ذلك، في ما سخر له من طاقات الكون الحيّة والجامدة لتكون، بأجمعها، في خدمته.

{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ} فكيف تنكرون الله، وهو الحاضر في وجودكم مع كل نعمة، في ما تفكرون وتبصرون، وفي ما تسمعون وتلمسون، أو تأكلون أو تشربون... وكيف لا تشكرونه على ذلك كله؟ {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر لكم ذنوبكم على الرغم من ذلك إذا رجعتم عن الخطأ، ويرحمكم إذا انتبهتم للانحراف وتحركتم في خط الاستقامة. وتستمر النعم الكثيرة، بالتساقط عليكم بالخير والرحمة والبركة كل صباحٍ ومساء، دون أن تنقطع لذنبٍ أذنبتموه، أو لخطأٍ ارتكبتموه. وماذا بعد ذلك؟ هل تستطيعون الاختباء من الله وراء الحواجز التي تحجبكم عن بعضكم البعض، وتؤمن لأسراركم الحماية من الآخرين، في ما يصدر عنكم من أخطاء ومشاكل وأوضاع، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}، فهو الحاضر معكم في كل ساحةٍ من ساحات حياتكم الداخلية والخارجية، فكيف يمكن أن يكون كفركم وضلالكم وإنكاركم لله وشرككم به سراً عليه {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وكيف يمكن أن تكون عبادتكم لمن لا يبتعد في مستواه عن أصغر مخلوق لله فضلاً عن عدم ارتفاعه إلى مقام الألوهية؟ فليس هذا إلا دليلاً على موت الفكر والقلب والضمير، نتيجة الغفلة المطبقة التي تحجب عن الإنسان رؤية الأشياء بحجمها الطبيعيّ، كما تمنعه من رؤية المصير كله.. إنه الموت الحقيقي، لأن الحياة تفقد معناها معه {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}، فهم يتحركون كما لو كانوا يسيرون في ظلام يطبق على الحياة كلها حتى يلغيها، فلا يعرفون الزمن الذي يستفيقون فيه ليواجهوا المسؤولية أمام الله الذي لا رب سواه.

ـــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:12، ص:215.