تفسير القرآن
النحل / من الآية 24 إلى الآية 29

 من الآية 24 الى الآية 29

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ* لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ* قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ* ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَـقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ* الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} (24ـ29).

* * *

معاني المفردات

{أَسَـاطِيرُ}: جمع أسطورة وهي الشيء المسطور في الكتب من غير دليل على صحته.

{أَوْزَارَهُمْ}: آثامهم.

{الْقَوَاعِدِ}: جمع قاعدة، أي الدعامة.

{السَّلَمَ}: الاستسلام.

{مَثْوَى}: مكان الثواء والإقامة.

* * *

منطق المستكبرين ومصيرهم في الآخرة

ما هو منطق هؤلاء المستكبرين في مواجهتهم للرسالة؟ وما هو مصيرهم في الآخرة، وما هو موقفهم من نتائج المسؤولية هناك أمام استحقاقات المصير؟

رفض المستكبرين لما أنزل الله

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ}، هل فكرتم في مضمونه، وفي ما يؤكده من كلمة الله الفاصلة في قضايا العقيدة والشريعة وحركة الحياة، وهل حاولتم الانفتاح عليه من موقع التأمل والحوار لتصلوا إلى الحقيقة الكاملة الكامنة فيه؟ فالانطلاق من موقع الحوار أو التأمل يؤمن للفكرة نضجاً وعمقاً وثباتاً، وهو موقع مسؤول لم يعتمده المستكبرون في مواجهة الرسالة لعدم رغبتهم في التنازل عن مواقعهم العقيدية الموروثة عن آبائهم وعن تقاليدهم وعاداتهم المرتكزة على مفاهيم الجاهلية، الرافضة للتغيير. لذا فإنهم يواجهون الدعوة بمواقف انفعالية يعبرون عنها بسلوكهم وكلماتهم، حتى إذا ما سئلوا عما أنزل الله عليهم ـ من خلال رسوله ـ وعن قيمته الفكرية، {قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} في ما يقصه من حكايات تشبه الخرافات والأساطير، وما يذكره عن الآخرة، في نعيمها وجحيمها، وفي كل ما تشتمل عليه من أجواء ومواقف وقضايا ومفاهيم. ولكن ما هو مفهومهم عن الأسطورة؟ هل هي القصة أو الفكرة التي لا تتناسب مع مألوفاتهم، أو هي ما لا يتناسب مع مقاييس الواقع؟ وما هي مفاهيمهم حول الغيب؟ وهل يمكن اعتبار أيّة قضية غيبيّةٍ خرافةً، حتى لو كان للغيب أساس يقر العقل بواقعيته؟

إنها علامات استفهام ترتسم أمام الذهن، عندما يسمع مثل هذا الحكم الانفعاليّ السريع الذي يلتقي فيه أولئك المستكبرون، مع كثير ممن يطلقون على التفكير الديني، أو القصص الديني، صفة «الأسطورة» دون الدخول في حوار فكري حول مفهوم الكلمة، وطبيعة القصة ودائرة الفكر.

إنهم يطلقونها شتائم هدفها محاربة طروحات الرسالة، بإثارة الأجواء التي تهزم الفكرة عبر خلق حالة انفعالٍ تثير الدخان الذي يحجب الفكرة عن أجواء الصفاء والهدوء. وهذا هو الأسلوب السلبي الذي يحمل أصحابه المسؤولية أمام الله، لأنهم بذلك لا يخطئون في قضيةٍ شخصيةٍ ضد شخصٍ آخر، بل يتحول الخطأ إلى جريمةٍ في حقّ الأمة التي يبتعد بها هذا الأسلوب عن الوعي والروحية والشرعية التي تحكم حركة الواقع للناس. وهذا ما أرادت الآية التالية تقريره بشكل حاسمٍ {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ}، أوزار إساءتهم إلى أنفسهم في الانحراف عن خط الاستقامة في جانب العقيدة والعمل، {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} في ما يبعدونهم عن الحق، فيتحولون ـ من خلال ذلك ـ إلى عناصر كافرةٍ أو ضالّة، بكل ما يمثله الكفر والضلال من جريمة بحق مصيرهم في الدنيا والآخرة، من دون أن يرجع ذلك إلى أساسٍ من علمٍ، بما يقتضيه العلم من حجّةٍ تتحرك في خط الحوار أو برهان ينطلق في حركة العقل {أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} بما يعنيه الوزر من الثقل الذي يطبق بنتائجه السلبية، وبعواقبه الوخيمة، على الروح والحياة والمصير. وأيّ وزرٍ أكثر سوءاً من هذا الوزر الذي يدفع بالإنسان إلى نار جهنم، وغضب الله وسخطه!

* * *

العذاب كان مصير المستكبرين من قبل

{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } فحاولوا أن يدبّروا المكائد، ويخطّطوا لتهديم أسس العقيدة التوحيدية، في فكر الإنسان وحياته. ولكن الله عطل كل مؤامراتهم من حيث لا يشعرون {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ} فهدّم كل ركائزهم الفكرية، من الكفر والشرك والضلال، في الفكرة والمنهج والأسلوب، وذلك من خلال قوّة الركائز التي انطلق منها الإيمان والتوحيد والرشاد .

{فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} لأنّ أيّ سقف، مهما كانت قوّته، لا يمكن أن يحمي صاحبه، إذا ارتكز على قاعدةٍ منهارةٍ، لأنه لا يحمي نفسه. ويريد الله بذلك أن ينبه أية جماعة تتطلع إلى الامتداد الواسع عبر فكرة معينة أو محور معين، أن كل ما تحققه سوف ينهار ويسقط إذا سقطت القاعدة التي يرتكز عليها.

{وَأَتاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} فهو العذاب الذي يتنوّع في طبيعته وفي شكله، حسب مقتضيات الحكمة الإلهية في ما ينزله على الكافرين من صنوف البلاء الذي يتحوّل إلى حالةٍ من العذاب، بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة.

{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ} في موقفهم الحائر الخائف المهزوم أمام هول المحشر، في محضر الخلائق الذين يشهدون على جرائمهم، ويشاهدون عذابهم، ويتطلعون إليهم وهم واجمون أمام السؤال الحاسم الذي يوجهه الله إليهم، من موقع التأنيب والتوبيخ، لما كانوا يعيشونه من انحرافٍ، في منطقهم الضعيف الذي لم يرتكز على أساسٍ من علم.

{وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَـقُّونَ فِيهِمْ} وتنازعون المؤمنين الموحدين، وتثيرون من خلالهم المشاكل في طريق الأنبياء والدعاة إلى الله. فهل ترون لهم من موقعٍ في هذا الموقف العظيم، الذي كنتم تزعمون أنهم يملكون فيه الامتيازات الكبيرة، والحظوة العظيمة. ويلحّ السؤال عليهم، دون أن يملكوا له جواباً، لأن هؤلاء الشركاء لا يملكون أيّة قوة، ولا يمثلون أيّ موقع. ويقف الذين أخذوا بأسباب العلم في الدنيا، في ما حملوه من عقائد ومفاهيم، واتخذوه من مواقف، وأقاموه من علاقات، جعلت حياتهم تتحرك في المواقع الثابتة، وفي الطريق المستقيم، ومنحتهم بالتالي وضوح الرؤية وسلامة التفكير في النظر إلى الأمور وإلى حركة الناس، وأصبحوا بذلك في موقع الحكم الذي يزن الأمور، ليطلق الحكم العدل والكلمة الصحيحة، {قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} لأنهم لم يكفروا من حالة شك في حقيقة العقيدة في حسابات الحق والباطل، ولكنهم كفروا من حالة عنادٍ وتمرّدٍ، بعد أن قامت عليهم الحجة من الله، ولذلك فإنهم يواجهون الخزي في الموقف، في ما يلاقونه من العار كما يواجهون السوء ـ وهو العذاب ـ في ما يواجهونه من عذاب النار {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمي أَنفُسِهِمْ} بما أخذوا به من أسباب الكفر والضلال، ولم يتراجعوا عنه حتى جاءهم الموت وهم كافرون، فواجهوا حساب المسؤولية، {فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} فاستسلموا للموقف، لأنهم لا يملكون أمام ذلك أيّة قوّة، وأيّ مهرب، محاولين سلوك منطق المكابرة، وإنكار كل تاريخهم في الكفر والضلال والعصيان، من موقع الدفاع الغريزي عن النفس، ظناً منهم بأن الإنكار ينفعهم في الآخرة، كما كان ينفعهم في الدنيا، حيث كانوا في مواجهة أعمالهم السيئة يخدعون المسؤولين عن حسابهم بالتلاعب بالألفاظ واستخدام الأساليب الملتوية في التهرب من المسؤولية، وادعاء البراءة، فيتركون دون عقاب. ولكن الموقف هنا يختلف تماماً عن الموقف في الدنيا، لأن الحاكم الذي يتولى مهمّة الحساب هو الله الذي {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]. ولهذا، يأتيهم الرد حاسماً في الرفض لهذا المنطق الكاذب {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فهل تملكون دفاعاً أمام الله؟ وهل تملكون الكلمة القوية التي تبرّر لكم ذلك كله؟ فلا بد لكم من مواجهة المصير المحتوم {فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} الذين يمثلون الخط الذي يتمرد على الحق وهو يعرفه، وينحرف عن الخط المستقيم وهو يراه.

وبذلك كان هذا الخط يتحرك في اتجاه كل كفر وشركٍ وظلمٍ وبغي وضلال.