تفسير القرآن
النحل / من الآية 30 إلى الآية 34

 من الآية 30 الى الآية 34

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخرةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْملائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئونَ} (30-34).

* * *

معاني المفردات

{يَنْظُرُونَ }: ينتظرون.

{وَحَاقَ بِهِم }: أحاط بهم.

* * *

منطق المتقين ومصيرهم في الآخرة

ما هو منطق المتقين الذين عاشوا الحياة إيماناً في الفكر والروح، والتزاماً في العمل، وما هو مصيرهم في الآخرة؟

* * *

جزاء المتقين في الدنيا حسنة

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً}، بكل ما تحمله هذه الكلمة من عمقٍ في الروح، وامتدادٍ في الحياة، وغنىً في النتائج، وسعادةٍ في المصير. إنها تمثل كل ما يربط الإنسان بالمعنى الإنسانيّ لفكره وخطّه العملي في الحياة، وطريقة إدارة علاقته بالناس وبالحياة، مقابل معنى الشرّ الذي يمثل انتفاء تلك الإنسانية في خلفيات فكره، وحركات عمله، ونتائج خطواته. وذلك كله من موقع الاختيار الحرّ الذي يحدّد فيه لنفسه ما يريد {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ} هل هي من كلمات المتقين، أو هي كلمة مستأنفة مما أراد الله أن يقرره كنتيجة لهذا الخير الذي أعلنوه واجهة للعمل، وساروا عليه من مواقع الالتزام؟ كل ذلك محتملٌ، وإن كان الأقرب إلى الجو السياقي في الحديث عنهم بصفة الغائب، هو المعنى الثاني، وتلك هي النتيجة الطيبة، فللمحسنين في مواقفهم وكلماتهم وأفعالهم وتطلعاتهم في الحياة حسنةٌ قد تكبر أو تصغر تبعاً لحجم الإحسان العملي، في ما يتقرب به الإنسان إلى الله، وينفع به الناس من أعمال، طلباً لما عند الله. فالآية تقرّر المبدأ، ولا تدخل في التفاصيل، لأن المسألة في هذا الموقف، هي تحديد النتيجة التي تشير إلى طبيعة المصير الذي ينتظر هؤلاء بعد ذلك.

* * *

دار الآخرة للمتقين

{وَلَدَارُ الآخرةِ خَيْرٌ}، في ما يتمثل فيها من رحمةٍ ولطفٍ ورضوانٍ، جزاءً على ما قدمه المتقون من عمل. وهكذا التقى الخير في العمل بالخير في النتيجة {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} التي يستريح فيها الإنسان إلى حياته الجديدة في نعمة من الله ورضوان، بالإضافة إلى الجانب الحسي من المتع التي تنتظرهم في هذه الدار: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ}، فليس هناك حدٌّ لما يحققه الله لهم من أمنيات، في ما يخطر في بالهم من أمورٍ وحاجاتٍ وتطلّعات، فلهم أن يحلموا كما يحبون، لتكون أحلامهم حاضرةً بين أيديهم، دون حاجةٍ إلى الانتظار والقلق والترقب، كما كانت حالهم مع الأحلام في الدنيا، حيث تنتهي أحياناً دون أن يتحقق شيء منها. {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} الذين اتقوا ربهم في الفكر وفي العمل، في السرّ وفي العلن، {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} بما توحيه كلمة الطيبة من طيبة في الروح وفي النيّة، وفي الجوّ الذي يحيط بهم في علاقات الحياة، وفي الخط الذي يحكم كل تاريخ حياتهم من البداية إلى النهاية، حتى إذا جاءهم الموت، كانوا على استعدادٍ لمواجهة نتائج المسؤولية بكل قوّة وإيمان أمام الله، لأنهم يعرفون النتيجة سلفاً من خلال تاريخهم المليء بالتقوى، فهم ينتظرون الملائكة الذين يتوفونهم {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ}، في تحيّةٍ طيبةٍ توحي إليهم بكل معاني السلام الروحية والعملية التي تنتظرهم في حياتهم الجديدة {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} لأن الجنة لا تُنال بالتمنيات بل بالأعمال، وهذا ما ينبغي للناس أن يتمثلوه في الدنيا، عندما يتمنون الجنة بعد الموت. فلا مجال هناك إلا للعاملين المؤمنين الصالحين، الذين يلتقون بالرحمة الإلهية من مواقع العمل في خط الإيمان، أما الكافرون والمشركون والمتمردون فماذا ينتظرون،{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتي أَمْرُ رَبِّكَ} ليلاقوا جزاء كفرهم وعملهم.

* * *

الظالم ظالم لنفسه

{كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم السالفة {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بما أنزله عليهم من العذاب في الدنيا، وما ينتظرهم منه في الآخرة، لأن الله لا يحتاج إلى ظلم أحدٍ، فهو القوي الذي لا حدّ لقوته في كل شيءٍ {وَلـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فقد أقدموا على الكفر، بعد أن قامت عليهم الحجة على الإيمان، ومارسوا المعصية بعد أن عرّفهم الله المصير الأسود الذي ينتظرهم من خلالها، وكانوا يملكون القدرة على الاستقامة في خط الإيمان وخط الطاعة، فانحرفوا من موقع إرادةٍ واختيار، لا من موقع ضغطٍ وقهر، {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} في ما تلتقي به المقدّمات بالنتائج {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} من العذاب الذي كان ينذرهم به الأنبياء، وكانوا يواجهونه بالسخرية والاستهزاء، فحلّ بهم ما كانوا به يستهزئون.