من الآية 35 الى الآية 37
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ* وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ* إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} (35ـ37).
* * *
الإيمان والشرك اختياريان لا قسريان
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} وذلك هو المنطق المهزوم الذي يحاول التهرُّب من المسؤولية بإرجاع الشرك إلى مشيئة الله، على أساس إحاطة الله بعباده في كل ما يعتقدونه وما يمارسونه من أعمال، فليس لهم أن يقوموا بأيّ فعلٍ، أو يتخذوا أيّ موقف، من دون أن يشاء الله لهم ذلك، ما يجعل من الشرك مشيئةً إلهيّةً، لا مشيئةً ذاتيةً، بالتالي فإن انحرافهم العملي في ساحة المعصية حيث يحللون ما حرّم الله أو يحرّمون ما أحلّ الله، يعود إلى الله لا إليهم {وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} وهذا هو منطق المشركين الذين عاصروا النبي محمد(ص) {كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الكافرين والمشركين من الأمم السابقة {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} لأن الله لم يجعل للرسول مهمّة التدخل في تحويل قناعات الناس إلى الإيمان بطريقةٍ غيبيّةٍ، كما يوحي ربطهم بين الإيمان وبين المشيئة الإلهية لذلك بطريقةٍ ضاغطةٍ لا مجال فيها للاختيار، بل إن الله قد جعل مهمة الرسول البلاغ، في كل ما يريد الله أن يبلّغه للناس من وحيه وتعاليمه، ليختاروا ما يريدون من ذلك من موقع حرية الإرادة، لأن المشيئة لا تعني إلغاء الإرادة، بل تعني تأكيدها عندما يشاء الله لهم الكفر أو الإيمان باختيارهم، بما وفره لهم من وسائل الاختيار.
* * *
للرسالات أهداف واحدة
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} وهذا هو المنهج الذي أراد الله أن يحكم الحياة في حركة الناس، فهو يرسل إلى الناس الرسول، ليبلغهم رسالاته، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة، في ما أعدّه لهم من عقل قادر على التخطيط والوصول إلى النتائج الكبيرة، وما منحهم من إرادة وقدرة على الاختيار.
ولا تختلف الرسالات ولا الرسل، في الخط العام الذي يحكم دعوتهم، فهناك خطٌّ إيجابيٌّ يتعلق بالموقف من الله، وهو أن يعبدوا الله وحده، بكل ما تعنيه العبادة من التزام بإرادة الله وأوامره ونواهيه، في كل شيء، مهما كان صغيراً. وهناك خط سلبي يتعلق بالموقف من الناس، وهو أن يجتنبوا الطاغوت، بكل ما توحي به الكلمة من نهج الطغيان في الحكم والشريعة والمنهج والموقف والشخص، الذي لا يلتقي بالله من قريبٍ أو من بعيد. وبهذا يكون كل ما عدا الله طاغوتاً، بينما يكون الالتزام بالنهج الذي حدده الوحي، عبادةً لله وخضوعاً له.
{فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ} بما هيّأه من وسائل الهداية التي تؤمّن الوصول إلى سواء السبيل {وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } وثبتت في حياتهم، لأخذهم بأسباب الضلالة، التي جعلت من خلالهم نتيجة حتميةً تفرضها علاقة المسببات بالأسباب. وهذه سنة الله في عالم الهداية والضلال، فاقرأوها في ساحة الحياة وتاريخ السابقين، وتعرّفوا النتائج السلبية للضلال وللتكذيب. {فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} في ما أنزله الله عليهم من عذاب.
{إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ}، فإن ذلك ليس ملك يديك، لأن الهداية ليست نتيجةً للكلمة التي تلقيها، وللعمل الذي تقوم به في هذا الاتجاه، بل هي، إلى جانب ذلك، نتيجة لحالة من يتلقاها الداخلية، وللاتجاه الذي يتبناه إرادياً حيال أسباب الهداية، كما أن الله لم يجعل لك سلطة في تحريك إرادة الإنسان باتجاه معين، بل ترك للأسباب أن تحدد نتائجها الطبيعية في الحياة.. وهكذا لا تكون المسألة مسألة حرصك ـ يا محمد ـ على هداهم {فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} لأنّه لا يغير سنته في الكون في ما يجعله من أسباب للهداية والضلال. وسيلاقون جزاء أعمالهم، ولن يستطيعوا الخلاص من ذلك مهما حاولوا ذلك وتوسلوا إليه من وسائل. {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} ينصرونهم من دون الله. وبهذا نعرف أن إضلال الله لهم لا يعني إجبارهم على ذلك، بل كل ما يعنيه هو أن الله خلق للضلال أسباباً، وجعل للناس الاختيار في الأخذ بها، فصحت نسبتها إليه من خلال علاقته بخلق السبب، وعلاقة المسبّب به، والله العالم.
تفسير القرآن