تفسير القرآن
النحل / من الآية 38 إلى الآية 40

 من الآية 38 الى الآية 40

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ* لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِين* إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (38ـ40).

* * *

القسم بإنكار البعث

{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}، فأجهدوا أنفسهم، وبالغوا في اليمين، لتأكيد ما يحملونه من فكرة تنكر وجود الآخرة، ليقنعوا الآخرين بأنه {لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ} لكن دون أن يقيموا أيّة حجةٍ على ذلك، لعدم وجود أي دليل عقلي يحكم باستحالة البعث، فضلاً عن الإيمان بالقدرة المطلقة لله سبحانه، فليس لديهم إلا الاستبعاد الناشىء عن خروج الموضوع عما يألفه الناس من الأمور الحسّية المعتادة. وليس في هذا الاستبعاد ما يفرض سقوط الفكرة، الأمر الذي جعلهم في موقع ضعفٍ، فلجأوا إلى استخدام الأيمان المغلظة، كطريقةٍ لإيحاءٍ نفسي بكون ما ينكرونه يمثل الحقيقة.

{بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} تتخذ المسألة جانب التأكيد، من قبل الله، الذي يطرح القضية في نطاق الوعد الحق الذي لا يتخلف عن وقته، وعندما يؤكد الله أمراً، أو يعد به، فإن معنى ذلك أنه يمثل كل الحقيقة التي لا ريب فيها، لأن الله هو خالق كل شيء، من عدم، وهو القادر على أن يعيد ما خلقه إلى الوجود من جديد {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} لأنهم لا يفكرون في ذلك من خلال العقل، ولا يرجعون، في قضاياهم، إلى استلهام الوحي الصادق، ليتعرفوا منه حقائق الغيب. وتلك هي مشكلة الذين لا يعلمون، ولا يحاولون أن يخرجوا من جهلهم، في ما يتعلّق بحقائق الحياة المرتبطة بالإيمان بالله، لأنهم يعيشون أجواء اللامبالاة أمام القضايا التي لا تتصل بحركة الواقع الحسي في حياتهم، ويجهلون خطورة ذلك على صعيد تحديد المسؤولية في الدنيا والآخرة، ما قد يؤدي بهم إلى فقدان وضوح الرؤية الشاملة التي يحتاجونها في التخطيط لحياتهم ككل والسير بالتالي على الصراط المستقيم.. وهذا ما جعل العلم مسؤوليةً في الإسلام، للجاهل أن يتعلم، وللعالم أن يعلّم، لأن قضية المعرفة في الواقع ضرورية لسلامة خط السير، تماماً كما هي قضية الحركة نفسها، كما أن مسألة الإيمان ليست بعيدةً عن الواقع، في عملية صنع الشخصية، وفي حركة الحياة.

{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} حيث كانوا ينقسمون في الدنيا، بين منكر للآخرة ومؤمن بها. فها هي الحقيقة واضحة الآن أمامهم، يرونها رأي العين، من دون غموض. وهذا هو البيان الحسّي، بعد أن كان الرسل ـ في الدنيا ـ يواجهونهم بالبيان الفكري. وهكذا تحسم الحقيقة الواضحة الخلاف في النهاية. {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِين} في ما أنكروه من أمر الآخرة، ولكن ما الفائدة؟ إنهم يواجهون ـ الآن ـ نتائج المسؤولية في عذاب الله هناك.

* * *

إرادة الشيء وقول كن

{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. فكيف يستبعدون إعادة الخلق من جديد، وهم يدركون أبعاد قدرة الله التي لا نهاية لها، فالله لا يحتاج في إيجاد أيِّ شيء إلى أسباب مادية كالأسباب التي اعتادوها، لأنه يخلق الأسباب والمسببات، وإرادته ـ ولا شيء غيرها ـ سرّ وجود الأشياء كلها، فإذا تعلقت بشيءٍ، فلا بد من أن يوجد بها، فلا تتخلّف عنه.. ولعل المراد بالقول، الإرادة التكوينية لا الكلمة. ولكنها الكناية التي توحي بأن الأشياء حاضرةٌ للوجود أمامه ـ سبحانه ـ خاضعةٌ لإرادته بلسان استعدادها، كما لو كانت موجوداتٍ حيّةً عاقلةً تتلقى الأمر بالكلمة، فتستجيب بالممارسة.