تفسير القرآن
النحل / من الآية 41 إلى الآية 42

سورة النحل

 

من الآية 41 إلى الآية 42

 

الآيات

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ* الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:41-42]

 

المهاجرون في الله لهم الأجر الأكبر في الآخرة

 

وهذا نوه آخر من الناس، عاش المعرفة فكراً وإيماناً، وتحمّل مسؤوليتها جهداً وعناءاً وتشرّداً، من اجل أن يحوّلها إلى فكر يشمل الناس كلّهم، وإلى إيمان يحتوي الحياة كلّها من موقع المسؤوليّة الرساليّة التي أراد الله لعباده أن يحملوها إلى أنفسهم وإلى الآخرين، فهو لم يشأ أن ينكمشوا داخل ذواتهم ليكتفوا بما لديهم من المعرفة لحياتهم الخاصّة، بل أراد لهم ان يتحمّلوا مسؤولية الدعوة إليها، مهما كلّفهم ذلك من جهد. وهؤلاء هم المهاجرون الذين تمرّدوا على العذاب في سبيل الثبات على إيمانهم بالإسلام، وصمدوا أمام التحديات التي واجهتهم، بكلّ قوّة، كي لا تنحرف بهم عن خط الدعوة إلى الله. وهاجروا من مواقع الضعف التي عاشوا فيها الحصار الماديّ والمعنويّ، إلى المواقع التي يعملون فيها على صنع القوّة، بهدف تركيز قواعد الإسلام في المجتمع الجديد، ثم الالتفات، بالقوّة الجديدة على المجتمع القديم.

{والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا}، هؤلاء الذين هاجروا من مكّة إلى المدينة، من أجل أن تكون العبادة لله وحده ومن أجل أن يكون الدين كلّه لله.. والهجرة في الله، هي الهجرة في سبيله ومن أجله، على أساس حماية دينه ودعوته من ضغط الضاغطين، وتعسّف المتعسّفين.. فقد هاجر هؤلاء، لا طلباً للراحة، ولا هروباً من المسؤوليّة، كما يفعل بعض الناس، ممن لا يريدون أن يواجهوا مشاكل التحدّي ونتائجه السلبيّة، بل هاجروا، بعد أن ثبتوا وقتاً طويلاً، وبعد أن ظُلموا من الكافرين، وتحمّلوا الكثير من العذاب، من موقع الإصرار على الثبات في الإيمان، والاستمرار في الدعوة، حتّى اهتزت الأرض تحت أقدامهم، فلم يعد لهم مجالٌ للبقاء هناك، أو التأثير في الدعوة، في الوقت الذي كانت فيه الأرض الجديدة تنتظرهم، ليقوموا بمسؤولية الدعوة فيها، وليجاهدوا فيها، ضد التحديات الكافرة التي بدأت تحشد كلّ قوتها أمام الدعوة الإسلاميّة الجديدة.

وليست الآية ـ في مضمونها الرساليّ ـ مختصّة بالمهاجرين الأولين الذين هاجروا من مكّة إلى المدينة، أو إلى الحبشة، بل تشمل كلّ الذين يهاجرون في الله، ممن تضطهدهم القوى الكافرة أو الطاغية، لأنّهم قالوا ربنا الله ودعوا إليه وجاهدوا في سبيله، فيتحرّكون إلى مواقع أخرى، من أجل التخلّص من ضغط الحصار على الكلمة والحركة وعلى الدعوة.. ليأخذوا لأنفسهم حرّية الحركة في الساحة، من أجل بناء قوّة جديدة، ومجتمع إسلاميّ جديد. إنّ الهجرة تمثّل الخطّ الطويل المستمرّ  الذي تتلاحق فيه حركة الأمّة في أجيالها المتعاقبة، في سبيل أن يكون الدين كلّه لله، وأن تتحرّك الحياة من خلال وحيه، وان يلتقي الناس حول منهاجه وشريعته.. وبهذا كان وعد الله مستمرّاً للمهاجرين الجدد، كما كان للمهاجرين القدامى، الذين ظُلموا {لنُبَوّئنهم في الدنيا حسنة} بما نكفل لهم التخلّص من الضغوط الهائلة التي كانوا يواجهونها، وبما نحقّق لهم من النصر الذي يطمحون إليه، وفي ما نمهّده لهم من الوسائل التي يحتاجون إليها في تحقيق الغايات الكبيرة التي يحملون رسالة تحقيقها في الحياة {ولأجر الآخرة أكبر} من أجر الدنيا، لأنّه الخير الذي لا شرّ معه، والفرح الذي لا حزن فيه، والسعادة التي لا شقاء معها، لأنّه يلتقي برضوان الله الذي يتفايض على روح المؤمن بالفرح الروحي الذي لا يستطيع الإنسان أن يعرف مداه، في ما يحقّق له من أحلام ورغبات ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلا تعرف نفس ما أخفي لها من قرّة أعين.

{ولو كانوا يعلمون} ذلك، أنّ الإنسان في الدنيا، خاضعٌ في وعيه وتقديره ورغبته لمشاعر الحسيّة، مما يجعل كلّ طموحاته، في ما يأخذ به من شؤون العمل، ويتحرّك فيه من خط السير، يدور في ذلك الفلك، وبذلك تكون تطلّعاته في الساحة العمليّة أقرب إلى آفاق الدنيا منها إلى آفاق الآخرة.. ولذا جاء الوحي القرآني، ليربطهم بالجانب الآخر من الصورة، وهو جانب الآخرة في ملذّاتها ومشتهياتها وآفاقها الروحية، وليعرّفهم ذلك بالفكر والإيمان، لأنّهم لا يستطيعون أن يتعرّفوا عليه بالحسّ بفرض خلق التوازن لديهم في حساب الأرباح والخسائر، بين ما يحملونه من مسؤوليات، ويتحمّلونه من حرمان قد تفرضه عليهم ساحة العمل، وبين ما سيحصلون عليه من أرباح ومنافع في الىخرة، نتيجة طاعة الله في خط الدعوة والجهاد، فيقودهم ذلك إلى المزيد من التحمّل والصبر والإصرار على تحمّل الآلام في سبيل الله.

{الذين صبروا} وعاشوا آلام الصبر، في العمق من مشاعرهم، في مواجهة فراق ما كانوا قد اعتادوا عليه من نمط عيش في أوطانهم التي فارقوها، حيث ذكريات الصبا، ومراتع الطفولة، والأجواء الاجتماعيّة الحميمة في وسط الأقرباء والأصدقاء الذين كانوا يحيطونهم بكلّ حبّ وحنان ورعاية.. وقد فقدوا ذلك كلّه، وانتقلوا إلى أرض جديدة، لا تربطهم بها أيّة مشاعر خاصّة، بل كلّ ما هناك، أنّها أرض الرسالة، وساحة الجهاد، ومجتمع الإسلام، مما يفرض عليهم الضغط على مشاعرهم الخاصّة، واستبدالها بمشاعر عامّة، تحوّل الجانب الشعوريّ فيهم، إلى جانب حيّ، يتغذّى بالعلاقات الإيمانيّة الإنسانيّة، بدلاً من العلاقات الذاتية.. من أجل صنع الإنسان الجديد الذي لا يمثّل لوناً من ألوان الفرح الروحيّ الذي يعيش اللذّة في رضا الله، أكثر مما يعيشها في إرضاء نوازعه الذاتية. من هنا، فإنّ قيمة الصبر تكمن في ما يحقّقه للمؤمن، من أجواء روحيّة تعطيه إمكانية التماسك، وامتداد التحرّك، ومواجهة الصعوبات بقوّة، وتحدّي التهاويل باطمئنان، وانتظار المستقبل بثقة، بالرغم من كلّ ما يثيره الآخرون أمامه من تهاويل الخطر، حتّى إذا وقف أمام الأشباح المخيفة التي تحملها تهاويل المستقبل الغامض، كان التوكّل على الله هو السبيل للحصول على حالة الهدوء النفسيّ، والثقة بالنصر، من خلال الثقة بالله. وهذا ما وصف به الله المهاجرين الصابرين {وعلى ربّهم يتوكّلون} بما يعنيه مضمون التوكّل، من إرجاع الأمور كلّها إلى الله، في ما لا يملك الإنسان الوسيلة العمليّة للتخلّص منه، أو لمواجهته بالإمكانات العاديّة، لأنّ الله هو الذي يملك الأمر كلّه وهو المستعان في كلّ شيء. وبذلك فلن تتوقف المسيرة بالتوكّل، بل تبقى مستمرّة في خطّ الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، مهما أثير أمام الدعاة من عقبات وتحدّيات وتهاويل، غير أنّها تحاول التقاط أنفاسها لتعيد النظر في خططها، وفي ما قتعته من مراحل على الطريق، وفي ما بقي لها منه.. وفي ما تواجهه من حواجز، وموانع، لتفكّر في ذلك كلّه، ولتدبّر منه ما لا تستطيع السيطرة عليه، وتترك الأمر فيه إليه، وهذا ما يجعل من التوكّل مصدر حركةٍ واعيةٍ في الواقع، لا مصدر هروب من مواجهته.