تفسير القرآن
النحل / من الآية 56 إلى الآية 60

 من الآية 56 الى الآية 60

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ* وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ* وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ* يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ* لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (56ـ60).

* * *

معاني المفردات

{كَظِيمٌ}: المغموم الممتلىء غيظاً دون أن يبديه.

{يَتَوَارَى}: يستخفي.

{هُونٍ}: ذلةٍ وخزي.

{يَدُسُّهُ}: يخفيه.

* * *

ملامح انحراف عقيدي في مجتمع الدعوة الأول

للانحراف في العقيدة نتائج على مستوى التصور والممارسة، في ما يمكن أن يجعله المنحرفون لآلهتهم المدّعاة من امتيازات، وفي ما يمكن أن ينسبوه إلى الله من أمور، لأن الأساس إذا لم يكن مرتكزاً على قاعدة العلم والحجة، فإن النتائج المتفرعة عنه ستخضع للهوى وللمزاج. وهذا نموذج مما كان مجتمع الدعوة الأول يعيشه من تصورات.

* * *

الشرك بالله عن جهل

{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} وهذا تعبير قرآني عن الآلهة التي يدّعونها من دون الله باعتبار أنهم لا يرتكزون إلى قاعدةٍ فكريةٍ أو علم ثابت {نَصِيبًا مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ}، فكانوا يخصونها ببعض الأموال والأشياء، ويخصون الله ببعضها الآخر. وقد أشار الله إلى ذلك في آية أخرى في قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136] ولكن الله سبحانه ينكر عليهم ذلك، لأنهم لا يملكون مثل هذا الجعل، طالما أن الله هو مصدر الرزق، ما يفرض أن يكون أمره إلى الله لا إليهم، فليس لله حصة خاصة فيه، بل هو لله كله، هو الذي يجعله لهذا ولذاك في مجال التوزيع والتقسيم، في ما يشرّعه من أحكام، وليس لهم من ذلك أي نصيب {تَاللَّهِ لَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} من هذه الأحكام.

* * *

مع صاحب الميزان في تفسير الآية

ولصاحب الميزان تفسير آخر للآية، وذلك بأن يكون «المراد بما لا يعلمون، الأسباب الظاهرة التي ينسبون إليها الآثار على سبيل الاستقلال، وهم جاهلون بحقيقة حالها، ولا علم لهم، جازماً أنها تضر وتنفع مع ما يرون من تخلّفها عن التأثير أحياناً. وإنما نسب إليهم أنهم يجعلون لها نصيباً من رزقهم مع أنهم يسندون الرزق إليها بالاستقلال من غير أن يذكروا الله معها، ومقتضاه نفي التأثير عنه تعالى رأساً لا إشراكه معها، لأن لهم علماً فطرياً بأن الله سبحانه له تأثير في الأمر»[1].

ولكن هذا لا يتناسب مع ظاهر الكلمات، لأن مدلول عبارة {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ} هو الحصة، على نحو التمليك، كما أن جوّ الآيات هو الحديث عن الأصنام التي يعبدونها من دون الله، وهو الظاهر من كلمة {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} لأنه أشبه بالمصطلح القرآني للشريك المعبود عندهم، كما يوحي وصف المشركين بأنهم الذين لا يعلمون في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:113] وذلك في مقابل أهل الكتاب، مع أن أسلوب الآية هو نفسه الأسلوب التي جاءت في سياقه آية تقسيم المشركين الحصص بين الله وبين الشركاء {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} كان العرب يفضلون الذكور على الإناث ولا يرون للبنت قيمةً من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، بل ينظرون إليها كمتاع، ينتقل بالإرث إلى الولد الأكبر، ولكن ما يميزها عن المتاع أنها قد تجلب العار إلى العشيرة عندما تتعرض للسبي، أو للاغتصاب، وما إلى ذلك. ومما يلفت النظر أنهم كانوا ينسبون الإناث إلى الله فيقولون عن الملائكة إنهم بنات الله {وَجَعَلُواْ الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف:19]، كما جعلوا بينه وبين الجنّ نسباً، كما في بعض الآيات. وهكذا نسبوا الإناث إلى الله، الذي جلّ عن أن يكون له ولدٌ، ذكراً كان أو أنثى. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه عليهم، من خلال ما نستوحيه من جوّ الآية هو، لماذا هذا التصنيف لما يعتبرونه ولداً لله، وجعله في دائرة الإناث اللاتي لا يمثلن قيمة بالنسبة إليهم ولا يرضون لأنفسهم أن يكون أولادهم منهن، لذا كانوا يقومون بوأدهن عند إنجابهن، هل هي استهانة بمقام الله؟ أو هو تقديرٌ خاطىء منهم، نتيجة الفهم السيىء لطبيعة الملائكة أو الجن، وعلاقتهم بالله؟

وليست الآية ـ كما توحي به ـ في معرض التنديد بهم، لأن البنات لا يمثّلن قيمة لدى الله، بل هو تنديد بهم لأنهم ينسبون إليه الولد ثم يجعلونه أنثى، في الوقت الذي لا مجال لنسبة الولد إلى الله، بالأساس، ففي ذلك إساءةٌ إلى مقام الله سبحانه، من جهة مبدأ النسب، ومن ناحية التطبيق في مفهومهم المنحرف حول الملائكة.

* * *

الاستياء من بشارة الأنثى

{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} إن الأنثى تمثل مشكلة في المجتمع الجاهلي الذي يخاف من العار الذي تحمله لأهلها في حالات وقوعها تحت سيطرة الأعداء، ولذلك فإن البشارة بها، تعني البشارة بالعار القادم من خلالها. وهذا ما يفسر اسوداد وجهه بما تعبر عنه كلمة الاسوداد من ظلام وانفعالٍ وتوتّرٍ شديدٍ، تعبيراً عن الشعور بالمأزق الذي وقع فيه، والعار المترتِّب في دائرة احتمالات المستقبل، وذلك في مقابل ابيضاض الوجه الذي يوحي بالإشراق الداخلي المنعكس عليه على أساس إشراقة المستقبل على مستوى المصير.

وهكذا يواجه الواحد منهم ولادة الأنثى بغيظ متفجر يحتبس في الصدر دون أن يتمكن من التعبير عنه بالقول أو الفعل لحراجة الموقف، فيبقى كاظماً لغيظه، بانتظار أن يعبر عنه بطريقةٍ أخرى {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} كأنه يفرّ من العار الذي أحاط به. {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} أي ذلة {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} وذلك بطريقة الوأد وهو دفنها حيّة.

* * *

تساوي الذكر والأنثى عند الله

{أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} لأن مثل هذا الانحراف في التصور لقضية الذكر والأنثى، لا ينسجم مع ما جاءت به الرسالات السماوية من مفاهيم إنسانية تقضي بتساوي النظرة إلى كل منهما لجهة الطبيعة والقيمة والمسؤولية، فإن الأنثى كما الذكر إنسان، تقع استقامته أو انحرافه في دائرة مسؤوليته الشخصية، ولا تتعداها إلى الأهل والعشيرة، بالتالي فإن شرفها وعارها يقع في تلك الدائرة أيضاً ولا يتعداها، وأي انحراف من المرأة يطال المجتمع بالعار يجب أن يكون كذلك بالنسبة للرجل على المستوى الإنساني، وإلا فإنه يمثل انحيازاً لا إنسانياً إلى جانب الرجل، وحكماً سيئاً لا ينسجم مع العدالة الإنسانية والإلهية في التشريع، كما أن عملهم هذا بإمساك الأنثى على أساس الذل والهوان، أو وأدها في التراب وهي حيّةٌ، هو من الأعمال التي يحكم الله بسوئها في حساب النتائج.

* * *

مثل السوء لمنكري الآخرة

{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ مَثَلُ السَّوْءِ} وذلك من خلال ما يحملونه من الفكر السيىء، وما يمارسونه من الأعمال السيئة، وما يخططون له من الأهداف الشريرة، وما يأخذون به من الوسائل السيئة، ما يجعل أيّة فكرة، يمكن أن تكون تعبيراً عنهم مشحونةً بالسوء، من ناحية المعنى والإيحاء، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى} الذي لا يصل إليه مخلوق، لأن أيّة صفة من صفاته تمثل الامتداد الذي لا حدّ له في كل مجال، ولأن أسماءه الحسنى تمثل التعبير الحيّ عن الحق كله، وعن الخير كله، وعن الرحمة كلها {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الذي لا يقترب أحد من ساحة عزته، ليسيء إليها أو لينتقص منها، كما لا يبلغ أحدٌ من البشر مستوى حكمته التي أحاطت بتدبيرها كل شيءٍ، فكانت الحياة بجميع مظاهرها وقوانينها، صورةً ناطقةً بأسرار حكمته، في انطلاقة الوجود، وفي حركته، وفي تفاصيله المتنوعة في جميع الموجودات.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:12، ص:273 و274.