تفسير القرآن
النحل / من الآية 61 إلى الآية 64

 من الآية 61 الى الآية 64

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلكِن يُؤَخِرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ* وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ* تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـّانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون} (61ـ64).

* * *

إذا جاء الأجل فلا تقديم ولا تأخير

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو القادر على ذلك كله، فهو الذي بدأ الحياة بقدرته، وهو الذي يستطيع إلغاءها بإرادته التي لا يعجزها شيء، لأنه مالك الموت والحياة. وإذا كانت المسألة مسألة الاستحقاق، فإن الناس يستحقون ذلك لظلمهم أنفسهم بالكفر والمعصية، وظلمهم الحياة بالزيف والانحراف، وظلمهم بعضهم البعض بالقهر والغلبة، ويمثل هذا الظلم، في كل أنواعه وأشكاله، ظلماً لله، في حقه على عباده، لتوحيده، ونفي الشركاء عنه، والالتزام بطاعة أوامره ونواهيه، والسير على خط إرادته فكراً وحركة، من أجل تجسيد الأهداف الكبيرة والمثل العليا في الحياة. ولكن الله يمهلهم ليتراجعوا، وليتوبوا، وليستقيموا على الطريقة اللازمة، حتى يستنفد كل تجربةٍ، فلا يبقى لهم مجالٌ لأيّ عذر، أمام الفرص المتاحة لهم في كل زمانٍ ومكان، حتى يبلغوا أجلهم الذي حدّده الله لهم، بحسب حكمته {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتقْدِمُونَ} لأن ذلك الأجل يمثل إرادة الله، وإذا أراد الله شيئاً فلا رادّ له.

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} من البنات وغير البنات دون تبرير نسبة ذلك إليه في كلمات لا مسؤولة ولا معنى لها، ولا هدف من ورائها، غير تعمد الإساءة إلى الله في تلك الكلمات، وهو أصل يكاد يكون غير مفهوم، لأنهم لا ينكرون ألوهيته، الأمر الذي يفرض احترامه وإجلاله، ولكنه الجهل الذي يؤدّي بأصحابه إلى الهلاك.

{وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} ذلك أن الكذب يطبع سلوكهم وحياتهم في كل ما يقولونه عن الله وعن الناس وعن أنفسهم، لأنّ الذين لا يلتزمون بالحق في العقيدة، ولا يتحملون مسؤولية البحث عنه، لا يمكن أن يحترموا الحقيقة في كلامهم، على حساب نوازعهم الذاتية وشهواتهم ومطامعهم التي ينطلقون منها ويقررون على أساسها أن لهم الحسنى. وربما كان المراد بها الجنة التي قد يرون أنهم يستحقونها دون حجة تؤكد ذلك أو علم. ولكن الله يواجههم بالحقيقة الصارخة المنطلقة من شركهم وضلالهم وتمرّدهم على الله سبحانه {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} أي السابقون المقدّمون إلى عذاب النار، لأن الفرط هو السبق، والمفرط هو ما يقدم ليسبق فلا يؤجّل.

* * *

الشيطان يزين الأعمال

{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ} الرسالات التي تنظم حياتهم في جانب العقيدة والعمل، على النهج الذي يضمن لهم سعادة في الدنيا والآخرة، ولكنهم لم يأخذوا بالجانب الخيّر من هذه الرسالات، بل أخذوا بالجانب المضاد لها، وعملوا في اتجاه الشرّ {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَاِّنُ أَعْمَالَهُمْ} وصور لهم الباطل حقاً، وألبس الحق ثوب الباطل، وأخذ من الحق شيئاً، ومن الباطل أشياء، وجمعها في خليط هجين صنع منه خطاً للعقيدة أو للسياسة أو للاجتماع، وقاد الإنسان إلى السير عليه، على أساس أنه خط الحق المستقيم.. وبذلك استطاع أن يجتذب مشاعرهم ويحتوي أفكارهم، وحوّلهم إلى جماعةٍ شيطانية، تتأثر بأساليبه، وتسكن إلى أفكاره {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} في ما تمثله الولاية من النصرة والالتزام والاتباع، وبذلك ابتعدوا عن مواقع رحمة الله وخرجوا عن ولايته إلى ولاية الشيطان وابتعدوا بذلك عن مواقع رحمة الله {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} جزاءً على انحرافهم عن الخط المستقيم.

ولكن الله لا يترك عباده للشيطان، بل يتابع عملية إرسال الرسل إليهم، من أجل فرصةٍ جديدةٍ للهداية وللتوعية وللالتزام، وذلك، على أساس الثقة بالإنسان الذي قد تبعده بعض الظروف أو الأوضاع أو النوازع، بما تثيره فيه من شبهات وشكوك ومشاكل، عن رؤية الحق كما هو، وتقوده بالتالي إلى الضلال. ولكنه يمكن أن يتوقف في بعض الأحيان ليطرح علامات الاستفهام حول المؤثرات الذاتية أو الموضوعية التي ساهمت في تكوين قناعاته أمام الفكر الجديد الذي يدعوه إلى التفكير وإعادة النظر في ما اتخذه من قرارات، ويصل بالتالي إلى تغيير الاتجاه الذي انحرف معه. ولهذا كان تتابع الرسالات يمثل استمرارية العمل على الوصول بالإنسان إلى الحق الذي لا ريب فيه، من خلال الوحي وما يتضمنه من فكرٍ وشريعة ومنهج واضح، ومن خلال الرسول وما يمثله من خلقٍ عظيم، وروح منفتحة، وأسلوبٍ حكيم. {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ} مما أثارته الأفكار المريضة من شكوك وشبهات وخلافاتٍ، فيكتشفون فيه طريق اليقين الذي يمتص كل شبهة وشك وخلاف {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، انفتحت قلوبهم على الله، فالتقت بهداه في آيات وحيه، وبرحمته في آفاق شريعته ومنهجه العملي للحياة.