من الآية 65 الى الآية 71
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ* وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ* وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ* وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (65ـ71).
* * *
معاني المفردات
{فَرْثٍ}: ما يبقى من المأكول في الكرش بعد الهضم ويسمى الثفل.
{سَآئِغاً}: ما سهل مروره في الحلق.
{يَعْرِشُونَ}: يرفعون من الكروم والسقوف.
* * *
جولة كونية في آفاق نعم الله
وهذه جولةٌ كونية في آفاق نعم الله التي خلقها لعباده من أجل أن تستمر بها حياتهم، وتتلون بأنواع الملذات والمشتهيات، ليعبدوه، من موقع أنه الإله المنعم الواحد، وليشكروه من مواقع هذه النعم التي لا حياة لهم بدونها. وذلك هو الأسلوب القرآني في إثارة وعي الإنسان بربه، من خلال انفتاحه على الحياة، حيث تتحرك خطوات العقيدة في فكره من تحسس الحياة في وجدانه، فلا ينفصل جانب العقيدة عن جانب الحياة، وهكذا يحس الإنسان المؤمن بحضور الله معه من خلال كل النعم التي تحيط به من كل جانب.
* * *
نعمة إنزال المطر
{وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَآءِ مَآءً} وكانت الأرض جرداء لا تنبت شيئاً، وميتة لا تنتج ولا تنمو فيها أيّة بذرةٍ للحياة. حتى إذا نزل عليها المطر من السماء، وابتلت عروقها بقطراته، وامتلأت خزاناتها بمياهه، دبت فيها الحياة {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ}. وذلك هو سرّ تجدد الحياة بالماء، الأمر الذي يدفع بالإنسان إلى التفكير في عظمة الله الذي أبدع الحياة في الأرض، كما أبدعها في الإنسان {إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} فيصغون بمسامع قلوبهم لما يسمعونه من دلائل القدرة، أو لما يشاهدونه منها، فيكون ذلك أساساً للقبول والقناعة، لما توحيه الكلمة المألوفة في التعبير عن الموافقة بالسماع، في قولهم: إن فلاناً يسمع الكلام، أي يقبله.
* * *
نعمة الأنعام وأخذ العبرة منها
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الاَنْعامِ لَعِبْرَةً} ودرساً للإبداع الإلهي في خلقه، وفي نعمته، في الإبل والبقر والغنم {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} أي في بطون ما ذكر منها {مِن بَيْنِ فَرْثٍ} وهو الثفل الذي ينزل إلى الكرش والأمعاء {وَدَمٍ} في مجرى الشرايين والأوردة {لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِين}، وهذا هو مكان اللبن الخارج منها الذي يقع في مؤخر البطن بين الرجلين، ولعل اعتبار اللبن بين الفرث والدم راجع إلى مجاورته لهما، واجتماع الجميع داخل الحيوان. أما العبرة من ذلك، فهو أن هذا اللبن السائغ اللذيذ الخالص لم يتلوث بالفرث وبالدم، ولم يختلط بشيء منهما، بالرغم من مجاورته لهما، ما يوحي بالقدرة الإلهية التي تجمع كل هذه الأشياء المتنوعة دون أن يتأثر أحدها بالآخر، مع قربها من بعضها البعض، ودقّة الحاجز الفاصل بينهما. وربما كان في هذا إيحاءٌ بأن القادر على تخليص اللبن من بين فرث ودم، لا يعجزه أن يبعث الإنسان ويحييه بعد أن صار عظاماً رميماً وذهبت في الأرض أجزاؤه..
* * *
إنعام الله بأنواع الثمرات
{وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} وفي إمكانية تحول هذه الثمرات إلى شراب مسكر، ما يدفع الإنسان إلى التفكير في القدرة الإلهية التي يجسدها ذاك التحول على الرغم من كونه لا يمثل صلاحاً للإنسان بل فساداً له، ولكن الآية لا تتناول تلك الخصوصية لجهة القيمة بل لجهة القدرة، وبهذا يُجاب عن السؤال الذي يُثار أمامنا حول الحديث عن السكر كنعمةٍ وكقيمةٍ إيجابيّةٍ، في الوقت الذي حرَّم الله فيه الخمر أشدّ التحريم، فقد اعتبرها رجساً من عمل الشيطان، ووسيلةً من وسائل إثارة العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فإن القضية قضية الخصائص الذاتية، لا الخصائص الروحية.. ولعلنا نلاحظ في الفقرة التالية {وَرِزْقًا حَسَنًا} أنه وصف الرزق بالحسن، وهو ما لم يصف به الكلمة السابقة، للإيحاء بالصفة المضادّة لمضمونها، {إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ممن يستعملون عقولهم لدراسة الخصائص الدالة على سر العظمة في الخالق من خلال سرّ الإبداع في المخلوق.. فمهمة العقل لدى العقلاء، أن يتحرك في الاتجاه الذي يمنحهم فكرةً جديدةً، أو تجربةً نافعةً، لأن ذلك هو السبيل الذي يوصلهم إلى العقيدة الصحيحة، والرؤية الواضحة، بعيداً عن كل انحرافٍ أو تحريف أو التواء.
* * *
وحي الله إلى النحل
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}. ويريد الله لنا أن نتطلع إلى النحل، هذا المخلوق الصغير العجيب الذي يبني بيوته في الجبال وفي الشجر وفي الكروم التي يرفعونها، على مستوى عالٍ من الصنعة الهندسية، كما يتبع نظاماً متقدماً في توزيع المسؤوليات وتجميع العسل وفحص نوعية الغذاء الذي يتشكل منه قبل فرزه، في نظام دقيقٍ متقنٍ لكل خطوات حياة هذه المخلوقات التي لا تملك عقلاً، والتي تشكل الفطرة أساساً لحركة حياتها، ضمن السنّة الكونية التي ألهم الله فيها كل نفسٍ هداها، لتحقق الغاية من وجودها، لنفسها وللمخلوقات من حولها. وهكذا كان وحي الله للنحل أن تتخذ لنفسها بيوتاً، ثم أن تبدأ في الإعداد للقيام بدورها الطبيعي الذي أعدها الله له، من أجل استمرار حياتها، في ما فيه النفع للناس {ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَراَتِ} التي تشتمل على العناصر الغذائية المتناسبة مع طبيعة الشراب الذي تريدين تحضيره وصناعته {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} في ما ذلّله الله لكِ من وسائل للحصول على ما تريدين، فإن الله قد جرت حكمته أن يلهم المخلوقات ما تعمله، وأن يسهّل لها السبيل إلى ذلك. وبذلك تكون النتيجة الطيبة الحلوة من ذلك كله، في ما يتعلق بالنحل، {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} تبعاً لنوعية الغذاء الذي تتغذى به بين الأبيض والأحمر والأصفر {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} من كثير من الأمراض. وقد لا يكون من الضروري أن يكون فيه شفاء لكل الأمراض {إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في ما تستدعيه من تفكير في دلالاتها وفي طبيعة العقيدة التوحيدية التي توحي بأن الله وراء ذلك كله، وأنه هو السرّ في كل تفاصيل الوجود البديعة في مخلوقاته وفي منتوجاته.
وقد نقل بعض المفسرين، عن بعض المختصين، أنه اكتشف أخيراً، أن بعض النحل عندما ترتفع درجة الحرارة، ينقل الماء في خراطيمه ويرشّه داخل الخليّة، في حين يهز بعضه أجنحته ليحرك تيارات من الهواء داخلها فيتبخر الماء بسرعة، ومع التبخر تنخفض درجة الحرارة، وهذا بعض من الخصائص الكثيرة التي أودعها الله في نظام خلق النحل وطريقة حياته مما لا يتّسع هذا التفسير للحديث عنه، فليرجع إلى الكتب المختصة في هذا الموضوع.
* * *
الله وحده محدد آجال الناس
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} في الأجل المحدّد لكم الذي قد يأتيكم وأنتم في طور الصبا أو في مرحلة الشباب، أو في مرحلة الكهولة {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} وهو الهرم الذي يمثل حالة الوهن والضعف والشيخوخة المتقدمة التي يستولي فيها الضعف على الجسم والعقل والذاكرة {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} فينسى كل معلوماته أو أكثرها، ويفقد التركيز في ذلك كله {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } فلا يعزب عن علمه شيء، في كل حركة مخلوقاته، وهو القادر على كل شيء، فإذا تعلقت إرادته بشيء فلا رادّ لها.
* * *
التفضيل في الرزق
{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ} فلكل واحدٍ منكم قدرته الذاتية التي قد تختلف عن قدرة غيره. وربما تكون فرص الإنتاج لدى شخص، مختلفة عن الفرص الموجودة لدى شخص آخر. وهكذا تختلف ساحة العمل، ومراحله، وعلاقاته، وأوضاعه، ما قد يساهم في حصول بعض الناس على رزقٍ أكثر سعةً من بعضهم الآخر، وبذلك يتفاضل الناس في الرزق، فيصبح بعضهم غنياً وبعضهم الآخر فقيراً، تبعاً لحركة الأسباب والمسببات في ذلك. وبذلك لا تكون المسألة خارجةً عن عنصر الاختيار لدى الإنسان بشكلٍ مطلقٍ، بل قد يكون ذلك اختيارياً في بعض حالاته، كمن يملك إمكانية العمل فلا يعمل، أو كمن تتوفر له الظروف الملائمة للإنتاج فلا ينتهزها، وقد لا يكون اختيارياً، كمن وضعته الظروف في دائرةٍ ضيقةٍ لا يستطيع الخروج منها، أو كمن يتحرك في دائرة واسعة تسمح له بالامتداد أو تحقق له الغنى بطريقة حتمية.
وهكذا تكون مسألة الرزق خاضعةً للنظام الكوني الذي أراد الله للإنسان أن يتحرك فيه، على أساس الحكمة. وتلك هي الحقيقة الكونية التي أقام الله الحياة عليها، حيث تحكم قاعدة التنوّع والتفاضل في كل دوائر الوجود الحية والجامدة. ولكنه لم يترك للقاعدة التكوينية أن تحكم الإنسان بشكل قدري يحول الفقر والغنى إلى معيار تتحدد على أساسه قيمة الذات، بل وضع نظاماً تشريعياً يخلق التوازن بينهما على خط العدالة، فجعل للفقير حقاً في مال الغنيّ لا هدر لكرامته في أخذه، كما جعل العطاء فريضةً على الغني لا امتياز له فيه.
ولكن هذا الحديث كله ليس ما تريد الآية أن تثيره وتفيض فيه، بل هو مقدّمة لحديث آخر يتعلق بحركة العقيدة في وعي الإنسان لقضية التوحيد لله {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} أي فإذا كان الله قد فضَّل بعض الناس على بعض في الرزق، فإن الذين فضُلوا لا يقبلون بالتنازل عما يملكونه من امتيازاتٍ، لمن ملكوه من عبيد وإماء ليكونوا سواءً في ذلك، فكيف يمكن أن تساووا الله الذي يملك القدرة كلها بهؤلاء الشركاء الذين تدعونهم من دون الله الذي لا يملكون شيئاً معه؟! هذا أحد الوجوه التي ذكرت في تفسير هذه الفقرة من الآية.
وقد ذكر هناك وجه آخر ـ كما جاء في الكشاف ـ: «إن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً، فهم في رزقي سواء، فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق، فإنما ذلك رزقي أجريه إليهم على أيديهم»[1].
وهناك وجه ثالث ـ ذكره الزمخشري ـ قال: «أي جعلكم متفاوتين في الرزق، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم، فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تتساووا في الملبس والمطعم»[2].
ولكن مدلول منطوق الآية ليس ظاهراً في ذلك كله، لأن كل ما جاء فيه هو أن الذين فضلهم الله على الآخرين في الرزق، ليسوا مستعدين للتنازل عما فضلهم الله به، إلى هؤلاء الذين فضلهم الله عليهم، وجعلهم مملوكين لهم، ليتساووا معهم في الرزق، أو أن المسألة تمثل حالةً طبيعية في استمرار هذا التفضيل، في ما يعيشه هؤلاء من شعورٍ وامتيازٍ، ما يحملهم على المحافظة على ما هم فيه، بعدم التنازل عنه للطبقات الأخرى. وبذلك تكون الآية واردةً في الحديث عن تأكيد هذه النعمة للإيحاء بضرورة الشعور بقيمتها في حياة الإنسان، لأن الغفلة عنها، نظرياً أو عملياً، يعتبر جحوداً للنعمة، لا يريد الله لعباده أن يعيشوه في سلوكهم العقيدي العام {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} في ما يمثله النسيان لهذه النعمة من جحودٍ على مستوى الحالة الذهنية، أو لما يمثله الشرك بالله وعبادة غيره من جحود واقعيٍ عملي، بعد الانتباه بأن الله هو وحده المنعم، في ما يفرضه شكر النعمة من الإخلاص لله بتوحيده في العقيدة أو في العبادة.
ـــــــــــــــــ
(1) الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر (الخوارزمي)، الكشاف عن حقائق التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر، ج:2، ص:419.
(2) م.س، ج:2، ص:418.
تفسير القرآن