من الآية 72 الى الآية 77
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ* وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ* فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ* ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ* وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (72ـ77).
* * *
تعداد نعم أخرى لله على الناس
ويستمر الحديث عن نعم الله على الإنسان، كأسلوب من أساليب تعزيز الإيمان به، باعتباره ولي النعمة وولي الوجود.
* * *
خلق الأزواج من النفس
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} في ما يمثله الزواج من علاقةٍ روحيّة وجسديّة تبني لكل من الزوجين حياته المطمئنة الهادئة التي يسكن فيها إلى إنسان مثله، يختلف عنه ببعض الخصائص التي تدخل في دائرة التنوع الذي يشكل سبباً لتجاذب الطرفين وتفاعلهما، وعاملاً أساسياً من عوامل خلق الطمأنينة على المستوى الجسدي، حيث تتحقق سكينة الجسد بالإشباع الجنسي، وعلى المستوى النفسي، حيث تقوم على التوادّ والتراحم الإنسانيين بما يمثله الزواج من علاقة المودّة والرحمة والوحدة الجسدية والروحية.
{وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} وتتعدى نعمة الزواج الفرد إلى النوع، إذ إن عملية التناسل في العلاقة الزوجية تنتج بنين يشكلون امتداداً لوجود الإنسان الفرد بعد موته من خلال أولاده أولاً وأحفاده ثانياً، وبذلك تحقق عملية التناسل حالة ذاتية وجدانية للإنسان الفرد، تلبي له رغبته الذاتية، وحالةً نوعية شاملة للإنسان النوع، تحقق له الامتداد الإنساني في الوجود.
{وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} التي تجعل من حياتكم حياةً طيبةً، في كل ما تستطيبونه من طعامٍ وشراب وزينة، مما يدخل في ضرورات حياتكم من جهةٍ، أو مما يتصل بلذاتها وشهواتها من جهةٍ أخرى.
ولكن هذا الحديث لا يمثل مجرد كلامٍ عن الجانب المادي من هذه النعم، بل هو حديث عن الجانب الإيحائي الذي يحويه اتصال النعمة بالله من معنى توحيدي يبعد الإنسان عن حالة الشرك، على أساس أن التوحيد هو الحق، وأن الشرك هو الباطل، وأن الانسجام مع الحق يمثل الشكر العملي للنعمة، وأن الانفصال عنه والارتباط بالباطل يمثل الكفر الواقعي بالنعمة. {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} في ما يؤمنون به من شركٍ في العقيدة وفي العبادة {وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} أي ويكفرون بتوحيد الله، وهو يمثل الكفر بنعمة الله، بشكلٍ غير مباشرٍ {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً} لأنه لا يملك أن يرزق نفسه، بعدم امتلاكه أيّ أساسٍ من القوّة الذاتية، ويتركون عبادة الله الذي يملك الوجود كله، كما يملك الرزق كله لما يتحرك فيه الوجود من موجودات {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} أي لا قدرة لهم بالفعل، لما تمثله الاستطاعة من معنى القدرة الفعلية المباشرة.. وإذا كان هؤلاء عاجزين عن تقديم أيّ شيءٍ لهم، فكيف يعطونهم ما يقدمونه لله من العبادة!
* * *
النهي عن ضرب الأمثال لله
{فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأَمْثَالَ} وذلك بأن تجعلوا له الأشباه والنظائر من بين خلقه، من خلال ما تسبغونه عليها من صفات إلهيّةٍ لا تملكها، لتبرّروا عبادتها وتقديسها، بعيداً عن الله ـ سبحانه ـ {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ولا تأخذون بأسباب العلم مما ألهمكم الله من فكرٍ، لو أخذتم به واستنطقتموه لهداكم إلى الحقيقة، أو مما أوحى به الله إلى رسله، وأنزله في كتبه.. فلو استمعتم إليه وفكرتم فيه، لقادكم إلى الإيمان من أقرب طريق.
* * *
مثل العبد المملوك
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا}.
إن الله يضرب المثل من داخل حياة الناس، لينقلهم ـ من خلاله ـ إلى الفكرة التوحيدية التي تمثل مضمونه الفكري. وهو أسلوب عمليّ غايته تحريك فكر الإنسان للدخول في مقارنةٍ واعية، بين ما يحيط به، وبين الفكرة التي يريد له الداعية أن يعتقد بها. وفي هذا المثل نشاهد في أحد جانبي الصورة عبداً مملوكاً لا يملك حريته في نفسه، ولا في عمله، ولا يقدر على شيء مما يقدر عليه الآخرون. إنها صورة الإنسان المغلول اليد، الفاقد للحرية، الذي يعيش تحت سيطرة الآخرين، فلا يملك أن ينفع أحداً بأيّ شيء من مواقع إرادته. ونشاهد في الجانب الآخر صورة الإنسان الحرّ الذي يملك الإمكانات الذاتية التي مكّنه الله منها في نفسه وفي ماله، كما يملك حرية الحركة فيها، ويعيش روحية العطاء في علاقته بالآخرين، فهو ينفق مما لديه سرّاً وجهراً، في كل موقعٍ من مواقع العطاء الذي يحتاج إليه الناس من حوله {هَلْ يَسْتَوُونَ} هل يمكن للعقل المنفتح أن يساوي بين هذين الشخصين، فيجعلهما في درجةٍ واحدةٍ، وهل يمكن أن يستوي العجز مع القدرة، والوجود الغني النافع مع الوجود الفقير الذي لا يمثل أيّ شيء؟ وإذا كان العقل يرفض مثل هذه المساواة في الوجود الإنساني، فكيف يمكن للعقل أن يقبل المساواة بين المخلوق الذي لا يملك أي شيء من القدرة الذاتية، حتى في ما يتعلق بنفسه، فيجعله شريكاً لله، وبين الخالق الذي يملك الوجود كله، ويمنحه كل ألوان الحياة التي تستمر مفرداتها الحية والجامدة، بنعمته وبقدرته. {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي الثناء والمدح له، في ما يتصف به من الصفات التي لا نهاية لها في مضمونها الإلهي، ولا حدّ، وليس لغيره مثل هذا الحمد، بل كل حمدٍ لغيره فهو مستمد منه، لأن كل شيء من شؤون المخلوقين هو مخلوق له {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} حقيقة الوجود، وما هي خصائص الخالق، وخصائص المخلوق، لأنهم في غفلةٍ عن ذلك كله، لاستغراقهم داخل الأفكار الموروثة التي لا يتحركون خطوةً واحدةً بعيداً عنها في اتجاه فكرٍ جديد. وتلك هي مشكلة الذين لا يعلمون ولا يريدون أن يخرجوا من دائرة الجهل إلى دائرة العلم، تحت تأثير العصبية العمياء التي تقدس الخطأ، وتحترم الخرافة، وتستسلم للجهل، لأنها لا تريد أن تخرج من حالة الاسترخاء الفكري إلى حالة الجهد الذي يبحث فيه الإنسان عن الجديد في العقيدة وفي الشريعة وفي الحياة.
* * *
مثل الرجل الأبكم والرجل العادل
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} أي أخرس {لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} لا يملك أيّة قدرةٍ ذاتية في نفع نفسه، أو نفع الآخرين {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} ثقيلٌ عليه في ما يتحمله من أموره وحاجاته التي لا يستطيع القيام بأيّ شيء منها لتخفيف العبء عنه، فهو يعتمد عليه في كل الأشياء، {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} لعدم امتلاكه العقل الذي يستطيع به إدراك الحسن من القبيح في القضايا المتعلقة بالواقع من حوله وبالآخرين ليحدد موقفه منها، كما لا يملك السمع الذي يستطيع أن يستوعب فيه التوجيهات، ولهذا فإنه لا ينفع صاحبه في ما يوجهه إليه من أعمال، بل ربما يأتي بالشرّ وهو يظن أنه الخير، ويتحرك نحو القبيح وهو يحسب أنه الحسن. وهذه هي الصورة المظلمة، صورة الإنسان الأخرس الذي لا ينطق، وقد لا يكون ممن يسمع، العاجز الذي يمثل وجوده عبئاً ثقيلاً على مولاه، ولا يجلب له أيّ خير في أيّ طريق يتوجه إليه. وهناك صورة أخرى، تتميز بالإشراق {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} وهو الإنسان العاقل الذي يعي جيداً واقع الناس والحياة من حوله، فيميز بين الاستقامة والانحراف، وبين العدل والظلم، ويتدخل لتقويم انحراف الواقع، ولقيادة الناس إلى خط العدل، بالكلمة وبالموقف، ليجلب لهم الخير، في ما يمثله العدل من معنى الخير، أو يدفع عنهم الشرّ في ما يمثله الظلم من معنى الشرّ، وهذا هو الإنسان القادر على الخير والعامل في سبيله {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} في فكره وفي عمله. وإذا كان البعد بين هذين الرجلين بهذا الوضوح، ما يجعل اختيار الإنسان الأول أمراً لا معقولاً، لا بد معه من اختيار الإنسان الثاني الذي يعطي الحياة معنىً كبيراً، ويحقق لها المنافع على أكثر من صعيد. فكيف تكون الحال عندما يقف الإنسان بين صورة الإنسان العاجز، والذي لا يتحرك من موقع الخير، ولا يملك القدرة النافعة، وبين صورة الخالق الذي يعطي الحياة وجودها وقوّتها واستقامتها في خط العدل.. أو عندما يقف بين صورة الداعية إلى الكفر والضلال الذي لا يقدم للحياة أيّ خير، بل يأخذ منها ولا يعطيها، ويضرّها ولا ينفعها، وبين صورة الإنسان الذي يسير على الخط المستقيم، ويأمر بالسير على خط الاستقامة، ويحقق للحياة النفع الكبير من جهده ومن فكره، هل يستويان؟ وربما كان جوّ هذه الآية هو الجو نفسه الذي توحي به الآية الكريمة: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35].
وهذه هي المعادلة القرآنية التي تقضي بالوقوف مع الذين يأمرون بالعدل ويسيرون على الخط المستقيم الذي يصل بالناس إلى الأهداف الكبيرة في الحياة، وهو الأمر الذي يحدد للإنسان المسلم الموقع السياسي الذي يتحرك فيه، أو ينطلق منه، في انسجامه مع خط العدل، وارتباطه بالمصلحة العليا للإنسان على مستوى نهايات الأمور لا بداياتها. وذلك هو الشعار الذي يرفعه المسلم في خطوطه العريضة التي تشير إلى الخطوط التفصيلية في كل مفردات الواقع وجزئياته.
{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ}، فهو الذي خلقها، وهو الذي يعلم خفاياها في حاضر الأشياء ومستقبلها، لأنه الذي يستوي عنده السرّ والعلانية، وعلى الخلق أن يعيشوا وعي هذه الحقيقة في دائرة التصور والعمل، ولا يستسلموا للشعور بالأمن حيال ما لا يعلمون عاقبته ولا يطّلعون على مصيره، بل لا بد لهم والحال هذا من الاستسلام لله في كل شيء، والالتزام بأوامره ونواهيه، والحذر من الساعة التي لا يملكون علمها، ولكن الله يملك علمها، فقد تأتي بما يشبه المفاجأة، بشكل سريع غير منتظر {وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} لأن لها وقتاً لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يملك معرفته إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو القادر على أن يأتي بالساعة، من حيث لا ينتظرها الناس، وهو القادر ـ كما توحي الآية ـ أن يؤاخذهم يوم القيامة، على كل ما ارتكبوه من معاصٍ وانحرافات، في حين لا يملك أحدٌ أن يغيّر ما يريد.
تفسير القرآن