من الآية 84 الى الآية 89
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ* وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَـؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ* وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ* الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ* وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (84ـ89).
* * *
معاني المفردات
{شَهِيدًا}: الشاهد.
{يُسْتَعْتَبُونَ}: يسترضون ويستصلحون.
{السَّلَمَ}: الاستسلام والانقياد.
{تِبْيَانًا}: بياناً.
* * *
عرض بعض مشاهد القيامة للعبرة
تتنوّع مشاهد القيامة الواردة في القرآن، بغرض دفع الناس لمعايشة صعوبتها في الدنيا، كي يتخذوا الموقف المسؤول الذي يجنّبهم عذابها في الآخرة، والآيات التالية تدخل في هذا السياق.
* * *
لكل أمة شهيد
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً}، يشهد على أعمالها ومواقفها وعلاقاتها في حركة الحق والباطل والكفر والإيمان، ليقدّم لله ـ سبحانه ـ حساب المرحلة الزمنية التي شهد أحداثها في أمته، وقد يكون هذا الشاهد نبياً، أو إماماً، أو عالماً، وقد تمثله النخبة الصالحة الواعية التي تواجه الأمة بالدعوة والجهاد والمعاناة لتوجهها إلى الطريق المستقيم، فتشهد لها أو عليها أمام الله تبعاً لتجاوبها مع دعوتهم تلك، فإذا شهد الشهداء بقيام الحجة على الكافرين، واختيارهم مواقف الكفر، ثبت الحكم على الكافرين، وواجهوا العذاب {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} بالكلام والاعتذار، لأن البحث عن كلمات تبرّر العمل لا يجدي في الآخرة، كما هي الحال في الدنيا، حيث يترك للمتهم حرية استخدام كل الأساليب المقنعة التي يدفع فيها التهمة عن نفسه، لأن محكمة الدنيا تبحث عن الحقيقة من خلال شهود الاتهام ورموزه، وشهود الدفاع ورموزه، وبذلك ينبغي إعطاء الحرية للجميع في الحديث عن معلوماتهم ومناقشتها بالطريقة الواضحة، أما في محكمة الآخرة، فإن الحقيقة الآتية من مصادرها المعصومة تفرض نفسها على الموقف، وبالتالي فإن الحكم على أساسها لا يشكل أي مصادرة لحرية الكافر في الدفاع عن نفسه. وليست الشهادة في الآخرة إلا لأجل إقامة الحجة عليهم أمام الناس، لا من أجل استيضاح الحقيقة {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي لا يسمح لهم بالاستعتاب، وهو طلب الرضا من الله، بالدعاء أو بالعمل الذي يصححون به أخطاءهم، لأن باب الدعاء والعمل قد أغلق بالخروج من الدنيا وبالدخول في الآخرة، كما جاء في كلمة الإمام علي(ع): اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل[1].
{وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ}، وهم الذين ظلموا أنفسهم بالكفر أو الشرك والضلال، في ما توحي به أجواء الآيات {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} إذا طلبوا التخفيف، لأن حجم العذاب كان ملائماً لحجم المعصية أو الانحراف، {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} إذا طلبوا الإمهال والتأخير إلى وقتٍ آخر. لأنه ليست هناك حالةٌ منتظرة، ليكون التأخير من أجلها، فليس هناك إلا المصير المحتوم.
* * *
تفرّق الشركاء
{وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ} الذين كانوا يعبدونهم من دون الله، أو يطيعونهم ويخضعون لهم في معصية الله، جهلاً أو تجاهلاً أو طمعاً، وهم الآن يرون خطورة ما كانوا عليه، ولا يجدون فرصةً للتخلص من نتائجه السلبية على مستوى المصير المظلم الذي يواجهونه. {قَالُواْ رَبَّنَا هَـؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ} فقد أضلّونا وزيّنوا لنا الشرك، ولولاهم لكنا مؤمنين.. ولكن هذا المنطق لا ينفعهم في التخلص من المسؤولية، حيث يعلن أولئك الشركاء رفضهم للتهمة {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} لأنهم أشركوا بنا بعد وعيهم لعقيدة التوحيد الذي يحكم به العقل، وأوحاه الله في كتبه، وليس لنا أيّ دخل في ذلك، فلا نتحمل أيّة مسؤوليةٍ عن مصيرهم.
{وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ}، فاستسلموا إليه من موقع العجز، بعد أن كانوا يرفضون الانقياد لأوامره ونواهيه في الدنيا، في ظل حرية الإرادة التي منحهم إياها في حركة الطاعة والمعصية، وكانوا يستعينون بالطغاة والبغاة ويستقوون في مواجهة الأنبياء والمصلحين، أما الان فلا شيء لديهم من القوّة الذاتية أو الخارجية ولا يملكون من حرية الحركة في ما يريدون شيئاً. إن الموقف هو موقف الاستسلام والانقياد والعجز المطلق أمام القوة الإلهية القاهرة المطلقة، {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} فضاعت كل أفكارهم وجهودهم وافتراءاتهم، وتبخّرت في الهواء. ولم يبق منها شيء إلا ما يبقى من الجريمة في مواقع المسؤولية.
* * *
العذاب فوق العذاب
{الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ}، لأنهم لم يكتفوا بالكفر الذي يفسدون من خلاله تصوراتهم وأوضاعهم وعلاقاتهم في الحياة، بما يتضمنه الكفر من تخريب للواقع العملي على أساس إيحاءات الواقع الذهني، بل أضافوا إلى ذلك الصد عن سبيل الله، ومنع الرسالة من الوصول إلى قناعات الناس وأفكارهم، والضغط على دعاتها وأتباعها بكل الوسائل التي تمنعهم من تحقيق أهدافهم الخيّرة في الحياة. وبذلك ساهموا في تعطيل حركة الحق والخير والعدل، فأفسدوا الواقع بطريقةٍ سلبيةٍ من هذه الجهة، كما أفسدوه بطريقةٍ إيجابيةٍ مضادّةٍ، من جهةٍ أخرى، في ما قاموا به من الدعوة للكفر، وإفساح المجال لقيمه الشريرة لتتركز في الأرض، فاستحقوا العذاب ضعفين، من خلال إفسادهم لحياتهم ولحياة الناس من حولهم، كما جاء في آية أخرى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13]، {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ} لأن قيمة الشهيد من الداخل، أنه يفهم القضايا المحيطة بالمسألة بعمق، فلا يكتفي بظواهرها، بل ينفذ إلى بواطنها، حيث المشاعر التي تفسِّر كثيراً من الأوضاع والخلفيات التي تتحرك من خلالها قضايا الواقع، مما لا يمكن أن يفهمه الآخرون الذين يأتون من خارج المجتمع غالباً إلا بجهدٍ كبير. وقد كرر هذه الفقرة في هذه الآية، تمهيداً للفقرة التالية {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلآءِ} والظاهر أن الإشارة بهؤلاء إلى الذين كذبوا محمداً(ص) من قريش وغيرهم، ولكن ليس معنى ذلك اختصاص شهادة الرسول بهؤلاء، لأن التعبير لا ينفي امتداد شهادته لغيرهم، باعتبار أن الحديث يتحرك في أجواء المواقع التي نزلت فيها الآية، وتبقى للآيات الأخرى، وللفكرة العامة التي تتحرك على أساسها الشهادة، ما يمكن أن يكون بياناً لسعة المساحة الزمنية والمكانية التي تنطلق فيها شهادة النبي على أمته، في زمانه وغير زمانه، ولكن بشكلٍ مباشرٍ تارةً، وبشكلٍ غير مباشرٍ أخرى.
* * *
الكتاب تبيان وهدى ورحمة
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} يحتاجه الناس في حياتهم العامة، في ما يتعلق بنظامهم العقيدي والشرعي والأخلاقي، على مستوى المفردات والمنهج، وليس من الضروري أن يكون المراد بكل شيءٍ، ما يشمل العلوم بكل تفاصيلها، والأشياء والموجودات بكل جزئياتها، لأن ذلك ليس من شأن الرسالة، ولا من مهمة الأنبياء، ولم ينقل في تاريخهم الطويل أي عملٍ أو دعوةٍ تشير إلى ذلك.
{وَهُدًى وَرَحْمَةً}، في ما يوضحه الله في الكتاب للناس من وسائل الهدى وأسبابه، وما يمهده لهم من طرق الهدى وسبله، وفي ذلك كل الرحمة للإنسان، لأنه ليس هناك رحمة أكثر وأعلى من المعرفة بالنهج الذي يحقق للإنسان الهداية في الدنيا والآخرة {وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} الذين أسلموا أمرهم لله، فالتزموا بشرائعه، وأقرّوا بمنهجه، وانفتحوا على الحياة كلها من خلاله.
ــــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة، خ:42 ـ ص:45.
تفسير القرآن