تفسير القرآن
النحل / من الآية 94 إلى الآية 96

 من الآية 94 الى الآية 96

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (94ـ96).

* * *

استغلال صفة الإيمان

{وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} ركزت الآية السابقة على النقض الذي لا يتناسب مع إعلان الله كفيلاً لمضمون اليمين، وفي ذلك إساءة إلى مقام الله كونه استعمالاً لاسمه كأداة للخداع وللخيانة، أما هذه الآية، فغرضها النهي عن اتخاذ الأيمان سبيلاً لتحقيق الأغراض الذاتية المشبوهة الباطلة، وفي ذلك انحراف أخلاقي على مستوى الممارسة العملية، يفقد خط السير ـ الذي يعتمده الناس ـ ثباته، ويفقد الشخصية توازنها وكذلك الحياة، لأن القضايا التي يقدسها الناس ويحترمونها في خطوطهم العقيدية، هي ضمانة لثبات الأرضية المشتركة التي يقفون عليها ويتوافقون على التعامل من خلالها، وإذا ما انتهكت تلك القداسة، باستخدامها للخداع والغش، فقدت تلك الأرضية ثباتها. وهذا ما توحي به الفقرة التالية: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا}، ويتحول الانحراف بفعل ذلك إلى خلق جديد يسم شخصية الإنسان بالسوء، تماماً كما هي حال الخطوات عندما تهتز وتفقد التماسك فتسير إلى الطريق غير المستقيم. {وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ} وهو العذاب الذي ينتظركم عند الله يوم القيامة ويمكن أن يكون المراد به النتائج السيئة لأعمالهم الشريرة في الدنيا، {بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} بأساليبكم الملتوية التي جسدها أكثر من وجهٍ من وجوه الإغراء والإغواء والخداع والدجل والخيانة، فأفسدتم العقيدة والسلوك، {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} بحجم الجريمة التي أجرمتموها، والفساد الذي أحدثتموه في حياة الناس، {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} بأن تبيعوا الالتزام بالحق، وتتنازلوا عنه، مقابل منفعةٍ خاصة، الأمر الذي يقوم به كثير من الناس، فيبتعدون عن مواقف الحق، وينقضون مواثيقهم التي أكّدوها، لأن هناك من يمنحهم على ذلك مالاً أو جاهاً أو فرصةً مادية من فرص الحياة الفانية، فيقفون ـ آنذاك ـ بين الدنيا والآخرة، حيث تخاطبهم الدنيا بشهواتها وإغراءاتها، وتدعوهم الآخرة إلى الالتزام بمواقف الحق طلباً لما عند الله في الدار الآخرة من رحمة ورضوان وجنات نعيم مقيم، فيفضلون الدنيا على الآخرة، ويختارون ما عند الناس على ما عند الله، {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} مما يختارونه من متاع الدنيا، {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وتدركون الفرق بين المنافع الباقية والمنافع الفانية.

* * *

طلب ما عند الله

{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ} لأنه مهما امتد وكبر حجمه فإنه ينتهي بالموت الذي تتركون معه كل ما جمعتم من مالٍ وما حصلتم عليه من جاهٍ، وما استمتعتم به من شهوات {وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} لأنه يمتد امتداد الخلود في الدار الآخرة، حيث نعيم الروح والجسد، ورضوان الله ورحمته التي هي أساس الخير كله للحياة كلها. لذلك لا بد للإنسان الذي يريد أن يواجه صعوبة تجربة الوقوف بين زخارف الدنيا وإغراءاتها ومواقعها، وبين حقائق الآخرة ومسؤولياتها ومتاعبها، من الصبر الذي يفرض عليه الضغط على كثيرٍ من شهواته ونزواته، لمصلحة مبادئه وموقعه من ربّه. وللصبر نتائج إيجابية كبيرة على مستوى ما ينتظره الإنسان عند الله من الخير الكثير والفضل العظيم.

* * *

جزاء الصابرين

{وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وقد جعل الله للصبر ميزةً على سائر الأعمال، لأنه يمثل القوّة التي تعطي للعمل ثباته وعمقه واستمراره، وتحقق للشخصية خصائصها الأخلاقية والروحية من موقع الإرادة الصلبة التي لا تضعف ولا تنهار أمام الإغواء والإغراء، ولهذا كان جزاء الصابرين هو أفضل الجزاء، باعتباره أفضل الأخلاق وأحسنها، بحيث يرفع الصبر من قيمة أي عمل، ويضفي عليه معنى إضافياً يفوق عناصره الذاتية، من خلال المعاناة التي يعيشها العامل أمام المصاعب التي تواجهه، والآلام التي تحدث له، ليتوقف القارىء أمام قوله: {بِأَحْسَنِ} ليستوحي منها بعضهم أن الله يلغي أجر الحسن من الأعمال، ويعطيه للأحسن، ونحو ذلك، ولعل هذا المعنى الذي استوحيناه هو الذي أشار إليه صاحب الميزان بقوله: «المراد بذلك أن العمل الذي يأتون به وله في نوعه ما هو حسن وما هو أحسن، فالله سبحانه يجزيه من الأجر على ما أتى به ما هو أجر الفرد الأحسن من نوعه، فالصلاة التي يصليها الصابر في الله يجزيه الله سبحانه لها أجر الفرد الأحسن من الصلاة وإن كانت ما صلاها غير أحسن، وبالحقيقة يستدعي الصبر أن لا يناقش في العمل ولا يحاسب ما هو عليه من الخصوصيات المقتضية لخسته ورداءته كما يفيده قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]»[1]. وربما كان مراده معنى آخر، وذلك بأن الصبر يعطي الصابر ميزةً في الأجر على غيره، حتى لو كان العمل لا يستحق ذلك في ذاته. وعلى هذا الأساس، فإن تعليقنا عليه، هو أن الظاهر هو التأكيد على أن الصبر يمنح العمل خصوصية جديدة يستحق بها الإنسان الأجر الزائد لما في الصبر من قيمة للعمل؛ والله العالم.

ــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج :12، ص:340.