من الآية 97 الى الآية 105
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ* فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ* وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ* قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ* وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ* إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (97ـ105).
* * *
قيمة الذكر والأنثى بالعمل الصالح
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}. ليس في الإسلام فرق بين الرجل والمرأة لجهة تقييم الأعمال وتقدير النتائج على مستوى الثواب والعقاب، وليس لأيّ منهما خصوصيةٌ في حساب المسؤولية إلا عمله وما يمثله من خلفيّات روحيّة فكرية، وما يتضمنه من جهدٍ وعناء. وبذلك كانت إنسانية المرأة في امتدادها الروحي والعملي، أمام الله، مساوية لإنسانية الرجل، فهما سواء في عبوديتهما لله، وفي مسؤوليتهما أمامه. ولكل منهما بعد ذلك خصوصية دور تمليه خصائصه التكوينية وما فيها من إمكانيات العطاء للحياة.
وللعمل الصالح قيمته الخاصة عند الله، عندما يرتكز على قاعدة العقيدة التي تجعل منه شيئاً ثابتاً في النفس، وحركةً فاعلةً في العقل والروح والشعور، لتصبح طبيعته ممتدةً بامتداد الروح الذي أوحى به، والفكر الذي انطلق منه، والآفاق التي عاش فيها، لأن هناك فرقاً بين العمل الذي ينطلق من عادةٍ ذاتيةٍ أو من تقليدٍ اجتماعيٍّ، أو من مزاجٍ شخصيّ، أو من حالةٍ فكريةٍ طارئةٍ لا عمق روحي لها في شخصية الإنسان الفكرية، وبين العمل الذي ينطلق من قاعدةٍ فكريةٍ واسعةٍ شاملةٍ، تتكامل فيها الأعمال، وتتوزّع فيها الأدوار وتغذي بعضها بالمعاني التي يحملها البعض الآخر.
ولهذا أكّدت الآية على ارتباط قيمة العمل الصالح بالإيمان بالله، لأن هذا الارتباط بالله يخرج العمل عن بعده الذاتي الخاص بشخص معين، ويجعل منه تجلياً عملياً لحقيقة ذاك الارتباط، على أساس حاجة الحياة إليه، لا على أساس حاجة العامل إلى نتائجه المادية. حتى أن الإنسان قد يقوم بالعمل الصالح على خلاف رغبته الخاصة، انطلاقاً من محبة الله للعمل، لأن الإيمان يجعله يفضل ما يحبه الله على ما تحبه نفسه. وهذا ما يمنح العمل امتداداً في حياة الإنسان، بحيث لا يخضع لاختلاف حالته المزاجية له، أو لاختلاف الظروف المحيطة بحياته.
إضافة إلى أن الله يريد للحياة أن تتحرك من خلال عبوديتها له وتوحيدها إيّاه، في حركة الطاعة، ما يفرض وجود علاقةٍ عميقةٍ بين الإيمان بالله وماهية العمل، يستحق الإنسان على أساسها الأجر من الله، لأنه إذا كان قد عمل لغير الله أو لحالةٍ مزاجية، فليس له أي حق في الأجر، إذ لا علاقة لله بالعمل، ليستحق مقابله شيئاً عنده.
وفي ضوء ذلك، جاءت الآية لتؤكد على شخصية العامل المؤمن بالله، بالإضافة إلى طبيعة العمل، بحيث تتصل الصفة الذاتية للعقيدة في فكره، بالصفة الموضوعية للعمل الصالح، فليس للكافر على الله شيء، وإن كان عمله جيداً في نفسه. وربما كان للعمل الصالح في نفسه بعض الآثار والنتائج المادية التي قد تكون بمثابة الأجر التكويني الذي يجعله الله للعمل، ليستمر في وجوده الفاعل من موقع الخصائص الذاتية له، إذا لم تكن له دوافع إيمانية وروحية تتصل بالله.
* * *
الحياة الطيبة
أما مسألة الحياة الطيبة، ما هي؟
هل هي في الدنيا، أو في الآخرة؟ وإذا كانت في الدنيا، فكيف نفسر المشاكل والصعوبات المادية والمعنوية التي تجعل من الحياة سجناً للمؤمن في مقابل الرفاهية والنعيم والغنى والقوّة التي يعيشها الكافر لتكون الدنيا جنّة له؟ على ما ورد: «إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر».
ذكر بعضهم أن المقصود بالحياة ليست هي الحياة المادية التي يعيشها الإنسان بموازين الحس والغريزة، بل هي الحياة الروحية المعنوية، ففي الحياة أشياء كثيرة غير المال تطيب بها الحياة في حدود الكفاية، فيها الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة وسكن البيوت ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الحياة.. وليس المال إلا عنصراً واحداً يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله[1].
ويؤكد صاحب الميزان هذا المعنى، بطريقةٍ أخرى فيقول: «الجملة بلفظها دالة على أن الله سبحانه يكرم المؤمن الذي يعمل صالحاً بحياةٍ جديدةٍ غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامة، وليس المراد به تغيير صفة الحياة فيه وتبديل الخبيثة من الطيبة مع بقاء أصل الحياة على ما كانت عليه، ولو كان كذلك لقيل: فلنطيبن حياته. فالآية نظير قوله: {أَو مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] وتفيد ما يفيده من تكوين حياةٍ ابتدائية جديدة»[2]. ويرى أن الله يعطيه من العلم والقدرة ما ليس لغيره، وهما «يمهدان له أن يرى الأشياء على ما هي عليه، فيقسِّمها قسمين: حق باقٍ، وباطل فانٍ، فيعرض بقلبه عن الباطل الفاني الذي هو الحياة الدنيا بزخارفها الغارّة الفتّانة ويعتز بعزة الله، فلا يستذله الشيطان بوساوسه ولا النفس بأهوائها وهوساتها ولا الدنيا بزهرتها لما يشاهد من بطلان أمتعتها وفناء نعمتها.
ويتعلّق قلبه بربه الحق الذي هو يحق كل حق بكلماته، فلا يريد إلا وجهه ولا يحب إلا قربه، ولا يخاف إلا سخطه وبعده، يرى لنفسه حياةً طاهرةً دائمةً مخلّدة لا يدبِّر أمرها إلا ربّه الغفور الودود، ولا يواجهها في طول مسيرها إلا الحسن الجميل، فقد أحسن كل شيءٍ خلقه، ولا قبيح إلا ما قبحه الله من معصيته. فهذا الإنسان يجد في نفسه من البهاء والكمال والقوة والعزة واللذة والسرور ما لا يقدّر بقدر، وكيف لا، وهو مستغرق في حياة دائمةٍ لا زوال لها ونعمةٍ باقيةٍ لا نفاد لها ولا ألم فيها ولا كدورة تكدرها، وخير وسعادة لا شقاء معها»[3].
وهذا تفسير جميل، وتحليل جيد للمعاني الروحية التي يختزنها الإيمان في نفس المؤمن العامل بالصالحات ويثيرها في مشاعره وأجوائه، ولكن المسألة هي التقاء هذا التحليل مع سياق الآية التي وردت لبيان الجزاء الذي يمنحه الله للإنسان الذي يعمل الصالحات وهو مؤمن، ما يوحي بأن هذه الحياة التي يمنحها الله له مفصولةٌ عن الواقع الذي يعيشه الآن، وليست حالةً وجدانيةً أو عملية في دائرته. وقد نلاحظ أن ما ذكره هذان المفسران الجليلان وغيرهما، هو من آثار الإيمان، بينما تعتبر الآية أن الحياة الطيبة جزاء العمل الذي ينطلق من الإنسان المؤمن، والله العالم، ولعل الأقرب، هو أن يكون المراد منها الدار الآخرة، أو الجنة، أو ما أشبه ذلك.
{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وقد تقدم الحديث عما يماثل تفسير هذه الفقرة في الآية السابقة. وقد يخطر بالبال أن المراد بالأحسن ليس ما يقابل الحسن، بل ما يقابل السيىء، وذلك في ما نلاحظه دائماً في مجال الحديث عن الثواب والعقاب، في الحديث عن الحسنة في مقابل السيئة، ما يوحي بأن المراد من الأحسن هو الحسنة، كما قد نلاحظ ذلك في قوله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ ينـزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] فإن المراد به ـ كما يظهر ـ الكلمة الحسنة الطيبة مقابل الكلمة السيئة الخبيثة التي يوحي ويعبث من خلالها الشيطان، لا في مقابل الكلمة الحسنة، والله العالم.
* * *
الاستعاذة بالله
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، لأن قراءة القرآن تفتح قلب الإنسان وعقله وروحه وحياته على الخير كله، والحق كله، ولا بد له من أن يعيش هذا الانفتاح على القرآن ـ قبل أن يقرأه ـ ويتعمّق في وحيه وهو يقرأه، ويستمر في التحرك في نطاق مفاهيمه بعد أن ينتهي من القراءة، ليكون القرآن كتاب الحياة الذي ينبض مع كل نبضةٍ في قلبه، ويحلّق مع كل تحليقةٍ في فكره، وينطلق معه في كل حركة من حياته، وليأخذ منه عقيدته وشريعته وأسلوبه ومنهجه في الحياة، وكل تطلعاته تجاه المستقبل، وليكون القرآن كل خُلُقه، في ما يتميز به من خلق الإنسان الذي يحتوي كل سلوكه في علاقاته ومعاملاته. ولهذا كان لا بد للقراءة القرآنية من جوّ روحي منفتح على الله، لينفتح على الحياة كلها من خلال الله. وهنا قد يتدخل الشيطان، فيلهيه عن ذكر الله، ويجمد إحساسه وشعوره عن وعي الحقيقة القرآنية ويصرفه عن الانطلاق مع مفاهيمه في أجواء حياته، ليدفعه إلى أجواء أخرى من اللهو والضلال والضياع، فيلعب به كما يريد، ويلهو بعقله وبفكره كما يشاء.. ولذلك فلا بد من الاستعاذة بالله منه، فيتذكر الله عندما يتذكر الشيطان، فيستعين به، ويستمد منه القوّة في عقله وشعوره وإرادته، ليواجه كل خطوات الشيطان وأحابيله وخدعه وغروره وفتنته، فيتخلص من سيطرته على كل نزوات اللحم والدم، وكل شهوات المطامع.
وهذا ما نستوحيه من الاستعاذة بالله، فهي ليست مجرد موقف يتطلع فيه الإنسان إلى الله ـ سبحانه ـ ليحل له مشكلته، بشكلٍ مباشرٍ، دون أن يقوم بأيّ جهدٍ إرادي في هذا الاتجاه، بل هي موقفٌ يستجير فيه المؤمن بربه، ليعيش ثقته بالله من خلال إحساسه برحمته، ويستعيد عقيدته بقوة الله، التي تمد كل الحياة بالقوة، فينطلق في كل عملية مواجهة من هذا الموقع القوي، ويعمل، بكل طاقاته، في خط المواجهة لكل تحرك مضادٍّ له في إيمانه، ثم ينتظر أن تنهمر فيوضات الله وألطافه على روحه برداً وبركةً وسلاماً، وبذلك ينتصر من مواقع الإرادة والإيمان والممارسة، فيخرج من سلطان الشيطان ليبقى في سلطان الله.
* * *
لا سلطان للشيطان على الذين آمنوا
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، بما يمثله الإيمان من اتصال بالله، وانفتاحٍ عليه، في عالم الغيب والشهادة، وثقةٍ به، ووعيٍ لكل سننه في الحياة، وفهمٍ لحكمته، وانتظار لرحمته، وبما يمثله التوكل عليه من أمل كبير في المستقبل الذي تحكمه إرادته، في ما يدبر أمره، مما لا يستطيع المخلوق تدبيره، لأن الله قد كلف عبده بما يستطيع، وتكفل بتدبير القسم الآخر، وبهذا كان التوكل متصلاً بخط المستقبل في حركة الغيب، بعد انطلاق حركة الإنسان الإرادية الواقعية من الحاضر ومقدمات المستقبل، سواءٌ في مشاريع الحياة، أو في مشاريع الإيمان، أو في مشاريع العمل المتحرك في أجواء الإيمان، فهو يتحرك بسلطان الله بشكل غير مباشر في نطاق حركته الذاتية كإنسان، وهو يخضع لكل سلطانه بشكل مباشر في ما يملك الله أمره، ولا يملكه هو. ولا سلطان ـ في وعيه ـ لأي سلطان غير سلطان الله.
{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} ويخضعون له، وينسون الله ويذكرونه، ويبتعدون عن ربهم ويقتربون منه، ويستسلمون لحبائله وخدعه، ويهربون من حقيقة الإيمان بالله، وبهذا تكون كل حياتهم ساحةً للشيطان، يجول فيها ويصول، لأنهم يفتحون كل قلوبهم له، ويحركون كل عقولهم معه، ولا يؤمنون إلا به وبما يثيره من قيمٍ زائفة وأخلاق فاسدة ومناهج منحرفةٍ.. هؤلاء المهزومون الخائفون الذي يتولون الشيطان {وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} لأن عيونهم وقلوبهم وعقولهم، بل وكل حياتهم في غشاوة.
من هنا، فإن قصة الشيطان مع الإنسان ليست قصة السيطرة المطلقة التي لا يملك معها إرادة الفكاك منها، ولكنها قصة الإنسان الذي يسلم كل أمره للشيطان، ويتنازل عن إرادته فلا يحركها في خدمة إيمانه، وينسى إيمانه فلا يستعيده في حركة حياته، فيستولي عليه الشيطان، كما يستولي العدو على أية قلعةٍ غير محصّنة تسقط في يديه مع أوّل بادرة هجوم، دون أن يلقى أيّة مقاومةٍ تذكر.
* * *
حكمة تبديل الآيات
{وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}. لم تكن أحكام التشريع الإسلامي تنزل على الناس دفعة واحدة، في وقت واحد، بل كانت تنزل بطريقة التدرّج، بغرض خلق الانسجام بين الحكم الشرعي النازل ونمو الناس الفكري والروحي على هدى الإسلام، وكان ذاك التدرج يستعمل في بعض الحالات أسلوب التغيير والتبديل في الأحكام، تبعاً لبعض المصالح التي يقتضي تحقيقها مراعاة الزمان والمكان، بحيث تطلق مقيدة بتلك الحدود وتتغير بتغير المصالح التي اقتضتها، إلى أن يلد حكم جديد ثابت لمصلحة دائمة، وقد يتمثل ذلك بالآية التي يمكن أن ينسخ مضمونها آية قرآنية أخرى كما يرى البعض من نسخ الأحكام في القرآن، أو بالحديث النبوي، على أساس النظرية التي تنكر النسخ في القرآن، وتقرّه في السنة. وكان الكفار من قريش، يلاحقون ما يعتبرونه نقاط ضعف في حركة الدعوة على مستوى التنزيل والتشريع، ليواجهوا النبي بها ويسقطوا موقعه النبوي في أذهان الناس، لذا فقد رأوا في التبديل في مضمون الآيات أو الأحكام، شاهداً على الافتراء على الله، لأنه لا يمكن أن يبدّل الله كلامه، أو يغير أحكامه، وذلك لأنهم لا يفهمون معنى التوقيت في المصلحة التي تكون أساساً للحكم، ما يفرض التبدل الطبيعي عند انتهاء الوقت الذي اقتضاه، والتبدل في هذا الإطار مسألة طبيعية بالنسبة للحكم الشرعي كما هو بالنسبة لأي موضوع آخر، حيث لا يكون التبدل دليلاً على التنافي والتناقض فيه، ليكون بالتالي دليلاً على الافتراء ـ كما يزعمون ـ وهذا ما أثارته الآية في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} فهو الذي يعلم المصالح الكامنة في الأشياء، ويعرف حدودها، مما لا يعلم البشر الكثير منه، أو لا يعلم الأكثر منهم وجه المصلحة فيه.
ويتابع القرآن الإيحاء بالإرادة الإلهية، في ما ينزله على أساس حكمته التي لا تنحرف ولا تهتز {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ}، فقد اقتضت حكمته أن تنزل آيات القرآن على سبيل التدريج، كما توحي كلمة التنـزل التي تتضمن معنى التدرج مقابل كلمة الإنزال التي تنسجم مع الدفعة، وذلك بواسطة روح القدس كما ورد في هذه الآية أو الروح الأمين كما ورد في آية أخرى. وربما كان المراد به جبرئيل الذي صرحت باسمه الآية الكريمة في قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة:97] {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ} لما يريده لحركتهم في الدعوة والعمل، والجهاد، من خضوع للقرآن في آياته التي توجّه خطوةً هنا وخطوة هناك، وتخطط المسير في هذا الاتجاه، ثم تبدله في اتجاهٍ آخر، تبعاً لمقتضيات الواقع العملي، الأمر الذي يخلق التفاعل بين حياة الناس والقرآن، بحيث يعايشون، بشكل واقعي لا تجريدي، القرآن في مفاهيمه وأحكامه. من هنا نستطيع أن نقرر الحقيقة القرآنية في الأسلوب الواقعي، وهي أن آياته كانت تحرك مسيرة الدعوة وترعى حركة التغيير، وتوجّه خطوات الجهاد، ما يجعل القرآن تجسيداً للرسالة في الفكر والواقع.
{وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} في ما هيأه لمن أسلموا الفكر والروح والحياة لله من سبل الهداية بآياته إلى سواء السبيل، وفي ما يبشرهم به من رحمةٍ ورضوانٍ وجناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها في رحاب الله.
* * *
صدق الكتاب مع كونه نازلاً على بشر
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} فقد كان مصدر هذا الكتاب المعجز الذي تحدّاهم به، في أسلوبه وفي مضمونه يحيرهم؛ كيف جاء به محمد، وهو من عاش معهم ولم يتعلم القراءة والكتابة، ولم يأخذ بقسط وافر من الثقافة تمكنه من هذا الإبداع ذاتياً، كما أنهم لا يريدون الاعتراف له بالنبوّة التي تلتقي بالوحي كتفسير لكل هذه الآيات التي أعجزت البشر، لذا أبعدوا عن أذهانهم احتمال أن يأتي بها بشر، لأنهم لم يتعقلوا ولم يريدوا تعقّل الفكرة التي تجمع بين البشرية والنبوّة، وهكذا بحثوا عمن ينسبون إليه القرآن ليكون معلّماً لمحمدٍ، ومبدعاً لهذه الآيات، واعتبروه شخصاً غير عربي، لأن غالبية العرب كانوا من الأميين. وتلقف هذه الفكرة الكثير من الناس الذين وجدوا فيها وسيلة للتشكيك بنبوة محمد، وجواباً على جمعه بين الأمية وإبداع القرآن. من هنا أخذ المبشرون والمستشرقون والمتغربون من المثقفين، يربطون بين ثقافة النبي وبين رعاية آخرين له في عصره وفي بلده ثقافياً. ولكنهم لم يلتفتوا إلى أنهم لم يكتشفوا جديداً في إثارة ذاك الإشكال، ذلك أن القرآن نفسه نقل عن معارضي الرسالة من قريش، طرحهم للإشكال نفسه وخلّده في آياته، ليفكر كل جيل ممن يقرأ القرآن في طبيعة التهمة، وفي طبيعة ردها، كي يقتنعوا على أساس الحجة التي يقدمها في هذا الشأن، ضمن النهج القرآني في تربية العقيدة من خلال الفكر القائم على دراسة المشاكل المثارة حولها.
هذا بالإضافة إلى ما يوحيه من الثقة بالحق في نبوّة النبي محمد(ص) بالمستوى الذي لا يخشى فيه ذكر ما قيل في حقه، تعليقاً على نبوّته، لأنه لا يرى فيها سبباً معقولاً للشكّ، ليعيش الناس في المرحلة البعيدة عن زمن الدعوة الثقة التي عاشها معاصرو الدعوة، من خلال سماعهم ما كان أولئك قد سمعوه في رد قرآني على أولئك المشككين {لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} وينسبون إليه القرآن {أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} فكيف يمكن أن يكون هذا القرآن صنعة رجل أعجمي لا يحسن من العربية شيئاً، وكيف يمكن لشخص أعجمي أن يأتي بهذا الإبداع الذي أعجز بلغاء العربية فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله؟!
{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لأن اختيارهم للكفر، وابتعادهم عن خط الإيمان، لم يكن ناشئاً عن حالة جهل لا مجال معها لتحصيل المعرفة، بل كان ناشئاً من حالة عنادٍ وتمرّدٍ، بعد قيام الحجة عليهم، أو بعد توفر ما يمكن إقامة الحجة به، بحيث لو درسوه لاهتدوا إلى العقيدة الحقّة. ولذا، فإن الله يتركهم لأنفسهم، دون أن يتدخل لهدايتهم بشكل مباشر تكويناً، لأن حكمته اقتضت أن يكون الهدى والضلال تابعيْن للاختيار الإنساني. وسيعذبهم الله ـ سبحانه ـ على تمردهم وعنادهم، لأنهم يستحقون ذلك بعد قيام الحجة عليهم.
{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} لأنهم لا يستندون إلى قاعدةٍ إيمانيةٍ تمنعهم عن الكذب الذي يمثل الارتباط بالباطل، مقابل ما يعنيه الإيمان من ارتباط بالحق، ولهذا ورد في بعض الكلمات المأثورة عن النبي(ص) أن عبد الله بن جراد سأل النبي(ص): هل يزني المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا. ثم أتبعها النبي(ص) : {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}.
{وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} لأنهم يكذبون في إنكارهم للوحي القرآني، وللنبوّة، ولليوم الآخر، وغير ذلك من شؤون العقيدة الصحيحة.
ـــــــــــــــــــ
(1) قطب، سيّد، في ظلال القرآن، ج:4، ص:193.
(2) تفسير الميزان، ج:12، ص:341، 342.
(3) م. س.، ج:12، ص:342.
(4) تفسير الميزان، ج:12، ص:352.
تفسير القرآن