من الآية 106 الى الآية 111
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخرةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ* أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ* لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرةِ هُمُ الْخَاسِرونَ* ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ* يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (106ـ111).
* * *
معاني المفردات
{شَرَحَ}: بَسَط، وشرح للكفر صدره: أي بسط صدره للكفر فقبله قبول رضى.
{اسْتَحَبُّواْ}: آثروا وقدموا.
{لاَ جَرَمَ}: لا شك.
{فُتِنُواْ}: ابتلوا، الفتنة في الأصل إدخال الذهب النار ليظهر جودته ثم استعمل في مطلق البلاء والتعذيب.
{تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}: تدافع عن نفسها.
{وَتُوَفَّى}: التوفية: إعطاء الحق تماماً من غير تنقيص.
* * *
أسباب النزول
جاء في أسباب النزول في ما رواه الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سبّ النبي(ص) وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله(ص) قال: ما وراءك شيء؟ قال: شر، ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان. قال: إن عادوا فعد، فنزلت: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[1].
* * *
الإيمان بالله حقيقة يجحدها جاهل أو معاند
في أكثر من آيةٍ من آيات القرآن تأكيد على أن الإيمان بالله يمثل الحقيقة التي لا ريب فيها، وأن الذين يبتعدون عنها هم أحد فريقين، الجاهلون الذين لم ينفتحوا على الحق من موقع المعرفة الواعية، والمعاندون الذين عرفوا الحق ثم أنكروه، ولهذا اعتبر الارتداد خيانةً وجريمةً لا مبرّر لها، لأنها تصنف مرتكبيها في فريق المعاندين، ذلك أن من آمنوا لا بد من أن يكونوا قد اكتشفوا جانب الحقيقة في الإيمان، فلا مبرر لتراجعهم عنه بعد وضوحه، ولهذا استحقوا العذاب.
* * *
الإكراه على الكفر والقلب المطمئن
{مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ} فانحرف عن مواقع الحق إلى مواقع الباطل {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} فكان اعترافه بالكفر نتيجة ضغطٍ وإكراهٍ لم يملك معه أن يتماسك، لأنه وقف بين خيارين، فإما أن ينطق بكلمة الكفر، فيتخلص من أشد الآلام، وأقسى العذاب، وإما أن يرفض فيموت تحت تأثير التعذيب، فكان النطق بكلمة الكفر التي يريدها الكفار الطغاة، مظهراً لحالة ضعفٍ إنسانيّ يعيشها المؤمن، والله لا يؤاخذه على الخضوع، لأنها مجرد كلمةٍ يقولها ثم ينصرف بعدها إلى مواقع إيمانه ليعمل ويجاهد ويواجه هؤلاء الكفرة الطغاة من موقع قوّة جديد، تمكنه من محاصرة الكفر واحتواء الساحة، لذا كان الإسلام واقعياً في مسألة مسؤولية الإنسان المؤمن في الإصرار على موقفه الإيماني، ففرض عليه الالتزام بالموقف في الحالات التي يمثل فيها الضعف إسقاطاً للموقف كله، ورخّص له التراجع عنه بطريقةٍ ظاهرية إنقاذاً للموقف من الانهيار في بعض مراحله، وحفظاً للساحة عندما لا تستطيع مواصلة الجهاد والحركة تحت تأثير الضغوط القاسية التي تتعرض لها بفعل القوّة الطاغية التي يملكها أعداء الله.
وقد لا يكون الموقف موقف إكراه يعيشه المؤمن، بل موقف ضغطٍ تعيشه الساحة كلها، فتقضي المصلحة الإسلامية انتماء بعض المسلمين إلى خطٍ من خطوط الكفر، للحصول على أسرار ذلك الخط، أو لتخفيف بعض أضراره، أو لتفجيره من الداخل، أو لغير ذلك. وفي هذه الحالة يجوز للمؤمنين الذين يتحملون مسؤولية العمل للإسلام، أو الذين يفرض عليهم وليّ الأمر القيام بمثل هذه المهمات والأدوار، إعلان الانتماء إلى الكافرين، لأن المصلحة الإسلامية تجمّد الحكم الشرعي في حرمة هذا العمل ذاتياً، وترخص في ممارسته، كأيّ موقعٍ من المواقع الذي تتزاحم فيه المصالح الكامنة وراء التشريع، فيقف الحكم الشرعي في دائرة المصلحة الأهمّ والأقوى، وهذا ما يمثله تشريع التقية التي لا تجوز إلا في موارد حفظ النفس من الهلاك، حيث لا مصلحة ملزمة في مواجهة الموت ولا مفسدة كبيرة على الدين من ذلك.
وقد نلاحظ، في هذا المجال، أن الكافرين الذين يضغطون على المؤمنين ليحصلوا منهم على اعترافٍ بالكفر، أو الطغاة الذين يعذبون المستضعفين ليحصلوا منهم على اعتراف ببعض الأمور، لا ينطلقون من موقع قوّةٍ في طلبهم ذاك، بل من موقع ضعف شديد يشعرون به، الأمر الذي يجعلهم يلهثون وراء كلمة اعتراف بهم، توحي لهم بانهزام الخصم وترضي كبرياءهم، حتى وهم يوقنون بعدم كونه اعترافاً حقيقياً، فلا يكون الكفر في هذه الحال سوى كفر كلامي يخفي تحدياً إيمانياً يخطط من خلاله المؤمن للانقضاض عليهم، مستفيداً من غطاء الكفر الشكلي الذي اعترف به، لأن الضغط يصنع الحركة المضادة والعذاب يستثير مشاعر الثورة على كل الواقع الذي يصنع مأساة الإنسان الفكرية والعملية، وإن كل وسائل التعذيب لا تستطيع تحويل قناعات الناس إلى قناعات مضادة، لأن مواقع القناعة هي مواقع الفكر التي لا تستطيع وسائل الضغط تحويلها. ولهذا فإن الله قد استثنى المؤمنين الذين أُكرهوا على كلمة الكفر من فئة المرتدين، فلم يعتبر ذلك ارتداداً عن الإيمان، لأن قضية الارتداد هي قضية الكفر الذي يتسع له القلب، ويتحرك فيه الموقف.
* * *
من يشرح صدره للكفر
{وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} في التزامه بالكفر كانتماء، وكموقع ودعوةٍ في حركة الحياة {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لأنهم لم يرتدوا من موقع شبهةٍ بل من موقع عناد.
{ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخرةِ} فاستسلموا لإغراءات الكفر وامتيازاته وشهواته لما اعتبروا في ذلك من مظهر للسعادة الذاتية، ولم يفكروا بالآخرة، كوجهٍ من وجوه النشاط الإنساني الخيّر في الدنيا، وكمصيرٍ في ساحة النتائج العملية في الآخرة، لأن قيمة الآخرة أنها تعطي الدنيا معناها، فتحول أعمال الدنيا إلى أعمال للآخرة، كما تتدخل في تحديد المصير السعيد أو الشقي في الدار الآخرة. وبذلك كانت الحياة الآخرة هي الهدف الذي يريد الله للناس أن يسعوا إليه في حياتهم الدنيا، لما تمثله في خط السير من قيمٍ ومبادىء وأعمال، ولا يريدهم أن يستغرقوا في الدنيا، بما تمثله من لحظاتٍ فانيةٍ وشهوات زائلة ونتائج واهية. {وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} بل يتركهم لضلالهم الذي اختاروه لأنفسهم بعد أن أقام عليهم الحجة، حيث لا مجال لأيّ عذر، من قريب أو من بعيد {أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} فإن اختيار الإنسان لأيّ موقف تجاه مسألة معينة يغلق قلبه وسمعه وبصره عن رؤية الجانب الآخر من المسألة، حتى بمستوى الاحتمال الوجداني، فيتعصب الإنسان لموقفه، فلا يسمح لأيّ شيء آخر أن يقترب من قناعاته، وبذلك يكون هو من أغلق قلبه وسمعه وبصره، بالتزامه السبب الذي أدّى إلى ذلك.. أمّا نسبته إلى الله، فلأن الله هو الذي جعل السببيّة بين المقدمات والنتائج، وإن كانت المقدمات بيد الإنسان، {وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} الذين استغرقتهم أجواء الكفر، فغفلوا عن أجواء الإيمان وعن النتائج السلبية التي تحكم موقفهم في الحاضر والمستقبل.
{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرةِ هُمُ الْخَاسِرونَ} لأنهم لم يأخذوا بأسباب الربح في الدنيا، وأخذوا بأسباب الخسارة، فواجهوا نتائجها الخاسرة من مواقع الغفلة المطبقة على الحواس والعقول.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} وهم المؤمنون الذين كانوا يتعرضون للبلاء والتعذيب من قبل المشركين الذين أرادوا بذلك أن يفتنوهم عن دينهم، وينحرفوا بهم عن الخط المستقيم، ولكنهم قاوموا كل وسائل الضغط والتعذيب، ورفضوا التنازل عن مواقفهم، ولما اشتد عليهم الضغط وخافوا أن يضعفوا، هاجروا إلى مواقع أخرى، ليحصلوا على القوة فيها ويعودوا إلى مواقعهم الأولى من خلال الجهاد {ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ} لما يفرضه الجهاد على المجاهدين من الصبر الذي يتحدى كل الآلام والخسائر والمشاعر الحميمة التي تثقلها الهجرة، ويثقلها العذاب {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر ذنوبهم التي كانوا قد ارتكبوها في ساحة التجربة ويفيض عليهم من رحمته التي تنهمر عليهم باللطف والرضوان والنعيم في الدنيا والآخرة.
* * *
مجادلة كل نفس عن نفسها يوم القيامة
{يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}، وهذا هو خط المسؤولية الفردية التي يواجهها الإنسان أمام الله يوم القيامة، فهو الذي يتحمل مسؤولية نتائج عمله سلباً أو إيجاباً، ولا يتحملها أحد غيره، مهما كان قريباً إليه، وهو الذي يدافع عن موقفه، ولا يملك أحد الدفاع عنه، فعليه أن يسمع السؤال بوعي ويجيب عنه بدقّةٍ في خلفيات العمل ودوافعه، وظروفه وأوضاعه، ونتائجه وغاياته، ثم تكون الكلمة الفصل لله، فلا يملك أحدٌ له شيئاً، حتى على مستوى الشفاعة، لأنها ـ لو حصلت ـ لا تتم إلا بإذن الله، {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} من خير أو شرٍ {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} فالله لا يحتاج إلى ظلم أحد من عباده، لأنه القوي الغنيّ عن ظلمهم وعنهم جميعاً في كل شيءٍ.
ـــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:12، ص:358.
تفسير القرآن