من الآية 112 الى الآية 119
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ* وَلَقَدْ جَآءهمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ* فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَة اللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ* إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلالٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَـهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ* ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (112ـ119).
* * *
معاني المفردات
{رِزْقُهَا رَغَداً}: الرزق الواسع.
{بِأَنْعُمِ}: الأنعم: جمع نعمة.
* * *
ضرب الأمثال للعبرة
يهدف المثل القرآني أحياناً إلى إيصال الإنسان إلى ساحة الخير من خلال إثارة تهاويل الشرّ في خياله، وإلى ساحة الأمن من خلال حشد صور الخوف في ذهنه، لتتحول تلك التهاويل والصور إلى مشاعر وأحاسيس مسحورة بمعاني الخير والأمن والطمأنينة، لتحوّل المعاني الحلوة إلى واقعٍ حلوٍ جميل يمتد من الصورة الحلوة الجميلة، فيستمر في تحريكها مع الواقع الحي في كل زمان ومكان، وهو ما نجده في هذه الآيات.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ}، فهي تعيش الأمن بدون خوفٍ، والطمأنينة بدون قلقٍ، والاكتفاء الذاتي في المأكل والملبس والمشرب دون جهدٍ أو عناء، {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} ولكنها لم تشكر الله على ذلك كله، بما يفرضه هذا الجو الآمن المطمئن الغنيّ من انضباط في العلاقات والأعمال والأقوال وابتعاد عن الاعتداء والإساءة إلى حياة وحرية أي إنسان، وعدم إثارة القلق والاهتزاز الروحي والمادي والمعنوي في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بوضع الخطط الشريرة التي تقود إلى أكل أموال الناس بالباطل، والاتجاه بالمال إلى غير ما يريده الله، بإفساد الحياة من خلاله، ففي خطوات كهذه كفر عملي بالله ونعمه، وهو ما حصل لهذه القرية التي كفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف، فأجاعها بعد شبع، وأخافها بعد أمن، ولكن لا كعقوبة على العمل، بل كنتيجة طبيعية لخصائص ذاك العمل في طبيعته، تماماً، كما هي النتيجة المتصلة بمقدمتها، والسبب بمسببه، وذلك قوله تعالى: {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} فهم يجوعون لأن أعمالهم السيئة تؤدي إلى الفقر الذي ينتج الجوع، وهم يخافون لأن المشاكل والمعارك التي يثيرونها تطرد الأمن.
وما يريد الله أن يثيره هنا هو علاقة العمل بنتائجه السلبية أو الإيجابية في الدنيا والآخرة، ليتمثّل الإنسان معنوياً صورة عمله السيىء في الآخرة مقابل ما تَمثَّله فيه من صورة إيجابية مادية في الدنيا، ذلك أن النتائج السلبية للعمل السيىء، تقلب الصورة التي كان عليها العمل في الدنيا رأساً على عقب. وهذا ما ينتظر الذين يواجهون الرسول بالتكذيب {وَلَقَدْ جَآءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} الدنيوي أو الأخروي {وَهُمْ ظَالِمُونَ} أنفسهم لما اختاروه لها من مصير مظلم بسبب أعمالهم المظلمة {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} ومن الحلال الطيب يلتقي الإحساس باللذة المادية، التي يشتمل عليها خصائص المطعم والمشرب، بالإحساس باللذة المعنوية، الذي يصنعه الشعور برضوان الله من خلال ما رزقه الله، حيث يتحول الاكتفاء بالحلال إلى طاعة وعبادة باعتباره وسيلةً من وسائل الامتناع عن الحرام.. {وَاشْكُرُواْ نِعْمَة اللَّهِ}، في ما رزقكم إياه، بالوعي الروحي الذي يرى الله في كل نعمة ويُحس بمسؤوليته عنها في كل ما يتصل بها من شؤون الحياة، وفي ما جعله الله لها من دور في واقع الإنسان ومصيره {إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فإن للعبادة أنواعاً كثيرة، منها أن يذكر الله في نعمه، فيشكره بلسانه، وبإحساسه الوجداني بارتباطها به، وبممارسته العملية في تحقيق الغاية الكبيرة منها في حياة الناس.. وبهذا يلتقي الشكر بالالتزام الروحي والفكري بعبادة الله، كما يعني الكفر بالله، الكفر بنعمه بالقول والفعل.
* * *
اللحوم المحرمة وحالات الضرورة
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فعليكم أن لا تأكلوا من ذلك كله، لأن الله لم يحرمه إلا لاستخباثه الذي يخرجه عن الطيب الذي أحله الله لعباده، سواء كان ذلك لجهة العناصر المادية المضرّة فيه، أو لجهة العناصر الروحية السلبيّة، وقد تحدثنا عن مضمون هذه الآية في ما قدمناه من تفسير الآية المماثلة في سورة البقرة/ الآية 173، وفي سورة المائدة/ الآية 3، وفي سورة الأنعام/ الآية 145. فليراجع التفسير في مكانه.
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ومن رحمته أنه لم يحرم على المضطر شيئاً اضطر إليه رأفةً به ورحمةً بحياته، بشرط أن لا يكون باغياً ولا عادياً، في مواقع اضطراره.
وهناك ملاحظة ذكرها صاحب الميزان «رحمه الله» حول سرّ التأكيد على هذه المحرمات الأربع حتى كررها في أكثر من سورة مما نزل في مكة ومما نزل في المدينة، فقد نستطيع القول بأن هذه هي المحرمات التي حرمها الله في كتابه، ولم يحرم غيرها... أما بقية الأمور، فقد أوكل الله أمر تحريمها إلى النبي(ص) الذي حرّم أشياء كثيرة موجودة في السنة الشريفة، ثم دعا الأمة إلى أن تأخذ بها في قوله تعالى: {وَمَآ آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} [الحشر:7][1]. وهي ملاحظة جيدة تستحق الدراسة والاهتمام.
* * *
الكذب على الله في التحليل والتحريم
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلالٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} ذكر جمهور المفسرين أن المراد به، النهي عما كان المشركون يحلّونه كالميتة والدم وما أهل لغير الله به، أو يحرّمونه كالبحيرة والسائبة وغيرهما، ولكن صاحب الميزان يقول: إن السياق لا يؤيد هذا الوجه، لأن الخطاب فيها إما للمؤمنين ـ على ما يؤيده سياقها ـ وإما لعامة الناس، فيكون المراد منها ـ على هذا الأساس ـ «النهي عن الابتداع بإدخال حلالٍ أو حرامٍ في الأحكام الجارية في المجتمع المعمولة بينهم من دون أن ينزل به الوحي، فإن ذلك من إدخال ما ليس من الدين في الدين، وافتراء على الله وإن لم ينسبه واضعه إليه تعالى»[2].
ويحتمل أن لا يكون مقصود الجمهور الاختصاص بهذه الأمور، بل المراد النهي عن البدعة في التحليل والتحريم مطلقاً، ولكن الآية انطلقت من هذا المورد الخاص باعتباره المورد الذي كان الانحراف يتحرك فيه، والله العالم.
{إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فينسبون إليه ما لم يقله، ويشرّعون ما لم يشرّعه {لاَ يُفْلِحُونَ} لأن ما يصيبهم من العذاب في الآخرة أكثر مما حصلوا عليه من اللذة والمنفعة في الدنيا {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} وربما كان المقصود به ما قصه الله على نبيه في سورة الأنعام ـ وقد نزلت قبل سورة النحل بلا إشكال ـ بقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146]. ولكنهم حرموا على أنفسهم وعلى الناس أشياء أخرى لم يحرمها الله، فضيقوا على أنفسهم وعلى الناس، وظلموا بذلك أنفسهم ولم يظلمهم الله {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ككل الناس الذين ساروا في حياتهم دون وعيٍ للنتائج السيّئة والعواقب الوخيمة لظلمهم.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} فلم يتحركوا من حالة تمرُّد وكفرٍ وعناد، بل تحركوا من حالة جهالة لا تدرك حقائق الأشياء ولا تعرف نتائجها، أو تغفل عنه ـ بعد معرفة ـ فتندفع إلى العمل بدون حساب.. فانتبهوا بعد ذلك، وقرروا التراجع عما هم فيه {ثُمَّ تَابُواْ} وندموا على ما فعلوا {مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ} فغيروا مسيرتهم، وعاشوا، من جديد، في الخط الصحيح على هدى الله في أعمال الخير، فقبلهم الله قبولاً حسناً {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي من بعد التوبة {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}، فهو الذي يغفر الذنوب للتائبين، ويرحمهم برحمته، ويدخلهم في جنته.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر تفسير الميزان، ج:12، ص:365.
(2) م.س، ج:12، ص:365 ـ 366.
تفسير القرآن