تفسير القرآن
الإسراء / المقدمة

 المقدمة

سورة الإسراء

مكية وآياتها مائة وإحدى عشرة

سبب التسمية

لقد جاء اسم هذه السورة عنواناً للحدث الضخم المعجز الذي جرى للنبي(ص)، في ما قصّه الله علينا في أول آية من السورة، عندما أسرى به الله {لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}، ثم من المسجد الأقصى إلى السّموات العلى، في ما ذكرته السيرة في حديث المعراج، أو ما استفاده المفسرون من سورة النجم.

* * *

سورة بني إسرائيل

وقد أطلق على هذه السورة اسم (بني إسرائيل) لأنها تحدثت عن جانب مهمٍّ من سلوكهم المنحرف، الذي كان سبباً لغضب الله عليهم وعقوبته لهم في الدنيا والآخرة، مما يراد إثارته في ذهن الناس الذين قد يواجهون مثل هذا الواقع.

* * *

الإسراء بين الإجمال والتفصيل

وقد أجملت الآية الأولى من هذه السورة مسألة «الإسراء» ولم تفصل شيئاً من حوادثه، لكن الروايات المتواترة أفاضت في الحديث عن ذلك. وربما طغى جو الخيال على الكثير مما ذكر في خصوصياتها، وذلك ما نلاحظه في بعض القضايا التي قد لا يستطيع الباحث تفسيرها بطريقة معقولة، لاسيما في ما أفاض فيه المحدثون عن قصة المعراج ليلة الإسراء، رغم أن الحدث امتد إلى وقت قصير لا يسمح بتغطية ذلك كله، لأن المسألة إذا كانت تحمل الإعجاز في طبيعتها، فإنها تبقى في دائرة القدرة المحدودة للنبي في خصوصيات بشريته التي تخضع لعامل الزمان والمكان، لا سيّما وأن الإسراء كان بالجسد كما هو معروف بينهم.

وربما يمكننا مناقشة بعض هذه التفاصيل في مسألة تشريع الصلاة وغيرها، مما نرجو أن يوفقنا الله للحديث عنه في الكلام عن المعراج وتفاصيله في سورة النجم.

وقد تكون الرواية التي رواها الصدوق في أماليه، عن الإمام جعفر الصادق(ع)، هي أكثر الروايات اختصاراً وأقربها إلى الاعتبار، فقد جاء في أمالي الصدوق، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد الله جعفر الصادق(ع) قال: لما أسري برسول الله(ص) إلى بيت المقدس، حمله جبرائيل على البراق، فأتيا بيت المقدس، وعرض عليه محاريب الأنبياء، وصلى بها ورده، فمرّ رسول الله(ص) في رجوعه بعير لقريش، وإذا لهم ماء في آنية، وقد أضلّوا بعيراً لهم وكانوا يطلبونه، فشرب رسول الله(ص) من ذلك الماء وأهرق باقيه.

فلما أصبح رسول الله(ص)، قال لقريش: إن الله ـ جل جلاله ـ قد أسرى بي إلى بيت المقدس، وأراني آثار الأنبياء ومنازلهم، وإني مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا وقد أضلّوا بعيراً لهم، فشربت من مائهم وأهرقت باقي ذلك. فقال أبو جهل: قد أمكنتكم الفرصة منه، فاسألوه كم الأساطين فيها والقناديل؟ فقالوا: يا محمد، إن ها هنا من قد دخل بيت المقدس، فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه؟ فجاء جبرائيل، فعلّق صورة بيت المقدس تجاه وجهه، فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه، فلما أخبرهم قالوا: حتى يجيء العير ونسألهم عما قلت. فقال لهم رسول الله(ص): تصديق ذلك أن العير يطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق.

فلما كان من الغد، أقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون: هذه الشمس تطلع الساعة. فبينما هم كذلك، إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص، يقدمها جمل أورق، فسألوهم عما قال رسول الله (ص) فقالوا: لقد كان هذا، ضل جمل لنا في موضع كذا وكذا ووضعنا ماءً فأصبحنا وقد أهرق الماء، فلم يزدهم ذلك إلا عتوّاً[1].

الخلاف في كيفية الإسراء

وقد تباينت الآراء حول كيفية إسرائه(ص) فقيل: كان إسراؤه بروحه وجسده من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، ثم منه إلى السموات، وعليه الأكثر. وقيل: كان بروحه وجسده من مكة إلى بيت المقدس، ثم بروحه من بيت المقدس إلى السموات، وعليه جمع. وقيل: كان بروحه وهو رؤيا صادقة أراها الله نبيه، ونسب إلى بعضهم.

إلاّ أننا عندما ندرس الآية المتضمنة للإسراء، نرى أن الإسراء بالجسد هو المعنى الظاهر منها، وذلك لما توحي به كلمة «الإسراء» من معاني الحركة والتنقل من مكان إلى مكان، وإن كان ظرفه هو الليل دون النهار، وما توحي به كلمة «عبده» من التعبير عن الذات بمعناها المادي والجسدي.

ولكن هذا لا يمنع من الخروج عن هذا الظاهر، إذا قام دليل قطعي ينفيه، وجُلَّ ما بين أيدينا وجود بعض الرّوايات الّتي يسهل مناقشتها وإسقاطها، كما في رواية عائشة في ما نقل عنها بعض الرواة، أنها كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله(ص) ولكن الله أسرى بروحه، فقد يكون هذا اجتهاداً منها لا رواية لأنها لم تسند ذلك إلى ما سمعته من رسول الله(ص)، ولم تكن معه في ليلة الإسراء.

وقد يُستوحى من حديث أم هانىء التي كان رسول الله(ص) نائماً عندها في تلك الليلة، كما تقول، إنها لم تفتقده، ولكن لا ظهور للحديث في ذلك.

وبذلك تبقى المسألة على طبيعتها من الناحية القرآنية في مدلولها اللفظي، لا سيّما إذا كانت إمكانات القاعدة العقلية ـ في ذاتها، وفي موقعها من قدرة الله التي لا تقف عند حدٍّ في نطاق قابلية المخلوق لحركة القدرة ـ لا تمنع من ذلك.

وذلك هو الأساس في الإيمان بالغيب، في ما جاء في القرآن والسنَّة، فإن الأشياء الممكنة، لا يحتاج الإيمان بها إلا إلى سندٍ موثوقٍ به يؤكد وقوعها، ولا يفوتنا في هذا المجال نقل بعض الآراء الفلسفية التي تفسر المعراج بالروح.

فقد نقل عن صدر الدين محمد بن إبراهيم، الفيلسوف الشيرازي، في كتابه «مفاتيح الغيب»، في المفتاح الرابع من مراتب الكشف، قال:

«قد تكون المكاشفة على سبيل الملامسة، وهي بالاتصال بين النورين، كما قال ابن عباس: إن رسول الله (ص) قال: رأيت ربي فوضع كفه بين كتفيّ، فوجدت بردها بين ثدييّ، فعلمت ما في السموات. ثم تلا: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]. ويتابع ملاّ صدرا الشيرازي حديثه: رآه (ص) بالتجلِّي والمكاشفة، ومنبع هذه المكاشفات هو القلب الإنساني، أي نفسه الناطقة المنوّرة بالعقل العملي المستعمل بحواسّه الروحانية، وللنفس في ذاتها عينٌ وسمعٌ كما أشير إليه في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصارُ وَلَـكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

وهذه الحواس الروحانية هي أصل هذه الحواس الجسمانية، فإذا ارتفع الحجاب بينها وبين هذه الخارجية، اتحدت بالأصل، فتشاهد ما يشاهده الأصل ـ أي في المكاشفة ـ. بهذا المعنى يرى القلب كما ترى العين، والروح تشاهد جميع ذلك بذاتها، لأن هذه الحقائق تتحد في مرتبتها عند كونها في مقام العقل، لأن العقل يحيط بكل الموجودات، وهذه المكاشفة القلبية أعلى مراتب الكشف ويسمَّى بالشهود الروحي، فهي بمثابة الشمس المنوّرة، بسموات مراتب الروح وأراضي الجسد، فهو بذاته أخذ من الله العليم الحكيم المعاني الحقيقية من غير واسطةٍ على قدر استعداد المكاشف. انتهى[2].

ويرى صاحب تفسير الميزان أن الجائز أن يقال إن العروج كان بروحه، «لكن لا على النحو الذي يراه القائلون به من كون ذلك من قبيل الأحلام، ومن نوع ما يراه النائم من الرؤى، ولو كان كذلك لم يكن لما يدل عليه الآيات بسياقها من إظهار المقدرة والكرامة معنى، ولا لذاك الإنكار الشديد الذي أظهرته قريش عندما قصّ(ص) لهم القصة وجهٌ، ولا لما أخبرهم به من حوادث الطريق مفهوم معقول.

بل ذلك ـ إن كان ـ بعروجه(ص) بروحه الشريفة إلى ما وراء هذا العالم المادي مما يسكنه الملائكة المكرمون، وينتهي إليه الأعمال ويصدر منه الأقدار، ورأى عند ذلك من آيات ربه الكبرى، وتمثلت له حقائق الأشياء ونتائج الأعمال، وشاهد أرواح الأنبياء العظام وفاوضهم، ولقي الملائكة الكرام وسامرهم، ورأى من الآيات الإلهية ما لا يوصف إلا بالأمثال كالعرش والحجب والسرادقات.

والقوم لذهابهم إلى أصالة الوجود المادي، وقصر الوجود غير المادي فيه تعالى، لما وجدوا الكتاب والسنة يصفان أموراً غير محسوسة بتمثيلها في خواص الأجسام المحسوسة، كالملائكة الكرام، والعرش، والكرسي، واللوح، والقلم، والحجب، والسرادقات... حملوا ذلك على كونها أجساماً ماديةً لا يتعلق بها الحس ولا يجري فيها أحكام المادة، وحملوا، أيضاً، ما ورد من التمثيلات في مقام الصالحين، ومعارج القرب، وبواطن صور المعاصي، ونتائج الأعمال، وما يناظر ذلك... إلى نوع من التشبيه والاستعارة، فوقعوا في ورطة السفسطة بتغليط الحس واَثبات الروابط الخرافيّة بين الأعمال ونتائجها وغير ذلك من المحاذير»[3].

هذا ما ذهب إليه العلامة الطباطبائي وصدر المتألهين الشيرازي. ونحن نرى في هذا التفسير لمسألة العروج، لوناً من ألوان التفسير الغيبي الذي يلتقي فيه العروج بالروح في غرابته للمألوف، بالإسراء بالجسد في ذلك؛ ما يجعل من المسألة مسألة تأويلٍ للفكرة، لا مسألة توضيحٍ وجدانيٍّ لها.

وفي ضوء ذلك، قد يكون الأقرب للنهج القرآني وضع المسألة في دائرة الغيبيات التي أثارها القرآن في مواقع العقيدة، كالوحي والنبوّة واليوم الآخر في عمق العقيدة، والمعجزة في حياة الأنبياء، فلا نضطر للجوء إلى التفسيرات البعيدة عن وجدان الإنسان العادي، كما لاحظناه في ما قدمنا من تفسير مسألة الإسراء.

* * *

حجية الخبر الواحد وقضايا الدين

وقد نحتاج أمام هذه الأمور إثارة الفكرة القائلة بأن القضايا الدينية المتصلة بالمفاهيم والأوضاع المختلفة في أجواء الكون وأفعال الأنبياء وغير ذلك مما لا يتعلق بالأحكام الشرعية، لا بد للالتزام بها من اليقين، فلا يكفي فيها الظن الحاصل من روايةٍ خاصةٍ لم تبلغ حد التواتر، وبذلك نستطيع التخلص من كثير من الروايات المتعلقة بالتفاصيل الدقيقة لخصائص الأوضاع، وملكات الأشخاص، وأسرار الواقع، لنرجع الأمر فيها إلى أهلها، أو لنأخذ منها بعض الإيحاءات والأجواء بعيداً عن جانب العقيدة.

وربما كان ضرورياً أن يتوفر الباحثون في مسألة حجية الخبر الواحد، في علم الأصول، على إثارة المسألة بشكل واضح أمام الناس، لأن المشكلة أن الكثيرين قد اعتمدوا على الروايات في الأمور الخارجة عن شؤون التشريع، بالشروط نفسها التي اعتمدوا فيها على التشريع، بل ربما تطور الأمر إلى التوسع في ذلك باعتماد الروايات الضعيفة، ما أدّى إلى إيجاد ركامٍ هائلٍ من الأحاديث المذكورة في الكتب الدينية التي يعتمد عليها الناس في تكوين التصورات والقناعات المتعلقة بالعقيدة والحياة.

* * *

في أجواء السورة

تتناول هذه السورة مسألة التوحيد المرتكز على تنزيه الله تعالى عن الشريك عقيدة وعملاً، وذلك انسجاماً مع المنهج الإلهيّ الخاص بهداية الأنبياء للناس، والمثبتة في الكتب المنزلة عليهم من قبل الله تعالى، كالذي جاءت به التوراة وجاء به الإنجيل والقرآن لهداية الناس {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. وإذا كان بنو إسرائيل قد رفضوا الهداية، فتمرّدوا وأفسدوا فعاقبهم الله في الدنيا والآخرة، فإن الأمم الأخرى ستلاقي ما لاقوه من عذابٍ ومشقّةٍ وعقابٍ، انطلاقاً من وحدة الإنسان في طبيعته، في نقاط ضعفه وقوته، وفي حركة المسؤولية التي تنطلق في خط السلب والإيجاب، وذلك لما توعد به الله تعالى المتمرِّدين من عقابه وما وعد به المطيعين من ثوابه، بعد إقامة الحجة عليهم من خلال ما أوحى به إليهم، ويبقى للإنسان أن يحدد موقفه بين العاجلة والآجلة.

ثم تحدد السورة المبادىء الأخلاقية العامة المتمثلة بالإحسان للوالدين، واجتناب قتل الأبناء خشية الفقر، وتحريك الممارسة الاجتماعية في خط التكافل الاجتماعي للقريب والمسكين وابن السبيل، والتحذير من الزنا وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن الاعتداء على مال اليتيم، ومن التطفيف... ثم تؤكد على العلم كأساسٍ للقناعات الفكرية وللممارسات العملية، وتدعو إلى التواضع والبعد عن الاختيال في الأرض مرحاً وزهواً وغروراً... وخُتمت السورة بالتركيز على التوحيد الذي انطلقت منه هذه المبادىء، كما بدأت به.

وتطرح الآيات هذه المبادىء للالتزام بها كقواعد أخلاقيةٍ سلوكيةٍ، لكن الناس يخالفونها، فمنهم من يفتري، ومنهم من يبتعد عن الاستقامة في خط العقيدة فينحرف عنها... ويبقى الرسول (ص) معهم ليتابع التبليغ، ولينصحهم بقول التي هي أحسن، لئلا يثير الشيطان العداوة بينهم من خلال الكلمات القلقة.

وتتنوع أغراض السورة في حركة الخط العام، فتتحدث عن تفضيل بعض النبيين على بعض، وعن اختبار الله للناس من خلال ما يبتليهم به، أو ما ينعم عليهم، فقد يتبع البعض الشيطان، فيسقط في الامتحان، وقد ينجح البعض، فيستعين بالله ويلتجىء إلى ركنه الركين لمحاربة الشيطان بإيمانه، والتزامه، وإصراره على موقفه، وتقديره لتكريم الله له ولكل بني آدم بما أنعم الله تعالى عليهم في جميع المجالات.

وتتوقف السورة عند التجارب الصعبة والمحن والشدائد الكبيرة التي مر بها النبي محمد (ص) بفعل المؤامرات التي كان يحيكها المشركون، وما استخدموه من وسائل الضغط والإكراه التي كانوا يلجأون إليها ليفتنوه عن دينه، إلا أن تثبيت الله تعالى له (ص) يحبط كل مكائدهم، ويُفشل كل وسائلهم، ويحول بالتالي دون بلوغهم مآربهم، هذا التثبيت الإلهي هو الذي مكّن النبي(ص) من تجاوز كل هذه المحن، إذ لولاه، لنالت منه هذه الضغوط، لأنها مما يتجاوز قدرة احتمال الإنسان بنفسه، إلا أن عظمة إيمان النبي وكماله الإنساني ومنزلته الرفيعة من الله تعالى، وأخذ الله بيده ورعايته له، شكلت في مجموعها المقوّمات الرئيسية لصمود النبي (ص) وعدم تزحزحه عن الحق والرسالة قيد أنملة.

ومهما كابر المكابرون، وجحد الجاحدون، وتمرد المتمردون، في ما كانوا يواجهون به النبي (ص)، أو يضعون الحواجز أمامه، فإن الله ـ سبحانه ـ الذي أرسله، هو الإله الواحد وله الأسماء الحسنى، التي يجب على الناس أن يدعوه بها، فهو الذي يملك العزة كلها، وهو الكبير الذي لا يدانيه أحد، والواحد الذي لا شريك له... وهكذا يلتقي آخر السورة بأولها في الخشوع لعظمة الله، والإيمان بوحدانيته المطلقة في خط العقيدة وحركة