الآية 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــة
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (1).
* * *
معاني المفردات
{سُبْحَانَ}: اسم مصدر للتسبيح بمعنى التنزيه، ويستعمل مضافاً، وهو مفعول مطلق قائم مقام فعله، فتقدير «سبحان الله»: سبحت الله تسبيحاً، أي نزهته عن كل ما لا يليق به بساحة قدسه، وكثيراً ما يستعمل للتعجب، لكن سياق الآيات يلائم التنزيه لكونه الغرض من البيان وإن أصر البعض على كونه للتعجب.
{أَسْرَى}: الإسراء: السرى هو السير بالليل، يقال: سرى وأسرى به أي سار ليلاً. والسير يختص بالنهار أو يعمه والليل.
{الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}: هو بيت المقدس. والقصي: البعيد. قد سمي المسجد الأقصى لكونه أبعد مسجد بالنسبة إلى مكان النبي(ص) ومن معه من المخاطبين، وهو مكة التي فيها المسجد الحرام.
* * *
ذكر الله في التوجيه الإسلامي
{سُبْحَانَ الَّذِي} يفيد معنى التنزيه لله تعالى عن كل ما لا يليق بساحة قدسه وذاته من الصفات، وبالتالي تعظيمه وتقديسه كما يليق به وبما يليق به من صفات الجلال والجمال. من هنا فإن كلمة التسبيح، لا يمكن أن تصدر إلا عن فكر وروح وشعور عميق بالعظمة المطلقة لله تعالى، وذلك من خلال ما يتحسسه الإنسان في نفسه عندما يذكر اسم الله، أو عندما يتذكر بعض مظاهر عظمة خلقه، أو الأفعال التي تتمثل فيها عجائب قدرته... وهذا أسلوبٌ تربويٌّ قرآنيٌ، يستهدف صنع الشخصية الإسلامية، التي تعيش الحضور الدائم لله في أعماق كيانها، وفي مفردات حياتها بشكلٍ فاعلٍ وحسّاسٍ وواعٍ بعظمته تعالى في كل ما يحيط به من أكوان، وفي كل ما يستثيره في فكره من أفعال الله في الحياة، وذلك في حركةٍ تعبيريّةٍ موحيةٍ، يتمثل فيها الذكر بالكلمة التي تعبِّر عن المبدأ المتمثل في لفظ المصدر «سبحان» الذي هو مصدر للتسبيح قائم مقام الفعل، ككل مفعول مطلق يقوم مقام فعله، في ما يراد التعبير عنه بأن الفكرة تبرز ككائنٍ حيٍّ مستقلٍّ، بعيداً عن كونها انفعالاً صادراً عن فاعل.
وتلك هي مهمّة الحركة التعبيرية في ذكر الله في التوجيه الإسلامي، أن تنطلق لتعبئة الداخل الإنساني بالطاقة الروحية المنفتحة على الله، في كل ما تمثله الكلمة من الجلال المطلق، والكمال اللاّمحدود، ليبقى الإنسان مع الله في كل مكان وزمان، فلا يغيب عنه في أيّة انطلاقةٍ للمسؤولية في حركة الحياة. وهكذا كانت كلمة التسبيح في هذه السورة، نافذةً مفتوحةً على مظهر قدرة الله في قضية الإسراء التي تمثّل المعجزة الكبيرة عبر تحدّيها المألوف في حركة السير وفي أدواته وفي زمانه، مما يحتاج إلى وقتٍ طويلٍ يتعدّى الشهر، وذلك ما تعارف عليه الناس من قطع المسافة بين مكة وبيت المقدس.
* * *
ماذا نستوحي من صفة العبودية لله؟
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ربما كان وصف النبي(ص) بالعبودية لله تعالى، للإيحاء بالعمق الروحي الذي يعيشه في خضوعه لله، واَحساسه بعبوديته له في وعيه المنفتح على سرّ الألوهية في رحاب العظمة، وإخلاصه لدوره الرسالي في خدمة الرسالة، واستغراقه في الامتثال لإرادة الله في ما يأمر به وما ينهى عنه، على مستوى التبليغ والدعوة والحركة والحياة، حتى كأنّ رسالته جزء من حركة العبودية في ذاته، ولونٌ من لطف الله به وتقديره لروحيته، لأن ذلك هو الذي يعمّق في الإنسان الإسلام لله في كل أموره، فيحمله على الذوبان في خدمته، ويندفع إلى المسؤولية الملقاة على عاتقه بكل إخلاص واستسلام، ويلتقي من خلال ذلك بالناس في أجواء الدعوة على خط العبودية التي تتجسّد في كيانه، ليجسدها في كيان الآخرين فكراً ومنهجاً وحركة حياة. وهكذا تلتقي الرسالة بالنبي ـ القدوة في إخلاص العبودية، كما تلتقي بالنبي ـ الكلمة في الدعوة إليها.
وهذا ما يجب أن يتمثّله الدعاة إلى الله، العاملون نفي سبيل رسالته، أن يتمثَّلوا العبودية لله في وعيهم الفكري والروحي، وفي خطواتهم العملية، لينفتحوا على الإخلاص له، فلا ينحرفوا بخطواتهم ومشاعرهم ذات اليمين وذات الشمال، لينطلقوا في الدعوة من موقع المعاناة وفي العمل من موقع الواقع، وليؤكدوا دورهم من خلال الصدق، ليكونوا دعاةً للناس بغير ألسنتهم عندما يكونون عباداً مخلصين لله قبل أن يكونوا الدعاة إلى عبادته.
وربما كان لنا أن نستوحي من الحديث عن رسول الله(ص) من خلال صفة العبودية لله، كيف ينبغي لنا أن نتحدث عن العظماء على مستوى الأنبياء والأولياء والعلماء والأقوياء، فلا نستغرق في استذكار عظمتهم الذاتية، بعيداً عن استيحاء عبوديتهم لله، لأن ذلك قد يدفعنا إلى الاستغراق في علاقتنا بهم إلى درجة الغلو في العقيدة، أو الشرك في التصور والشعور، أو الانحراف في الطاعة والخضوع، بينما يكون الحديث عن صفة عبوديتهم لله قبل الحديث عن صفاتهم الذاتية، باعثاً على الاستغراق في عظمة الله من خلالهم، في عملية إيحاءٍ داخليٍّ بأنهم لا يملكون أية صفةٍ أو قيمةٍ ذاتيةٍ في أنفسهم، لأنهم عباد الله الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً إلا بالله، فما بهم من نعمة فمن الله... وهكذا يتوازن الفكر والشعور والإيمان في وعي الإنسان لعقيدته بالله وعبوديته له، وفي تقديره للناس الذين يملكون بعض جوانب العظمة من حوله. ولعل هذا ما جعل الشهادة التي أرادنا الله أن نشهدها للنبي بالرسالة، في حالة التشهد في الصلاة، تفرض الحديث عن الشهادة له بالعبودية لله، قبل الشهادة له بالرسالة.
اللمسة الموحية
{لَيْلاً} هذا التأكيد على التصريح بالليل، الذي تختزنه كلمة {أَسْرَى} قد يكون للإيحاء بالجوّ الهادىء الذي يضفيه الليل، مما يتناسب مع هذا الحدث الإلهي العظيم الذي يُراد به انفتاح النبي(ص) على الكون في هذه الرحلة الإلهية العجيبة، حيث سيعيش الإحساس الرائع بالصفاء الروحي، والانطلاق الفكري، والانسياب الشعوري، في حركةٍ هادئةٍ خفيّةٍ يعيش فيها الإنسان حالة الانسجام بين أعماق ذاته والجوّ من حوله، ما يحقق له المزيد من الاستيحاء الدقيق للأفكار، والاختزان العميق للمشاعر، وبذلك كانت الكلمة من أجل إعطاء هذا الحدث اللمسة الموحية، التي قد لا يثيرها المعنى الكامن في كلمة {أَسْرَى}، لأن التلميح ـ في بعض الحالات ـ لا يغني عن التصريح.
* * *
واحة السلام
{مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الذي جعله حرماً آمنا يأوي إليه الناس من دون خوف، ويلجأ إليه الحيوان من دون ذعر. إنه المنطقة التي جعلها الله واحةً للسلام في تلك الصحراء المقفرة المليئة بكل ألوان الخطر القادم من أجواء الغزو والسلب والاعتداء.
إنه المسجد الذي ينفتح فيه الإنسان على السلام، من خلال الروحانية الفياضة بالمعاني الإنسانية الحميمة، المتصلة بالله في ما يريد له أن يتعمق في وعيه من الرحمة والمحبة والشعور بالمسؤولية الكبيرة عن الحياة التي لا يجوز الاعتداء عليها، إلا من أجل حمايتها، أو حماية الحق الذي يعطيها سرّ الحيويّة والإشراق والامتداد، وهكذا كانت حرمته انفتاحاً على الحياة في رحاب السلام، لا انغلاقاً على القيود التي ترهق معنى الحرية في الإنسان. وبذلك تولد الحرمات في الأرض لتمنحها رحابة الأفق الممتد إلى حركة الحياة من حولها، لا لتدفعها إلى زاويةٍ محدودةٍ ضيّقةٍ.
* * *
مسجد الأنبياء
{إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى} الذي هو الأبعد بالنسبة إلى المسجد الحرام، وهو بيت المقدس الذي عاش الأنبياء فيه عبادةً لله، ورسالةً للناس، وحركةً للحياة الروحية في أجواء التوحيد التي انطلقت من خلال رسالات الله، التي حملها الأنبياء من أجل أن يكون توحيد الله في العقيدة أساساً لتوحيده في العبادة، ولتوحيد الحياة من خلاله على منهج واحد للفكر والعاطفة والحياة. وهكذا اكتسب هذا المسجد من النفحات الروحية التي عاشها الأنبياء فيه، ومن التسبيحات الخاشعة لله التي انطلقت من قلوبهم، ومن الابتهالات الحميمة الوديعة التي كانت ترتفع من عيونهم المليئة بالدمع الحارّ الذي يتفايض بالمحبة لله والخشية منه، ومن حركة الرسالة في خطواتهم المتحدّية للشرك وللكفر وللضلال، والواقفة أبداً في مواقع ردّ التحدّي بالكلمة تارةً، وبالصبر أخرى وبالمواجهة ثالثة... وهكذا كان هذا المسجد مصدر وحيٍ للرسل وللناس وللحياة، كما كان موقع وحيٍ من خلال ما كان يتنزل فيه من وحي الله على رُسله، ومنطلق حركةٍ تدل الناس على الطريق المستقيم.
* * *
ما معنى البركة؟
{الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} في ما كانت البركة تمثله من امتدادٍ وحركةٍ على كل الساحات المحيطة به، لأن البركة ليست مجرد حالةٍ غيبيّةٍ روحيّةٍ تثير المشاعر القدسيّة في أجواء ضبابيّةٍ حالمةٍ، بل هي ـ إلى جانب ذلك ـ قوّةٌ حركيَّةٌ روحيَّةٌ تندفع بالكلمة الطيبة التي تملكها، وبالطاقة الحيّة التي تحركها، وبالأفق الرحب الذي تفتحه، وبالشعور الحميم الذي تثيره، وبالخطوات الثابتة التي تقودها، لتكون ـ في جميع ذلك ـ مشروع حياةٍ نافعةٍ مليئةٍ بكل ما يحقق للإنسان سعادته، وللكون نظامه.
ومن خلال ذلك، نفهم معنى الشخص المبارك، فهو ليس الإنسان الحامل للأسرار الخفية التي تدفع الناس إلى لمس ثيابه وجسده أو الطلب إليه أن يضع يده على رؤوسهم ليأخذوا منه البركة، بل هو الإنسان الذي يعيش الطاقة الروحية التي تحرّك فيه كل إمكاناته لينشرها على الناس والحياة من حوله، لتنطلق خيراً ورحمةً ومحبّةً وسلاماً، في نفعٍ شاملٍ غير محدودٍ، كما ورد في تفسير قوله تعالى: ـ في حديث عيسى(ع) عن نفسه ـ {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً} [مريم:31] فقد جاء في التفسير أن معناه: وجعلني نفاعاً للناس من خلال ما توحي به البركة من امتداد للطاقة في حياة الناس.
وهكذا نفهم معنى الأرض المباركة، في ما تعطيه من خيرات على مستوى الثمرات المادية التي تنتجها أو على مستوى الثمرات الروحية التي توحي بها على خط الرسالات والرسل الذين تحتويهم في كل زمان... وبذلك نفهم سرّ التعبير في قوله تعالى: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ} بدلاً من «باركناه»، فقد يكون السرّ في ذلك هو الإيحاء بأن البركة لا تتجمّد في المسجد وتبقى فيه، ليأتي الناس إليه للحصول على البركة من أرضه وجدرانه، بل تنطلق منه من خلال ما تمثله رسالته من المسؤولية النابضة بالروح، والمتحركة مع الواقع، لتمتد إلى كل مكان، فتتحول البركة من نبع يتحرك داخل الأرض إلى نهر جارٍ ينساب في كل عقل وفي كل روح، ويصل إلى كل أرض فيها للإنسان وجود، ليملأها بالخير والمحبة والحياة. ومن الطبيعي لهذه البركة المحيطة بالمسجد أن تكون منطلقة منه، ما يعني أن التعبير يختزن في داخله معنى البركة في المسجد لما يوحيه من معنى البركة في ما حوله، والله العالم.
* * *
عمق الوعي في امتداد الآيات
{لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنَآ} في ما عاشه من أجواء الإسراء الدالّة على عظمة القدرة وروعة النعمة، وما رآه من مواقع الرسالات الأولى، وما كشف الله عن عينيه من آفاق الغيب ـ كما ترويه تفاصيل القصة ـ وهكذا كان هذا الحدث الكبير نافذةً للمعرفة، تطلّ به على كثير من حركة الكون في ما غاب عنه من أمره، وعلى حركة الغيب في ما انفتح له من سرّه، وعلى حركة التاريخ في ما كشف الله له منه، كما لو كان شيئاً حاضراً لديه مما عاينه ورآه.
وربما نستوحي من ذلك أن الله يريد لرسله أن تتكامل لهم المعرفة في آفاق آيات الله، من خلال ما يملكون الحصول عليه بشكلٍ مباشرٍ، وما يحصلون عليه بالقدرة الغيبيّة بشكلٍ غير مباشر، لأن ذلك هو سبيل التكامل في شخصية من يريد أن يقوم بعملية تغيير العالم في الفكر والحياة، ما يفرض عليه أن يملك وعي المعرفة في أوسع آفاقها لتقوم به الحجة على الناس من موقع المعرفة التي تقهر الجهل، كما تقوم به من موقع المعجزة التي تصدم التحدي، فينفتح عقل الإنسان على الحقيقة من خلال الرسالة.
وربما نستوحي من ذلك، أن هذه المهمة لا تنحصر في شخصية الرسول في خصوصيته الذاتية التي تتميز بميزة الوحي، بل هي خصوصية الرسالة التي تتصل بهداية الناس، ما يوحي للدعاة إلى الله، أن ينفتحوا على المعرفة في أوسع مجالاتها، في ما يحتاجونه في قضايا التبليغ وحركة التغيير، ما يجعل من الداعية إنساناً في مركز القيادة على مستوى وعي الفكرة وانطلاق الحركة، ليستطيع التأثير في مجتمعه من مركز القوّة والانفتاح. وهذا يفرض عليهم الإطلاع على آيات الله في الكون ليزدادوا معرفةً به، نتيجة ما يشاهدونه وما يسمعونه وما يقرأونه ويفكرون به، ليحققوا عطاء المعرفة من خلال سعة العلم، وعمق الفكرة، وحيوية التجربة.
* * *
إحاطة شاملة
{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} في ما يسمع من السرّ وأخفى من وساوس الصدور وهمسات الشعور، وما يراه من مخلوقاته الخفية في ظلمات البر والبحر، وفي آفاق الفضاء، مما لا تراه العيون، ولا تلتقي به الحواسّ. وهذا تعبير عن إحاطته بالأشياء على سبيل الكناية بما يمثله السمع أو البصر من وسيلة المعرفة، باعتبارهما المصدر الأصيل لأكثر المعلومات. فإذا كان الله هو المحيط بالأشياء، فإنه الذي يملك تسهيل الإحاطة بها لعبده من خلال القدرة المطلقة عليها من جميع الجهات.
وربما كان التأكيد على هاتين الصفتين باعتبار أنه قد سمع من عبده ما عبّر به من إخلاصه وتوحيده له، ورأى من خشوعه وخضوعه وعبادته وإطاعته ما جعله يمنحه من لطفه ورعايته، ليريه من آياته الكبرى كمظهرٍ من مظاهر التكريم، والله العالم.
ــــــــــــــــــــ
(1) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات: ط:1، 1411هـ ـ 1991م، ج:13، ص:16ـ17.
(2) الشيرازي، صدر الدين، محمد بن إبراهيم، مفاتيح الغيب، صححه وقدم له: محمد خواجي، ص:149 ـ 151.
(3) تفسير الميزان، ج:13، ص:32.
تفسير القرآن