من الآية 2 الى الآية 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيتـان
{وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً* ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُوراً} (2ـ3).
* * *
معاني المفردات
{وَكِيلاً}: كفيلاً.
* * *
الحلقة الأخيرة في سلسلة النبوات
وإذا كان الله قد أكرم عبده محمداً(ص) بالإسراء ليريه من آياته، ويسهّل له سبيل أداء الرسالة، ويفتح له كل وسائل الهداية، من أجل أن يهدي الناس إلى رسالة الله، فإن محمّداً لم يكن بدعاً من الرسل، بل كان يمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة النبوّات التي يقف موسى في طليعتها، لما كان يمثله من جيل جديد من الرسل في الحركة والفاعلية والامتداد والشمول وكمال الرسالة في الفكرة وفي التفاصيل... وهذا ما جعل الرسول(ص) يعيش آفاق موسى(ع) في ما كان يعيشه من آفاق الرسالات في أجواء المسجد الأقصى، وهذا ما جعل المناسبة ممّا يلتقي فيها الحديث عن الإسراء بالحديث عن موسى وكتابه وشعبه.
* * *
موسى هدىً لبني إسرائيل
{وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِّبَنِي إِسْرَائيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} وهو التوراة التي أنزلها الله عليه ليبلغها للناس، وليدفعهم إلى السير على هداها من خلال ما تشتمل عليه من أسس العقيدة، ومفاهيم الحياة، وتفاصيل الشريعة، وربما كان التعبير بالكتاب ـ كما يذكر صاحب الميزان ـ للإيحاء بالمعنى الذي قد يطلق عليه في كلامه تعالى، وهو «مجموع الشرائع المكتوبة على الناس، القاضية بينهم في ما اختلفوا فيه من الاعتقاد والعمل، ففيه دلالة على اشتماله على الوظائف الاعتقادية والعملية التي عليهم أن يأخذوها ويتلبّسوا بها»[1].
ولكننا لا نعتقد أن مثل هذا الإطلاق، يصل بالتعبير إلى مستوى المصطلح الذي يختزن خصوصية المعنى في داخله، بل قد يكون مجرد تعبير عادي، في ما تعنيه الكلمة من الوحي الذي جمعه الله في كتاب يقرأه الناس ويكتبونه، وليس وحياً يعونه ويسمعونه فقط. والله العالم.
{وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَائيلَ} لينفتحوا ـ من خلاله ـ على آفاق المعرفة، ويتخلصوا من كهوف الجهل وظلماته، ولينطلقوا إلى ساحة الحرية بعد أن عاشوا أجواء الاستعباد، وليعبدوا الله وحده، ويبتعدوا عن عبادة مخلوقاته كما أراد لهم الشيطان، ويسلكوا سبيل الهدى في ما يتحركون نحوه من أهداف وغايات، وما يتخذونه من وسائل، ومقدّمات وما يمارسونه من أفعال، وما يرتبطون به من علاقات، وما يعتنقونه من عقائد وأفكار.
وقد يسأل البعض عن هذه الخصوصية في جعل الكتاب هدىً لبني إسرائيل في حين نعرف أنه هدىً للناس جميعاً، ولهذا كان موسى من أولي العزم، الذي كانت رسالته لا تقتصر على جماعةٍ دون جماعةٍ، ولا تنحصر في مكانٍ معيّنٍ أو زمانٍ معيّنٍ؟
والجواب عن ذلك، أن الحديث عن بني إسرائيل قد يكون على أساس أنهم قاعدة الانطلاق في حركة الرسالة، فهم الجماعة الأولى التي جاء موسى(ع) ليخلصها من ظلم فرعون، كمقدمة لتخليص الناس الآخرين من ظلمه وظلم أمثاله على أساس الشريعة. وتلك هي السنَّة الطبيعية لكلّ نبيٍّ أو مصلح، في ما يحمله من رسالة الوحي أو الإصلاح، فإنه يتحرك من قاعدة محدودةٍ، وهي قاعدة قومه أو محيطه، لينطلق منها إلى الآخرين.
* * *
حركة الاستقامة
{أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} والوكيل هو الذي يكفل إصلاح الشؤون العامة أو الخاصة لموكله، ويعمل على تدبير أموره وقضاء حوائجه، ونحو ذلك مما يمكن استعارته أو الكناية به عن الربّ الذي يتولى مهمّة الإنسان في كل شؤونه وقضاياه، وبذلك تكون هذه الفقرة تعبيراً عن النهي عن اتخاذ غير الله ربّاً، كبديلٍ عن الله أو كشريكٍ له، وهذا هو معنى التوحيد الذي يؤكِّد الإيمان بالله الواحد على مستوى العقيدة والعمل بتوحيد العبادة والطاعة، وعلى مستوى الخط بتوحيد الشريعة والمنهج العملي الشامل في الحياة. وبذلك تكون الكلمة عنواناً لكل ما أوحاه الله لرسله من التفاصيل. وهذا ما حدثنا القرآن عنه في الشعار الذي كان يطرحه الأنبياء كعنوان لدعواتهم للناس، أن يعبدوا الله ولا يعبدوا غيره، وفي الخط الذي سار عليه عباده الذين جعل لهم الدار الآخرة، في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} [فصلت:30]، حيث اكتفى في ذلك بالإعلان عن توحيد الربوبية لله، والانطلاق في الحركة على أساس الاستقامة على هذا الخط.
* * *
عبد شكور
{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} وهم الجيل الثاني للبشرية، الذين باركهم الله وأنقذهم من الطوفان، لأنهم آمنوا برسالة نوح وأخلصوا لله، وتمردوا على قومهم، ليبدأوا المسيرة الجديدة على أساس الإيمان بالله والسير على هداه، ولتتبعهم ذريتهم في ذلك، من خلال وحي الله ورسالته... وهكذا كان هذا الجيل الذي عاش مع موسى من قومه، من ذرية أولئك الذين أراد الله هدايتهم بوحيه مع موسى، كما أراد الله هداية أولئك بنوح(ع) {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُوراً} فهو أخلص لله العبودية، التي تمثلت في هذا الثبات على الموقف، والاستمرار في مواجهة الصراع مع القوى الكافرة في هذا الزمن الطويل الذي شارف على الألف سنة من دون تأفف أو تذمّر، حتى استنفد كل الوسائل التي يملكها في حركة الدعوة، ليرضى الله عنه في ذلك، وليؤكد له عبوديته الخالصة في كل المواقف والمواقع. وهذا هو المظهر الحيّ للشكر الذي تؤكد الرسالات عليه، من خلال الارتباط بالله والسير على مرضاته، لأن الله يريد للناس أن يشكروه بالطاعة، باستعمال ما أنعم به عليهم مما يخدم الحياة والإنسان، لا بالكلمة المجرَّدة والعاطفة الساذجة.
ــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:13، ص:35.
تفسير القرآن