تفسير القرآن
الإسراء / من الآية 9 إلى الآية 10

 من الآية 9 الى الآية 10

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيتـان

{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيراً* وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيماً} (9 ـ10).

* * *

معاني المفردات

{أَجْراً}: ثواباً.

{أَعْتَدْنَا}: أعددنا

* * *

اتباع القرآن وسلامة المصير

وتنتقل الآيات من الحديث عن كتاب موسى، وما فيه من إنذار لبني إسرائيل إذا انحرفوا عن تعاليمه، وما فيه من خير وبشارة لهم إذا انسجموا مع آياته واهتدوا به... إلى الحديث عن هذا القرآن الذي أنزله الله على رسوله ـ خاتم الأنبياء ـ ليكون خلاصة الرسالات السماوية في المبادىء العظيمة التي تتحرك فيها القيم الروحية الإنسانية، في ما يمكن أن يكون زاداً للحياة كلها في عقائدها ومفاهيمها وشريعتها ومناهجها الخاصة في الفكر والحركة والسلوك، مما يحمل في داخله الإيجابيات الكبيرة على مستوى سلامة المصير للسائرين عليه، كما يحتوي السلبيات المصيرية للمنحرفين عنه. وذلك هو شأن كتب الله المنزّلة على عباده، فهي الهدى لمن اهتدى بها، وهي الحجة على من ابتعد عنها في الخط الفاصل بين الجنة والنار.

{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي للملّة، أو للطريقة، أو للشريعة، أو للحياة التي هي أكثر اتصالاً بخط الاستقامة والتوازن بين خصائص الإنسان وعناصر الحياة، فلا يطغى جانبٌ على آخر، فتتوازن الدنيا والآخرة والمادة والروح، في حركة مشاريع الإنسان وخطواته وعلاقاته، فلا يفكر بالدنيا بعيداً عن الآخرة، ولا يعيش أجواء الروح، في انفصالٍ عن أجواء المادة، بل تتروّح المادة في وعيه، وتتجسَّد الروح في خطواته، وتلتقي الدنيا بالآخرة في جميع الأفعال التي تتحرك من مسؤوليته في الحياة أمام الله... وهكذا يتحرك الإنسان في الحياة الفردية بالطريقة التي لا تسيء إلى الحياة الاجتماعية، في الوقت الذي لا يلغي فيه المجتمع شخصية الفرد وحريته في نطاق الذات، وبذلك كان الإسلام ديناً واقعياً لا يبتعد بالإنسان عن الحياة عندما يريد أن يربطه بالله، بل يؤكد له صلته بالله بمقدار تأكد صلته بالناس وبالحياة، باعتبار أن ذلك هو موضع رضا الله.

* * *

لا بد من فهم الإسلام بطريقة متوازنة

وفي ضوء ذلك، لا بد للمسلم من أن يفهم الإسلام بطريقة متوازنة تواجه المسؤولية من جميع الجهات، لئلا تنحرف به النظرة الخاضعة للجانب الواحد عن النفاذ إلى القاعدة الّتي تحكم الخط الشامل للشريعة، كما يفعل بعض المؤمنين الذين يفهمون الإسلام من خلال نصوص الزهد دون مقارنتها بنصوص المسؤولية عن حركة الحياة من حوله، ونصوص الرخصة في الطيبات، ما يجعل من الزهد أداة لخدمة الحركة لا وسيلة لتجميدها، أو الذين يدرسون أحاديث استحباب العزلة عن الناس، بعيداً عن الأحاديث التي تؤكد وجوب هداية الناس ورعاية أمورهم وقضاء حوائجهم أو استحبابها، ما يجعل من العزلة حالةً استثنائية تتحرك في نطاق الحاجة إلى التأمُّل والانفصال عن المجتمع في وقت ما، لحماية روحيته من الانحراف، وتصوراته من الخطأ، وخطواته من الزلل.

* * *

القرآن والدعوة إلى اعتبار العقل أساس المعرفة

وقد نلاحظ هذا الخط الأقوم في القرآن، في ما دعا إليه من اعتبار العقل أساساً للمعرفة في العقيدة وحركة الحياة، من حيث هو رسولٌ داخليٌّ، ورأى فيه الحجة على الإنسان وللإنسان، في كل خطوات المسؤولية، وأكد عليه كأساس للوعي الفكري والروحي لديه.

ثم نلاحظ الدعوة إلى العلم كمنطلق للإيمان والحركة والحياة، فالقرآن أكّد على أن مشكلة الانحراف في حياة الإنسان تكمن في الجهل، واعتبر أنّ العلم هو القيمة التي تميز الناس عن بعضهم البعض، ورفض التسوية بين من يعلمون ومن لا يعلمون، وأراد للإنسان أن يقرأ كل ما ينمّي فيه طاقة المعرفة، أو يفتح آفاقه على الجوانب الخفيّة للكون، وأن يكتب كل ما يستفيده في ذلك ليحفظه للأجيال، في أوّل سورةٍ أنزلها الله على رسوله.

وهكذا أراد للحياة أن تقوى وتشتد وتتركز، في دائرة التطور الإنساني، والتقدُّم الحياتي على أساس العقل والمعرفة، ليكون ذلك بمثابة القاعدة التي تكفل استمرارها من موقع القوّة والثبات، وتكفل للإنسان النموّ المتحرك في أكثر من اتجاه، مما يلتقي مع الخط الذي يخضع للتقويم والتصحيح في كل مرحلةٍ ينحرف فيها عن الاتجاه المستقيم، بينما يتأكد الانحراف ويتعمّق ويتحوَّل إلى عقيدةٍ راسخةٍ، إذا انطلقت الحياة في أجواء الجهل والخرافة، فلا يستقيم لها طريق، ولا يتحقق لها هدف.

وقد نلتقي بالخط الذي هو أقوم، في النظرة الشاملة للإنسان في تأكيده للعنصر الإنساني، وابتعاده عن كل العوامل الطارئة التي لا تلتقي بالعناصر الذاتية في كيانه، فلم يجعل للنسب أو للعرق أو للّغة أو للأرض أيّة ميزة في حساب القيمة، بل رأى في تنوع الخصائص أساساً للتنوع في النتائج العملية في حركة الإنسان، ودعاه إلى اعتبار القيمة ـ كل القيمة ـ في حركة خصائصه الإنسانية في اتجاه الالتزام بالخط المستقيم المرتكز على طاعة الله، التي هي الخير كل الخير في القول والفعل وحركة العلاقات والتطلعات الروحية للإنسان، وهذا ما يعبر عنه بالتقوى، التي تعني الانضباط في خط العقيدة والشريعة، وبذلك لم تكن خصائص الوجود هي التي تحدّد للإنسان قيمته، بل هي حركة هذا الوجود في النتائج الكبيرة للحياة.

* * *

العدالة وحاكميتها على الواقع الإنساني

ونلتقي بالخط الأقوم في حركة العلاقات الإنسانية على مستوى الحكم والقاعدة، في تأكيده على العدالة في جميع المجالات من دون تفريق بين الناس، في ما يختلفون فيه من علاقات العداوة والصداقة، والقرب والبعد، والغنى والفقر، والكفر والإيمان... وارتفع بالمبدأ إلى المستوى الذي اعتبره فيه هدفاً أسمى لإرسال الرسل وإنزال الكتب، ما يجعل من الشرائع كلها في وحي الله، وسيلة من وسائل التربية الإنسانية على مبدأ العدل روحاً وشعوراً وفكراً وحركة حياة، بحيث يكون المقياس في ارتفاع درجة الإيمان لدى المؤمن، بالمقدار الذي ترتفع درجة العدل عنده، ولم يترك المسألة مجرّد حالةٍ أخلاقيةٍ فكرية ٍأو شعورية،ٍ بل عمل على التخطيط التشريعي لتحويلها إلى مفرداتٍ شرعيةٍ تحكم الواقع الإنساني على مستوى الفرد أو الجماعة، ما يؤكد الخط على أساس الثبات من حيث المبدأ والحركة على مستوى الواقع.

* * *

الخط الأقوم وجانبا العزة والحرية

وقد نلاحظ حركة الخط الأقوم في التأكيد على جانبي العزة والحرية في حياة الإنسان أمام الكون كله من جهةٍ، وأمام بقية أفراد الإنسان من جهةٍ أخرى، وذلك من خلال إذعانه بعبوديته لله سبحانه، ليكون انسحاقه أمام الله أساساً للانطلاق في قوّته من موقع ارتباطه بقوّة الله دون غيره، ما يجعل منه منطلقاً للقوّة أمام الآخرين الذين هم عبادٌ أمثاله، مهما ملكوا من القوّة والسلطة. وربما كانت قيمة هذا التوجه، أنه يوحي للإنسان بالعمق الذي تختزنه إنسانيته على مستوى حرية الإرادة وانطلاقة الفكر، حيث لا يعيش الشعور بالانسحاق الداخلي أمام أيّة إرادةٍ بشريةٍ أخرى، ولا يواجه الحدود الضيقة للفكر الذي قد تفرضه سلطةٌ معينةٌ عليه، لأنه يجد في إنسانيته الغنى الذاتي الذي يتفاعل مع إنسانية الآخرين دون الخضوع لها، لأنه لا يجد نقصاً في موقعها الحياتي، فهي مع الآخرين على حد سواء.

وهكذا تتحرك هذه التربية القرآنية في وعي الذات، ليبقى الإنسان في حقيقته عبداً لله، يعيش الإحساس بالضعف أمامه، ليستمد القوّة منه في كل لحظةٍ، من خلال انشداد الحاجة المطلقة إلى الغنى المطلق، ويعيش حرّاً أمام الآخرين، في شعورٍ دائمٍ بالامتلاء الروحي من خلال استقلاله الذاتي عنه، فكراً وطاقة وحركة حياة.

ثم تنطلق هذه التربية في اتجاه آخر يتصل بقضية الحرية السياسية في واقع الإنسان، لتكون هذه القيمة الإنسانية أساساً لحركةٍ متجددةٍ شاملةٍ على مستوى الجهاد العنيف الدائم ضد كل قوى الاستكبار في الحياة، بحيث يتحسس الإنسان انحرافه عن خط الحرية والعزة والكرامة، كما يتحسس حالة الخطيئة في أعماله الخاصة. وهذا ما عبر عنه الإمام جعفر الصادق(ع) في تفسيره لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] حيث قال معلّقاً على ذلك: «إن الله عز وجل فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً»[1]. ما يوحي بأن مسألة العزة ليست مسألةً شخصيةً، بل هي مسألةٌ روحيةٌ عامةٌ لا يملك الإنسان حرية التصرف فيها.

وعلى ضوء ما تقدم، فإننا نستوحي أن الإسلام يمثل، في عمق تكوينه الفكري والتشريعي، الدين الذي يحمل قضية الحرية كقاعدة لحركة الإنسان في الحياة في مواجهة قوى الاستعباد والاستكبار، ويرى في مسألة الجهاد نتيجة طبيعية لذلك، بحيث يتم التفاعل بين ماهية القاعدة، وماهية قضية الحرية في المستوى السياسي والعسكري، فيبطل الرأي القائل بأن الدين يمثل العنصر التخديري للإنسان ويوحي له بالاستسلام للأمر الواقع، مهما كانت طبيعته منافية لمصلحة الحياة في حركة الإنسان الواقعية.

* * *

واقعية التشريع

وقد يتمثل الجانب الأقوم في النظرة الواقعية إلى حدود التشريع في حياة الناس حيث لم يفرض عليهم أيّ حرجٍ في التكاليف، بل جاء بالشريعة السهلة السمحة القائمة على اليسر، ولم يكلّف الناس ما لا يطيقون، ورفع عنهم ما لا يعلمون وما أكرهوا عليه أو اضطروا إليه، ورفع أحكام الضرر عنهم من خلال القاعدة الشاملة «لا ضرر ولا ضرار»، وأحاط الإنسان بقيودٍ عمليةٍ جعلت التكليف يتحرك بطريقةٍ واقعيةٍ، لا تجمّد حركة الإنسان، ولا تطلقها في ساحة الفوضى، ما جعل القيم السلبية تقف بهذه الحركة عند حدود المصلحة الإنسانية العامة، كما جعل للقيم الإيجابية مثل ذلك، فقد يصبح الكذب حلالاً إذا كان وسيلةً للخير الإنساني، وقد يحرم الصدق إذا ابتعد عن مصلحة الحياة، وهو ما لا مجال لتفصيله الآن، لأننا نريد التأكيد على الجانب الواقعي للشريعة الذي يبتعد بها عن الجانب المثالي، لأن المثالية في هذا الإطار تغيب الواقع الإنساني الحقيقي وتجعل الشريعة غير صالحة للتطبيق.

* * *

لمن البشارة الروحية ولمن العذاب الأليم؟

{وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ } فيؤدون لله حقه من خلال ما ألهمهم من الإيمان به وبتوحيده كحقيقةٍ تفرض نفسها على الفكر والوجدان والشعور، فيقومون بالعبادات التي فرضها عليهم لتعميق الجانب الروحي في ذواتهم، وللإيحاء الدائم بالحضور الإلهي في حركة الحياة من حولهم؛ يجسدون هذا الإيمان واقعاً حياً في كلماتهم وعلاقاتهم ومعاملاتهم ومشاريعهم العملية، ليكون ذلك كله منسجماً مع الخط التشريعي الإلهي الذي جاءت به الرسالات وبشر به الأنبياء كنظام كامل للإنسان وللحياة. وبذلك يكونون مخلصين لله من خلال انفتاحهم عليه والتزامهم بأوامره ونواهيه، ولأنفسهم بتوجيهها إلى ما يحقق لها سعادة الدنيا والآخرة، وللناس وللحياة وذلك بالتزامهم الضوابط والحدود وبذلهم الطاقات وتفجيرهم ينابيع الخير وتحريكهم مواقع الحق والعدالة والإيمان.

وهكذا استحقوا البشارة الروحية، المنطلقة من جهدهم ومعاناتهم مما يكافىء به الله عباده المحسنين {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} لأن الله لم يرد للإنسان أن يتجرد من غريزة حب الذات القائمة على أساس الأخذ والعطاء، ولكنه أراد له أن لا يتجمّد في تفكيره بالثمن أو بالعوض عند حدود الدنيا في الجانب المادي منها، بل يمتد إلى أبعد من ذلك في الجانب الروحي من قيم الحياة، الذي يملأ قلبه بالرضا والطمأنينة والسرور، ويلتفت إلى آفاق الآخرة ليحصل على نعيمها السابح في رضوان الله، وهكذا أجمل الله لهم الأجر في البشارة، فلم يفصل لهم طبيعته، ولكنه أطلق لهم التصور في أن يعيشوا الشعور في دائرة حجمه، فالله سيمنحهم الأجر الكبير الذي يمتد إلى نعيمه ورضوانه ورحمته التي وسعت السّموات والأرض.

أمّا الذين لا يؤمنون بالآخرة، لأنهم لا يعيشون مسؤولية الإيمان، فينطلقون في أجواء اللامبالاة إزاء قضية العقيدة أو مسألة الالتزام، ولا يجدون مشكلةً في أيّ جانب فكريٍّ أو عمليٍّ، ليناقشوه ويتحاوروا فيه، ليلتزموه أو يرفضوه، بل كل همِّهم ينحصر في إشباع جوع الحس وإرواء ظمأ الشهوة وتلبية حاجات الهوى، وهذا ما جعلهم يبتعدون عن الإيمان بالله حتى فقدوه، وعن الالتزام بالوحي حتى تمردوا عليه، فأساؤوا إلى أنفسهم بما جلبوه لها من متاعب ومشاكل، وما أبعدوه عنها من منافع ومكاسب، وما أوقعوها فيه من مهالك ومزالق، وأساؤوا إلى الناس لأنهم ظلموهم وأضلوهم في حياتهم وأثاروا في حياتهم أجواء الكفر والضلال والانحراف، وحرّكوا فيها خطوات التمرّد والظلم والطغيان، فهم مشدودون إلى الأرض لا يتطلعون لحظة إلى السماء، ومرتبطون بالدنيا لا يفكرون بالآخرة، وملتزمون بالمادة لا يعيشون قيم الروح. وهكذا ضلوّا وأضلّوا بعد أن قامت عليهم الحجة من الله، من خلال ما أعطاهم من عقلٍ، وما رزقهم من حواس، وما وهبهم من وسائل الحركة، وما أحاطهم به من أجواء العناية، فلم يكفروا عن عجز، ولم يضلوا عن جهل.

أما هؤلاء فلهم بشارةٌ من نوعٍ آخر {وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} لأن المقدمات تفرض نتائجها، ولأن العمل يفرض الجزاء. وهذا هو جزاء الذين لا يعيشون مسؤولية العمل، فينحرفون به إلى غير ما يريده الله للإنسان وللحياة.

ــــــــــــــــــــ

(1) الكليني، الكافي، ج:5، ص:63، رواية:1.