تفسير القرآن
الإسراء / الآية 12

 الآية 12

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــة

{وَجَعَلْنَا الَّليْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} (12).

* * *

معاني المفردات

{مُبْصِرَةً}: مضيئة ومنيرة.

{لِتَبْتَغُواْ}: لتطلبوا.

* * *

الفضل الإلهي

إنها الحياة الخاضعة للحكمة في نظامها الكوني، ففي كل ظاهرة سرٌّ، وفي كل حركة حكمةٌ. فالخلق ليس عبثاً، بل هناك قواعد تحكم كل شيء وتنظِّمه وتفصّله وتجعل كل الأمور مشدودةً إليه، ما يوحي للإنسان بأنه يعيش في كون يتحرك ويقف بحساب، ويجد فيه كل المنافع والغايات التي توجهه إلى وجهته التي أراد الله أن يبلغها. وهكذا كان الليل والنهار آيتين من آيات الله التي تحمل ـ في مضمونها وحركتها ـ أبلغ الدلالة على وجود الله وقدرته وحكمته، فهما ينقصان ويزيدان ويتعادلان ضمن معادلةٍ كونيةٍ في حركة الأرض ونظام الشمس، فلا ينحرفان عن خط التوازن قيد شعرةٍ، بل يلتزمان ـ في حركتهما الكونية ـ الخط الدقيق الذي يسير باتزانٍ وحكمةٍ ودقّةٍ، لينظم للكائنات وجودها، وليؤمِّن للإنسان الكائن الحي المتحرك شروط حياته في انطلاقة الشروق في الأرض، حيث يفتح النور كل عيونه، وليعطي لكل موجود عيناً مبصرةً تحدّق بما حولها ومن حولها، ليجد موارد رزقه ومصادره في الأرض التي تظهر له كل كنوزها، ليكتشفها في ما تخبئه في أعماقها من معادن وثروات وينابيع، أو ليزرعها من البذور التي تنمو وتخضرٌّ وتستطيل وتمتد، فتمنحه الغذاء المتنوع ـ من الخضرة والفاكهة والحبوب ـ الذي يمده بحيوية الحياة في داخله، ويتحرك بما يفيده في المجالات المختلفة المتنوعة، سواء في عملية التواصل والتبادل بين أفراده، أو في طريقة السيطرة التي يمارسها على ما خلقه الله من الحيوان في آفاق الفضاء، أو في أعماق البحار، أو في أغوار الكهوف، أو على سطوح الأرض وفي سهولها وجبالها، مما ينتفع بلحمه أو بجلده، أو بلبنه، أو بصوفه وشعره ووبره، أو مما ينتفع بركوبه أو بحمله الأثقال عنه أو غير ذلك من الخصائص التي أودعها الله فيه من دواء أو غيره. وهكذا يجد في هذا النهار المبصر، العين الإلهية التي تفجر النور في الكون، وتكشف عن عينيه كل غشاوات الظلام الذي يمنع الرؤية. وهذا هو الفضل الإلهي في حركة الرزق وحماية الوجود وتنوُّع الحياة.

* * *

الإغفاءة الهادئة

وإذا جاء الليل، فإنه يأتي بالظلام الذي تغيب فيه الأشياء عن النظر، وتنعدم فيه كل مظاهر التمايز بينها، فليس هناك إلا هذا السواد الذي يلف الكون كله، حتى لتحس أنه قطعةٌ واحدةٌ، لا تحمل أيَّ شيء يوحي بالتنوُّع، لولا بعض الأجسام الضخمة التي تفرض ضخامتها على مواقع الإحساس، عندما تصطدم بها بطريقةٍ وبأخرى. ويهدأ الكون، لأن الحركة التي يمنحها النور للموجودات قد هدأت، وآنَ للإنسان أن يستريح مــع الكون، ويأخذ لنفسه إغفاءةً هادئةً من أجل أن يكتسب قوّةً جديدةً ليوم عملٍ جديد... وهكذا جعل الله الليل لباساً والنوم سباتاً، كما جعل النهار نشوراً.

* * *

آيتان للتفكر

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} كما هي الظواهر الكونية الآخرى التي يريد الله أن يجعلها منطلقاً للتفكير به، والإيمان بوجوده، نتيجة ما يكتشفه الإنسان فيها من أسرار العظمة ودلائل الحكمة، فيخشع للعظمة القادرة الحكيمة، ويتوازن في حركته أمامها، لتستقيم للكون حكمته بخضوع الإنسان العملي لله، كما استقامت في خضوع الموجودات الكونية، بحركة قوانينها لخالقها العليّ القدير.

{فَمَحَوْنَآ آيَةَ الَّليْلِ} وما يمثله من السواد الحالك المنتشر على سطح هذا الكون، تماماً كما هو السواد على الورق المتأتي مما يكتب عليه من حروف، ويجيء النور ليمحو كل ذلك السواد، لترجع صفحات الكون بيضاء نقيّة لامعة. {وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} من خلال ما يمثله البصر من حركة النور في الأحداق، فكأن النهار هو الذي يبصر، في ما يحتضنه من حركة الشروق التي تمنح العيون معنى الإبصار بما تزيله من غشاوات الليل التي تمنع الرؤية. {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} بما يفتحه الله لكم ـ من خلال النهار ـ من أبواب الرزق في مختلف مجالات الحياة، وذلك هو فضل الله الذي يمنحه لعباده من تهيئة الأسباب الطبيعية لامتداد الحياة واستمرارها في ما تحتاجه من غذاءٍ وشرابٍ وكساءٍ وما إلى ذلك من الشؤون العامة والخاصة.

* * *

التكامل بين الكون والإنسان

{وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وهذه حكمةٌ أخرى يستفيدها الناس من نظام الليل والنهار، فإن كل واحد منهما يمثل فاصلاً زمنياً يحدد للإنسان حجم الزمن، ويجعل له نوعاً من التمايز العددي، الذي يمكن أن تتعدد فيه السنون وغيرها من الأزمنة والأوقات، وبذلك يمكن للناس أن ينظموا حساباتهم في حركة العمر والمواعيد والأوضاع المختلفة في كل شؤون الحياة. وهكذا ينطلق هذا النظام الكوني لينظِّم للناس طريقتهم في الحياة وليحصلوا على منافع كبيرة وخير عظيم. وتلك هي قصة التكامل بين الكون والإنسان، في ما يريد الله أن يسخِّره له من خصائص الوجود التي تنمي له وجوده وتبني له حياته، وما يريد الله منه إلا أن ينسجم في حركته مع حكمة الله في الكون لئلا يفسد نظامه بعبثه وانحرافه وتمرده.

{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} فلم يجعل الله أيّ شيء غامضاً أمام الإنسان، في ما يريد الله أن يقيم الحجة به عليه أو أن يعرفه بوسائله التي أعطاها له، ولم يترك في الوجود شيئاً إلا وأعطاه خصائصه وملامحه المميزة التي يتميز بها عن بقية الأشياء، لتتحقق لكل الأشياء نتائجها الإيجابية أو السلبية من خلال ذلك. وقد أعطى الله للأشياء صفة الوضوح في أوضاعها الكونية، سواء على مستوى الإنسان أو على مستوى الكون، وحث على اكتشاف الأسرار العميقة في الكون، أو المسؤوليات العامة في الشريعة، لأن التفصيل يتمثل في طبيعة الأشياء في حركة الوجود والتشريع، بحيث لو أراد الإنسان أن يعرفها لما وجد هناك مانعاً يمنعه من ذلك، في مقابل الإجمال الذي يتمرد على كل وسائل المعرفة.

وتأتي هذه الآية في سياق الحديث عن الإنسان الذي يريد الله أن يهديه إلى الحياة الأقوم من خلال المنهج الأقوم، ومن خلال ما سخّره له من وسائل الهداية وأسباب الحركة وأجواء التوازن الكوني والعملي.