تفسير القرآن
الإسراء / الآية 15

 الآية 15

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــة

{مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (15).

* * *

معاني المفردات

{تَزِرُ} الوزر: هو الحمل الذي يثقل الإنسان.

* * *

تعميق حس المسؤولية

في هذه الآية ثلاث حقائق قرآنية تتصل بخط المسؤولية في حياة الإنسان.

«الحقيقة الأولى» التي تقررها الفقرة الآتية {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}، وخلاصتها أن الهدى والضلال خطّان فكريّان عمليان يتصلان بالإنسان في النتائج الجيّدة التي يمثلها الهدى، أو في النتائج السيّئة التي يمثلها الضلال، لأن الهدى يربطه بمواقع الخير في الدنيا والآخرة، بينما يؤدّي به الضلال إلى مواقع الشر، أو إلى الابتعاد عن مواقع الخير على الأقل، الأمر الذي يوجب وصول النفع والضرر إليه. أما الله ـ سبحانه ـ فإنه لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضره معصية من عصاه، ولذلك، فإن من المفروض أن يفكر الإنسان في المسألة بطريقةٍ ذاتيةٍ تحسب حساب الربح والخسارة في الحياة من مواقع الذات، كما يفكر بطريقةٍ مبدئيةٍ منطقيةٍ، الأمر الذي يعمق حسّ المسؤولية لديه من أكثر من جانب.

* * *

بين التقاليد الجاهلية والمفهوم الإسلامي

«الحقيقة الثانية» {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقد جاءت كلمة «وزر» في هذه الفقرة على سبيل الكناية عن الخطيئة التي يمارسها الإنسان، أو الخطأ الذي يقوم به، ولا يحمل غيره مسؤولية ذلك أياً كانت صفته أو طبيعة العلاقة التي تربطه به من قرابةٍ وزوجيّةٍ وغيرهما، من دون فرقٍ بين مجازاته في الدنيا، أو في الآخرة.

وقد نستوحي من ذلك انسحاب المبدأ إلى الجانب المعنوي من العلاقات الخاصة والعامة، كما في مسألة الشرف التي قد يراها البعض، ممن يتحركون في أجواء الجاهلية العائلية أو القبلية، خاضعةً في الجانب السلبيّ لانحراف فرد من العائلة أو القبيلة، فإذا أخطأت امرأةٌ مثلاً بعلاقةٍ غير شرعيةٍ كالزنا، فإن أهلها وعائلتها يعتبرون ذلك عاراً عليهم، فيبادرون إلى غسل العار بقتلها، على أساس أنه لا يُغسل إلا بالدم، وقد يتحوّل هذا المفهوم إلى حالةٍ وحشيةٍ، تضغط على المشاعر بطريقةٍ همجيةٍ تؤدي إلى وأد البنات، لأنهم يخافون من العار إذا امتد العمر بالبنت فبلغت سن الشباب، ووقعت أسيرةً لدى الأعداء، فيسيء ذلك إلى شرفهم كما يدَّعون. وقد تنفجر هذه العقدة في المبادرة إلى قتل الفتاة أو المرأة، لمجرّد اتهامها بالزنا، وإن لم يثبت ذلك بطريقةٍ شرعيةٍ.

إلا أن هذا المفهوم الإسلامي المرتكز على خط العدالة، يؤكِّد لنا خطأ هذا السلوك، ويقرّر فردية الشرف، فللمرأة شرفها الشخصي الذي يتعلق بها ولا يمتد إلى غيرها سلباً أو إيجاباً، وللرجل شرفه الشخصي كذلك، على أساس طبيعة السلوك الذاتي الصادر عنهما، ولا علاقة لأحدٍ بالآخر في هذا المجال، ولا فرق في ذلك بين الرّجل والمرأة، بينما نرى المفهوم الجاهلي يفرق بينهما، فيعتبر انحراف المرأة موجباً للعار على الأهل، ولا يرى انحراف الرجل كذلك، لأنه قد يرى في الزنا الذي يمارسه الرجل مظهراً للقوة لا للضعف، لأنه العنصر الفاعل الإيجابي في هذه العملية، أمّا المرأة فتمثل الجانب السلبي الذي يعبّر عن مظهر ضعف وانسحاقٍ للشخصية.

وقد نجد من الضروريّ التأكيد على هذه المسألة في التربية الخلقية للإنسان المسلم، بحيث تتحوّل الحالة الأخلاقية لديه إلى حالةٍ شعوريةٍ وفكرية، فلا يتأثر بما حوله من التقاليد الجاهلية في سلوكه العملي، بل يكون الحكم الشرعي هو الأساس في بناء عاداته وتقاليده الخاصة والعامة، حتى لا يعيش الازدواجية بين ما تفرضه الشريعة من مسؤولياتٍ، وبين ما تفرضه التقاليد من عاداتٍ وانفعالاتٍ، وقد يخضع لضغط التقاليد أكثر مما يخضع لتأثير الشريعة.

* * *

فكرة للتأمل

وقد يثار في هذا المجال الحديث المأثور الذي يقول: «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم»[1].. والكلمة المأثورة عن الإمام علي (ع) في نهج البلاغة: «الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كل داخل في باطل إثمان: إثم العمل به وإثم الرضا به»[2]. فقد يرى فيه البعض انحرافاً عن المفهوم الذي نستوحيه من الآية في فردية المسؤولية، لأن اعتبار الراضي بالظلم أو بالعمل المنحرف شريكاً للظالم والمنحرف، يعني تحمل البريء ذنب المجرم.

ولكن التأمل البسيط في المسألة لا يوحي بذلك، فإن الرضا عبارة عن مشاركة ولو على المستوى النفسي في عملية الظلم، والإسلام يريد اقتلاع الظلم من جذوره الفكرية والشعورية، ما يجعل من الرضا بالظلم جريمة معنوية داخليّة، تشوّه روحية الراضي، وتعده ليكون مشروع ظالم مستقبلي، من خلال ما يمثله الرضا من اعتبار الظلم لديه حالةً طبيعية لا تثير في فكره أية حالة سلبيّة مضادة، بل تثير حالة شعورية إيجابية، الأمر الذي يجعله يمارس الظلم لدى أوّل فرصة للقوّة تمكنه من الظلم، كما أنها تحقق للظالم حمايةً معنويةً تحرس له ظلمه، إذ إنها تحيطه بالمشاعر الحميمة التي تقوي نفسيته وتدعم موقفه. وهذا ما عبر عنه الإمام علي(ع) في نهج البلاغة، حيث قال: «إن ما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضا»[3].

ويقتصر جزاء هؤلاء على العقوبة الإلهية في الآخرة أو في الدنيا، وذلك بما ينزله الله من العذاب عليهم، أو على الرفض المعنوي لهم من قبل الناس، فيذمّونهم على ذلك، ولا يمتد إلى معاملتهم بما يعامل به الظالم من عقوباتٍ جزائيةٍ أو جنائيةٍ، فلا يُقتل الراضي بالقتل كما يقتل القاتل، ولا يرجم أو يجلد الراضي بالزنا كما يحدث للزاني. وهكذا نجد أن الجانب القانوني للمسألة على مستوى الشريعة ينسجم مع خط الآية، فلا يُحاسب الإنسان من ناحيةٍ قانونيةٍ على أفكاره ومشاعره المنحرفة في ما يتصل بالتعاطف مع الانحراف نفسياً من دون أن يشارك فيه، بل يكفي في ذلك الذم المعنوي والإنكار النفسي والفكري.

* * *

انسجام السياسة الإسلامية مع الأخلاق

وفي هذا الجوّ، نريد أن نثير بعض الأوضاع التي دخلت إلى ساحة السلوك العملي للإنسان المسلم، في حركة الواقع السياسي، مما ينحرف عن خط العدالة الذي تقرره هذه الآية. فقد شاع في عصرنا الحاضر خطف إنسانٍ بريءٍ وحجز حريته، لأن شخصاً من طائفة المخطوف الدينية أو من حزبه السياسي قد خطف شخصاً من طائفة هذا الخاطف، كما شاع خطف طائرةٍ تابعةٍ لبلدٍ معينٍ، وحجز ركابها، وتهديدهم بالقتل، أو قتلهم في بعض الحالات، لمجرد أن هذا البلد الذي يملك الطائرة يحتجز بعض أصحاب الخاطف أو محازبيه، أو لأن ذلك يمثل عنصر ضغطٍ على وضعٍ سياسيٍّ معينٍ، أو الإعلان عن حالةٍ سياسيةٍ أو إنسانيةٍ خاصةٍ أو عامّةٍ. وقد أصبح هذا الواقع أسلوباً متبعاً في العمل السياسي، وأداة من أدوات الضغط، حتى أنه اعتبر طابعاً مميزاً ـ في بعض المجالات ـ للعمل الإسلامي، من خلال ما يثيره الإعلام المضاد من حركة الإرهاب الديني كما يسميه في هذا الاتجاه.

بيد أننا نثير هذه المسألة ـ في أجواء هذا المفهوم الإسلامي للعدالة الذي تثيره الآية ـ لنؤكد ضرورة انسجام الأسلوب السياسي للعمل الإسلامي الحركي، مع الخط الأخلاقي للإسلام.

وقد يرى البعض أن مثل هذا الأسلوب يحمل كثيراً من الإيجابيات الواقعية للتحرك الإسلامي ضد الظلم والاستكبار والكفر في خط المواجهة، للتخلص من الضغوط القاسية الصعبة التي يقوم بها الظالمون والكافرون والمستكبرون ضد المستضعفين من المسلمين أو من غيرهم من الشعوب المضطهدة، لأن المسلمين لا يملكون القوّة التي يملكها أولئك، فيضطرون إلى مواجهتهم بما يملكون من عناصر القوّة التي تمثل عناصر ضعف لدى الآخرين، وبذلك يمكن إخضاع المسألة إلى القاعدة الأصولية العقلية، التي تؤكد تقديم المصلحة الأهم على المفسدة التي لا تبلغ درجة الأهمية، فتؤدي إلى تجميد الحكم الشرعي التحريمي لمصلحة الحكم الشرعي المرخَّص، كما ورد في جواز قتل الأسرى المسلمين الذين يتترّس الكفار بهم في الحرب لمنع المسلمين من النصر، أو في جواز الدخول إلى الأرض المغصوبة لإنقاذ غريقٍ أو إطفاء حريقٍ. وعلى ضوء ذلك، فإن المسألة تأخذ بُعدها الشرعي الذي لا يجعل منها عملاً منحرفاً عن خط الشريعة.

إننا قد لا ننكر وجود بعض الإيجابيات في هذه الأمور، ولكننا نواجه كثيراً من السلبيات في مقابل ذلك، مما قد يترك انطباعاً سلبياً على مستوى الدعوة الإسلامية، إذ إنّه يؤدّي إلى تشويه صورة الإسلام لدى الآخرين، أو إلى ردود فعلٍ مضادةٍ على المسلمين في مجالٍ آخر. ولذلك فلا بد من الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات، وعدم اللجوء إلى هذا الأسلوب إلا في الحالات الصعبة جداً التي لا مجال فيها للتخلص من الاضطهاد السياسي إلا بهذه الطريقة، ما يفرض الاحتياط التام والاقتصار على مواطن الضرورة القصوى التي تحمل الأهمية الكبرى التي يصغر أمامها كل شيء، حتى لا يتحول الأمر إلى ما يشبه الأسلوب السياسي العملي للمسلمين.

* * *

العذاب بعد إقامة الحجة

«الحقيقة الثالثة» وتمثلها الفقرة الاتية {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وخلاصتها أن الله لا يعذب أحداً من الناس إلا بعد أن يقيم الحجة عليهم بإرسال الرسل الذين يبلغونهم رسالات الله {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] وهذه قاعدة عامة يؤكدها الحكم العقلي الفطري في القاعدة المعروفة «قبح العقاب بلا بيان». وقد لاحظ البعض أن الآية تتحدث عن حالةٍ تاريخيةٍ في ما كان ينزله الله من عذاب دنيويٍّ على الكافرين به وبرسله، ولا تتحدث عن طبيعة المسألة على سبيل القاعدة الكلية، ولكننا نلاحظ على ذلك أن أسلوب هذه الآية يوحي بأن هذا الأمر مما لا يليق بالله أن يفعله، لأنه لا ينسجم مع عدالته ورحمته، ما يجعل المسألة منطلقة على سبيل القاعدة.

وقد ذكر الأصوليون، بأن بعث الرسول كنايةٌ عن إقامة الحجة في ما تتوقف فيه المعرفة على إرسال الرسول. أما بخصوص ما يستقل به العقل ويتمكن من الوصول إليه بوسائله الخاصة من خلال أدوات المعرفة الحسية أو غيرها، فإن الله يعتبر العقل حجة على الإنسان. وقد ورد في بعض الأحاديث المأثورة أن العقل هو «الرسول الباطني» وأنه «رسول من داخل، كما أن الرسول عقلٌ من خارج».

وعلى هذا الأساس، فإن الذين يتمكنون من البحث والتفتيش عن الحق، ويعرفون اختلاف الناس فيه، لا يكونون معذورين إذا امتنعوا عن الفحص والتعلم وأصروا على العناد في هذا الموقف، لأن قيام الحجة لا يتوقف على الوصول الفعلي، بل يكفي فيه إمكانية الوصول بحيث لو بحث الإنسان عن الحق لوصل إليه، لأن الحقيقة الإلهية في متناول يديه. أما الذين لا يستطيعون تحصيل المعرفة لأنهم لا يملكون وسائلها، أو لم يلتفتوا إليها لأنهم لم يسمعوا بأيِّ مضمونٍ من مضامين الرسالة، كما في الذين يعيشون في مجاهل الدنيا، أما هؤلاء فهم معذورون في عدم الإيمان بالحق بتفاصيله في ما لا يستقل العقل به، أمّا ما يستقل به العقل، كالايمان بالله أو بتوحيده، فلا بد من تحصيل المعرفة به، بتوجيه التفكير إليه، وعدم مواجهته بطريقة اللامبالاة الفكرية.

ـــــــــــــــــــــ

(1) الكليني، الكافي، ج:2، ص:333، رواية:16.

(2) ابن أبي طالب، الإمام علي(ع)، نهج البلاغة، ضبط نصّه: د. صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني، ط:2، 1982م، قصار الحكم: 154، ص:499.

(3) (م.ن)، خطبة: 201، ص:319.