من الآية 18 الى الآية 22
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَّدْحُوراً* وَمَنْ أَرَادَ الآخرةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً* كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاءِ وَهَـؤُلاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً* انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وللآخرة أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً* لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} (18ـ22).
* * *
معاني المفردات
{الْعَـاجِلَةَ}: الدنيا.
{يَصْلاهَا}: يدخلها، أو بمعنى يحترق بنارها.
{مَذْمُوماً}: ملوماً.
{مَّدْحُوراً}: الدحر: الإبعاد.
{مَّخْذُولاً}: أي ليس له من ينصره.
* * *
مصير الإنسان رهن إرادته
وهذا حديثٌ عن تأكيد ارتباط مصير الإنسان بإرادته في مضمونها وحركتها وفي الواقع، بحيث يحدد الله له النتائج السلبية أو الإيجابية في الدنيا والآخرة من خلال طبيعتها، ما يجعل من مسألة الحرية في الاختيار للإنسان، مسألةً تتصل بالمعنى العميق لوجوده.
{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} والظاهر أن المراد بها الدنيا التي تختنق داخلها كل أفكاره وتطلعاته ومشاعره، ولا يفهم للسعادة معنىً إلا ما يتصوره من نعيم السعادة الدنيوية، فلا يفكر ولا يتطلع إلا إلى الطمأنينة وراحة العيش. وهكذا نجده ينظر من هذا المنظار إلى القضايا والغايات والأهداف ويعالج المشاكل والحلول في واقع هذه الحياة، فليست هناك بنظره مشاكل مستقبليةٌ تتجاوز حدود هذه الدنيا من قريبٍ أو من بعيد، فهي البداية وهي النهاية. ولعل التعبير القرآني الوارد في آيةٍ أخرى، يقدم نموذجاً عن ذلك: {وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:176] بما تمثله كلمة الإخلاد إلى الأرض وما تعنيه من الالتصاق بها، والاستسلام لطبيعتها والاستغراق في داخلها، والتحديق في أبعادها، بحيث لا ينظر إلى أيّ أفق آخر بعيداً عنها فهي القيمة وهي المثال في ميزان طموحات الشخصية وخصائصها. إن الإنسان الذي يعيش هذه الروح الغارقة في وحول الأرض لن يخيب أمله في ما يريد، بل سيحقق الله له ما يريده منها تبعاً لمشيئته وحكمته، وهذا ما عبرت عنه الفقرة التالية {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ} فلن يعطيه الله كل ما يريده، بل سيختار له ما يتفق مع طبائع الأشياء وأسبابها دون أن يتجاوز سننه الكونية لمجرد تحقيق رغباته، وقد لا يحقق الله ذلك لكل امرىءٍ، لأن خصائص الواقع الذي يحيط به لا تسمح بذلك.
وقد يتساءل البعض تعليقاً على ذلك: إذا كانت القضية متعلقةً بالأسباب الطبيعية الكامنة في حركة الأشياء، فكيف نفهم نسبة الله التعجيل إلى فعله لبعض الناس دون البعض الآخر؟ ونجيب على ذلك بما أجبنا عنه في أمثاله، بأن إرادة الله للأشياء، لا تعني ـ دائماً ـ مباشرته لها، بل يتحقق ذلك من خلال سننه. ثم لماذا نفكر دائماً باستبعاد علاقته ـ تعالى ـ بالسنن الكونية التي يتحرك ـ من خلالها ـ كل شيء في الكون ما دام الله قد أقام الحياة كلها عليها؟
{ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً}.. وهذا هو جزاء الذي ينكر الله ورسالاته ورسله واليوم الآخر، أو لا يعمل في هذا الخط، بل ينحرف عنه إلى أجواء التمرُّد والعصيان، فقد أقام الله عليه الحجة في ذلك كله، فلا عذر له في ما عمله من شرٍّ أو انتسب إليه من باطلٍ، لهذا سيحترق في نار جهنم وهو مذمومٌ لسوء فعله، ومطرود لانحراف إيمانه.
{وَمَنْ أَرَادَ الآخرةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وهو الذي فهم الحياة الدنيا فهماً عميقاً خاصاً، ينطلق من فهمه لمسألة الإيمان الذي يرى في الدنيا مزرعة الآخرة، فليس المطلوب منه أن يترك طيباتها وشهواتها ولذائذها أو يبتعد عن قضاياها، بل المطلوب منه أن لا يستغرق فيها من خلال هواه، ولكن ينطلق فيها من خلال خوفه مقام ربّه، وملاحظته العلاقة بين الممارسة العملية في الدنيا وبين النتائج السلبية والإيجابية في الآخرة، ليظل في عملية اتصالٍ دائمٍ وثيق بالخط المتوازن من خلال ما يوحي به العقل ويتحرك به المنطق، ما يجعل من الآخرة، التي يتمثل فيها رضوان الله ونعيم الجنة، هدفاً لكل أعمال الدنيا، لتكون دنيا الإنسان الحسيّة، آخرةً بمعنى انطلاقها من رضوان الله. ولكن المسألة ليست إرادةً تعيش في الأعماق، بل هي الإرادة التي تدفع نحو العمل، وتقود إلى الهدف، لتعيش الحركة الفاعلة المتصلة بالخط الذي يربط الدنيا بالآخرة، حيث يتركز الإيمان في عمق الشخصية، لأن السعي إلى الآخرة من خلال طبيعة العمل الصالح الذي ينسجم مع الخط الإيماني، هو الذي يحقق الغاية التي حددها الله، إذ لا بد من أن يكون الساعي إلى الآخرة مؤمناً، لأن المسألة في المفهوم القرآني هي أن يكون الخط العملي منطلقاً من الخط الروحي والخط الفكري الإيماني، ليكون له جذوره الضاربة في أعماق النفس الإنسانية.
* * *
رحمة شاملة
{فَأُولَـئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} فإن الله يشكر للمؤمن الذي يريد الحصول على رضاه في الدنيا والآخرة، ويعمل في سبيل ذلك بكل ما يملكه من جهد وطاقة وإيمان، ويعطيه من فضله ما يريد دون تحديد، لأن الجزاء هنا يلتقي بالعمل، فلا ينقص حجمه عنه، بل قد يزيد عليه، إذ يمنح الله الإنسان فضلاً يضاعف له فيه الثواب العظيم.
{كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاءِ وَهَـؤُلاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ} الذي يمنح عباده العطاء الجزيل الذي يريدونه من شؤون الدنيا والآخرة، وذلك رحمةٌ منه تشمل المؤمن والكافر والمطيع والعاصي، بعيداً عن موضوع الاستحقاق المؤسَّس على قاعدة العمل، لأن رحمته تنطلق من قاعدة التفضُّل التي تحركت الحياة كلها من خلالها، تماماً كما هي الشمس تطلع على البر والفاجر، وكما هو المطر يهطل على الأرض الخصبة والأرض الجديبة، وكما هو الينبوع يتدفّق من طبيعة العطاء في ذاته. إنه العطاء الإلهي الذي يتدفق وينهمر ويمتدّ بالرحمة على أساس الحكمة، ناهيك عن أن الله سبحانه وتعالى يربي عباده بالرحمة في نعمه، كما يربيهم بالنقمة في عذابه.
{وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} في طبيعته، وفي مواقعه لدى الحياة والإنسان.
* * *
كيف نفهم تفضيل الله للناس بعضهم على بعض؟
{انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} في الرزق من خلال الخصائص التي أودعها الله فيهم وميّزهم بها، من قدرةٍ في الفكر والقوّة والحركة والظروف المحيطة بهم، فإن الحياة لا يمكن أن تنمو وتتنوّع وتتطوّر إلا باختلاف مواقع الإنسان وتنوُّع درجاته، لتتكامل في خصائص القوة التي تتوزّع على الأشياء والأشخاص، فيعطي هذا من قوّته للاخر، وتتفاعل خصائص هذا بخصائص ذاك. ومن هنا نستطيع أن نقرر الفكرة التي تقول: إن التفضيل في الدرجات في الحياة لا ينطلق من تفضيلٍ في القيمة، ليعيش الإنسان الذي يملك الدرجة العليا الإحساس بأن ذلك تكريمٌ من الله له، ويعيش الإنسان الذي يقف في الدرجة السفلى الإحساس بأن ذلك تحقيرٌ من الله له، فإن هذا الشعور لدى هذا أو ذاك ليس دقيقاً، فقد يكون صاحب الدرجة السفلى في الرزق أقرب إلى الله من صاحب الدرجة العليا، بل ينطلق التفضيل من الحكمة الإلهية في توزيع حاجات الحياة على الناس والمواقع والأشياء وفق الخصائص الذاتية التي تتميز بها الموجودات. وبذلك يكون حال الإنسان المتميز في النعم التي يغدقها الله عليه، كحال الأرض المتميّزة بالخصب، والشجرة الحافلة بالشهيّ من الثمر. ولو أنّ الله أعطى الناس ما يستحقونه، لاختل نظام الحياة التي لا يمكن أن تجتمع حاجاتها وخصوصياتها في موقعٍ واحدٍ أو في مواقع محدودة، لأن المطلق لا يمكن أن يتحقق في المحدود.
وخلاصة الفكرة، أن التفاضل في درجات الحياة لا يعني إعطاء الامتيازات لأفرادٍ معينين أو جماعاتٍ معينةٍ، بل يعني توزيع الخصائص تبعاً لحاجات الحياة، فهي تابعة لحاجة الواقع، لا لقيمة الذات. وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة التي تعلل التفاضل في الدرجات في بعض مواقعه بقوله تعالى: {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف:32].
* * *
الآخرة أكبر درجات
{وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} لأنها تتميز عن الدنيا بالأجواء الواسعة الممتدّة بما يشبه المطلق الذي جاء في بعض الحديث عن ملامحه في القرآن {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] وفي الحديث المأثور عن الجنة أن فيها «بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»[1]... إنها الموقع الإلهي الذي يتجلى فيه تكريم الله للإنسان المؤمن العامل، جزاءً على إخلاصه في إيمانه وعمله، عندما ينفذ الله وعده للمؤمنين الصالحين بالثواب العظيم.
وإذا كان الأمر يتعلق بتكريم للإنسان، فإن من الطبيعي أن تختلف درجات التكريم تبعاً لاختلاف درجات الإيمان والعمل، لأن {أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7ـ8] مما يوحي بأن الخير هناك تابعٌ لحجم العمل في الكمية والنوعية هنا. وهذا هو الذي تختلف فيه درجات الآخرة عن درجات الدنيا في مقياس التفضيل، فإن التفضيل في الدنيا تابعٌ لحاجات الحياة في عملية توزيع الأرزاق والخصائص على الأشخاص والأشياء، بينما هو في الآخرة تابعٌ لعمل الإنسان المؤمن الذي يستمد قوّته من الرحمة الإلهية في روح الإنسان المؤمن وحياته..
{لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَـهًا آخَرَ} في تصوّرك للألوهية الخالقة القادرة المنعمة الراحمة، وفي تصوراتك العقيدية والفكرية، لأنك لن تجد غيره خالقاً قادراً منعماً رحيماً، فهو الذي أعطى كل شيء خلقه بقدرته، وأفاض عليه كل النعم برحمته، فكل شيء في الوجود مخلوق له، فكيف يكون شريكاً له؟ ولا تجعل معه إلهاً آخر في العبادة والطاعة، فإنه ـ وحده ـ المستحق للعبادة من خلال العبودية الذاتية المطلقة التي يعيش فيها الخلق أمامه. وهكذا يكون التوحيد في العقيدة والعبادة، منسجماً مع الطبيعة الإنسانية في نداء الفطرة الصادر من الأعماق، ودليلاً للعمل في الحياة، فلا تترك السير على هداه {فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} لأنك ابتعدت عن مواقع الرحمة ومنابع النعمة، فتعيش مذموماً، لأنّك أوقعت نفسك في الضياع والضلال، ولأنك فقدت الصلة القوية بالله، عندما انحرفت عن خط الاستقامة في العقيدة والعمل، ففقدت النصير الذي بيده النصر كله وله القوة كلها، ولن تجد من دونه ولياً ولا نصيراً، فتعيش مخذولاً عاجزاً ذليلاً.
ـــــــــــــــــــ
(1) الطوسي، أبو جعفر، محمد بن الحس، تهذيب الأحكام، دار التعارف للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، 1412 هـ ـ 1992م، ج:6، ص:21، باب:7، رواية:7.
تفسير القرآن