تفسير القرآن
الإسراء / من الآية 23 إلى الآية 25

 من الآية 23 الى الآية 25

بسم الله الرحمن الرحيم


الآيـات

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيراً* رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً} (23ـ25).

* * *

معاني المفردات

{تَنْهَرْهُمَا}: تزجرهما بغلظة.

{للأَوَّابِينَ}: الأواب: التواب الراجع عن ذنبه.

* * *

الطاعة لله وحده

وهذا فصلٌ جديدٌ من السورة، يتحرك في خط المنهج الأقوم في المبادىء الأخلاقية العامة التي يريد الله لها أن تحدد للإنسان القاعدة العملية التي تركز شخصيته على أساسٍ ثابتٍ في علاقته بالله وبنفسه وبالآخرين، ليواجه الحياة من خلال حدود الله التي أراد لعباده أن لا يتجاوزوها.

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـاهُ} هذا هو الخط الأول الذي يمثل القاعدة العامة التي تتفرع منها كل الخطوط، وهو توحيد العبادة لله، من خلال ما تمثله من الخضوع والطاعة والاستسلام لأوامره ونواهيه في كل شيء، ومن التمرد على كل الإرادات الأخرى التي تحاول أن تثير في داخله روح الخضوع للطغاة والمستكبرين والشهوات والنزوات التي تجري في حياته مجرى الدم في العروق، وبذلك يواجه الإنسان الأشياء والأعمال والعلاقات من هذا الموقع الذي يضع الحد الفاصل بين طاعة الله ومعصيته، فيتحرك مع الطاعة لله، لأنها التجسيد العملي الحيّ للعبادة، ويتمرّد على معصية الله، لأنها المظهر الواقعي للانحراف عن العبادة التوحيدية.

* * *

مبادىء التعاطي الأخلاقي مع الوالدين

{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وهذا هو الخط العملي الثاني الذي يثير في الإنسان الإحساس به، عندما يستشعر الإحساس بالله، فإذا كان الله هو السبب الأعمق في وجوده، فإن الوالدين يمثلان السبب المباشر لهذا الوجود، وإذا كان الله هو الذي أنعم عليه بكل النعم التي جعلت لحياته قوّةً واستمراراً، فإن الوالدين قد عملا بكل ما لديهما من جهدٍ ومعاناةٍ وتضحيةٍ في سبيل تحريك عناصر الامتداد في عمق وجوده. وهكذا أراد الله للإنسان أن يعي هذه الحقيقة في علاقته بهما، ويوحي لنفسه بالسر العميق الكامن وراء ذلك، والمتجلِّي في ما أودعه الله في قلبيهما من الشعور بالعاطفة والرحمة اللتين تتميزان بالعطاء دون مقابل، فيعانيان الألم والتعب من أجل أن تتكامل حياة ولدهما وتلتذ وترتاح، بكل روحٍ طيّبةٍ معطاء.

وهكذا أراد له أن يحسن إليهما بالكلمة واللمسة واللفتة والحركة، وبالاحتضان الروحي الذي يحسان به عميقاً، كاحتضانهما له في طفولته وما ينطوي عليه من عاطفة وحب وحنان.

{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} فتقدّم السنّ يؤدّي إلى اختلال المزاج وسوء الخلق، وضيق الصدر، ما ينعكس على تصرفاتهما التي تتخذ جانباً سلبياً ضد الناس الذين يعيشون معهما، لا سيما أولادهما الذين يشعرون بالضيق من ذلك، فيحدث ـ بسببه ـ ردّ فعل سلبيٍّ تجاههما، ما يوجب صدور الإساءة منهم إليهما، لأن القوي عادةً يضغط على الضعيف ويؤذيه ويهينه، وبذلك نفهم أن الكبر ليس له خصوصيةٌ في ذاته، بل الخصوصية له بلحاظ ما يستتبعه من تصرفاتٍ تؤدي إلى ردود فعلٍ سلبيةٍ من قبل الولد.

{فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} في عملية رد فعلٍ للشعور بالضيق النفسي من تصرفاتهما، كمظهرٍ من مظاهر التعبير عن الأفعال في أقلِّ نماذجه، فإذا لم يجز ذلك، فلا يجوز ما هو أشد منه، لأن الأساس هو حرمة الإيذاء، فيحرم الأقوى في الإيذاء إذا كان الأضعف محرماً. وقد جاء في كلمات أهل البيت عن الإمام جعفر الصادق(ع) أنه قال: «لو علم الله لفظةً أوجز في ترك عقوق الوالدين من أفّ لأتى بها»[1]. {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} أي لا تغلظ عليهما بالزجر والصوت الشديد القاسي {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} بالكلمة الحلوة اللطيفة التي تحمل الحب والعطف والحنان وتوحي بالانفتاح والاحترام والإعزاز والكرامة والابتسامة المشرقة والنظرة الحنونة.

{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} وذلك يمثل التواضع والخضوع قولاً وفعلاً برَّاً بهما وشفقةً عليهما، كما يخفض الطائر جناحه إذا ضم فرخه إليه، فكأنه ـ سبحانه ـ قال: ضم أبويك إلى نفسك كما كانا يفعلان بك وأنت صغير، وبذلك نفهم كيف لا يريد الله للولد أن يستثير حسّ الكرامة في نفسه تجاه أبويه كما يستثيره تجاه الآخرين، بل لا بد له من أن يشعر بالذل الناشىء من الشعور بالرحمة لهما، لا من الشعور بالانسحاق الذاتي والانحطاط الروحي، كما يخضع الإنسان لمن يحبه حباً له ورحمةً به، فيتحمل منه ما لا يتحمله من غيره، ويتنازل له عمّا لا يتنازل عنه للآخرين، ويعيش العفو والتسامح معه إذا أخطأ. إنها الروح الإنسانية التي تنفتح على مواقع الرحمة، فتهفو وترقّ وتلين وتنساب بالخير والمحبة والسماح، وتعرف كيف تميز بين مشاعر الرحمة ومشاعر الذلّ أمام الآخرين، فتواجه الذين أحسنوا إليها واحتضنوها بالمحبة والرحمة بالشعور الطاهر الخيِّر نفسه، لتستمر حركة الإنسانية نحو العطاء، من خلال مواجهتها بالاعتراف الحيّ بالجميل، بالمشاعر التي تحفظ لها كل ما عملته من الخير.

{وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} ويتحول هذا الشعور بالرحمة إلى استذكار للتاريخ الشخصي لأبويه معه، كيف كانا يتعبان ليرتاح، ويجوعان ليشبع، ويسهران لينام، ويتألمان ليلتذ، ويضحّيان بكل حياتهما من أجل أن يربيا له جسمه وعقله، وكيف كانا يحتضنانه بالعطف والحنان، ويحفظانه من كل سوء، ليأخذ القوة من ذلك كله. وتتجسّد كل هذه الذكريات في عقله ووجدانه وشعوره وحسّه، فتنفتح روحه بالحنان، وهو يشهد هذا الضعف الذي يرزحان تحته ويعانيان منه، ويستذكر أنه كان أحد أسباب ذلك، فيبتهل إلى الله في دعاءٍ خاشعٍ ليرحمهما ويرعاهما ويحفظهما، لأنهما كانا يعيشان الرحمة له، ويعانيان الجهد في تربيته، لأن الله قادرٌ على ما لا يقدر عليه من ذلك، فرحمته تملك خير الدنيا والآخرة، بينما لا يملك ـ هو ـ من ذلك شيئاً.

* * *

حدود طاعة الوالدين

وهكذا نجد أن الله يريد أن يعمِّق الشعور الإنساني في نفس الولد تجاه أبويه بالرحمة والمحبة والإحسان، ليشعرا بأن هذا الجهد الذي بذلاه لم يذهب سدىً، فهناك نوعٌ من التعويض الروحي قد حصلا عليه. وعلى ضوء ذلك، فإن الطاعة التي يريدها الإسلام في طاعة الولد للوالدين، هي طاعة الإحسان والشفقة وليست طاعة المسؤولية من خلال طبيعة المضمون الذي تحتويه أوامرهما ونواهيهما، كما هو الحال في طاعة الله والرسول وأولي الأمر. فلو أمراه بما هو على خلاف المصلحة في دينه أو دنياه، أو بما فيه المفسدة في ذلك، فلا يجب عليه إطاعتهما، ولكن لا بد له من أن يواجه الموقف بكثيرٍ من المرونة في الجوّ والأسلوب عند إرادة المعصية.

* * *

منهج الاجتهاد في القرآن والسنة

وقد يستوحي الإنسان من كثير من النصوص، أن عليه أن يستجيب لهما في الأمور التي يريدانها منه، حتى إذا كانت على خلاف مزاجه، أو على خلاف مصلحته، في ما لا يتضمن ترك واجب أو فعل حرام، كما كانا يفعلان عندما كانا يقدّمان مصلحته على مصلحتهما.. وهذا ورد في كلمات بعض أئمة أهل البيت (ع): «وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل...»[2] ولكن ذلك لا يوحي بالإلزام الشرعي، بل بما يشبه الاعتراف بالجميل في أجواء الاستحباب، انسجاماً مع خط الإحسان الذي اعتبره القرآن عنواناً لعلاقة الولد بوالديه. ولهذا رأى الفقهاء في الحديث النبوي المأثور: «أنت ومالك لأبيك»[3] الذي خاطب به رسول الله(ص) أحد صحابته، تأكيداً لعمق العلاقة، بالمستوى الذي يعيش فيه الشعور بأن وجوده إذا كان منطلقاً في طبيعته من وجود أبيه، فمن الطبيعي أن يكون كل شيء تابعاً له، فلا ينبغي له أن يشعر بالاستقلال في كل شيءٍ، كما هو شأن الفرع مع الأصل. على أن ما ورد ليس شريعةً قانونيةً تستعبد الولد وتجعل ماله ملكاً شخصياً للوالد، لأن أجواء الحديث لا توحي بذلك، كما أن الأسلوب القرآني لا ينسجم معه.

وفي رأينا، أن منهج الاجتهاد الفقهي يرتكز على أساس اعتبار العنوان الموجود في القرآن في بعض الموضوعات قاعدةً للأحكام الشرعية التفصيلية التي تتضمنها السنّة الشريفة، باعتبار أن السنّة جاءت تفصيلاً لما أجمله القرآن وتفريعاً لما فصّله، فهو الذي يعطي الفكرة العامة والعنوان الشامل، وهي التي تحركه في المفردات الجزئية للحياة. ولذا، فإن من المفروض دراسة النص القرآني في مدلوله العام، قبل دراسة السنة في مورده. ونأمل مناقشة هذا المنهج وتفصيله في الدراسات الفقهية الاجتهادية.

* * *

مراقبة الله في النفس والعمل

{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} فهو الذي يعرف من خفاياها ما لا يعلمه الناس، أو ما لا تعلمونه أو لا تلتفتون إليه إلا بعد حين، ولذلك فلا بد لكم من دراسة كل نبضات قلوبكم، وخلجات مشاعركم، ولفتات أعينكم، وخطرات أفكاركم... قبل أن تتحول إلى حركةٍ فاعلةٍ في الداخل، أو إلى جزء من الذات، في ما تمثله من مواقف روحيةٍ وفكريةٍ، لتستريحوا إلى النتائج الإيجابية التي يرضاها الله ويحبّها، فإن العمل يبدأ من الداخل ويتحرك من مواقع الفكرة والشعور فيه، ما يفرض على الإنسان أن يحسب حساب الله في حركة الفكرة في أعماق النفس، قبل أن يحسب حسابه في حركة العمل في الخارج، ليطمئن للاستقامة على الخط قبل أن يبدأ في العمل، ليضمن لنفسه رضوان الله في الآخرة الذي يريده الإنسان في خط الطاعة لله.

{إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ} وذلك لما يمثله الصلاح من إخلاصٍ لله في الروح والفكر والشعور، واستجابةٍ له في الحركة والعمل، لأنه ليس مجرد مظهرٍ يوحي بالخير، بل هو قاعدةٌ تشمل الفكر والروح والشعور والحياة، في النيّة والنبضة واللفتة والكلمة والحركة... {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً} وهم الراجعون إلى الله في ما ينوبهم، أو المطيعون المحسنون، أو الذين يتوبون من ذنوبهم فيرجعون إليه بعد ابتعادهم عنه بالمعصية. هؤلاء الذين يخلصون له في العبودية، وينفتحون عليه في كل شيءٍ، ويلجأون إليه في جميع المشاكل، فيغفر لهم ذنوبهم، ويرضى عنهم، ويتقبلهم بقبولٍ حسن، ويدخلهم جنته، وذلك هو الفوز المبين. وربما كان في الآية نوعٌ من التلميح لما يمكن أن يكون قد صدر من الولد تجاه والديه من إيذاءٍ في القول والفعل فتاب عن ذلك.

ـــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:6، ص:529.

(2) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، دار إحياء التراث العربي، ط:1، 1412هـ ـ 1992م، ج:71، ص:26، باب:2، رواية:2.

(3) (م.ن)، ج:6، ص:69، باب:23، رواية:2.