من الآية 26 الى الآية 30
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً* إِنَّ الْمُبَذرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً* وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً* وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً* إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيراً} (26ـ30).
* * *
معاني المفردات
{تَبْذِيراً}: إسرافاً. قال صاحب مجمع البيان: التبذير: التفريق بالإسراف، وأصله أن يفرّق كما يفرّق البذر، إلا أنه يختص بما يكون على سبيل الإفساد، وما كان على وجه الإصلاح لا يسمى تبذيراً وإن كثر[1].
{تُعْرِضَنَّ}: الإعراض: صرف الوجه عن الشيء، وقد يكون عن قلى، وقد يكون للاشتغال بما هو أولى، وقد يكون للإذلال.
{مَّحْسُوراً}: هو المنقطع به لذهاب ما بيده.
* * *
مناسبة النزول
جاء في الكافي في حديث مرفوع إلى عجلان قال: كنت عند أبي عبد الله (ع) فجاء سائل، فقام إلى مكتل فيه تمر، فملأ يده فناوله ثم جاء آخر فسأله، فقام فأخذ بيده فناوله، ثم جاء آخر فسأله، فقام فأخذ بيده فناوله،َ ثم جاء آخر، فقام فأخذ بيده فناوله، ثم جاء آخر، فقال: الله رازقنا وإيّاك.
ثم قال: إن رسول الله (ص) كان لا يسأله أحد من الدنيا شيئاً إلاّ أعطاه، فأرسلت إليه امرأة ابناً لها، فقالت: فاسأله، فإن قال: ليس عندنا شيء، فقل: أعطني قميصك. قال: فأخذ قميصه فرماه إليه ـ وفي نسخة أخرى: وأعطاه ـ فأدّبه الله تبارك وتعالى على القصد فقال: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً}[2] قال: الإحسار: الفاقة.
وجاء فيه أيضاً حديث مرفوع إلى مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (ع) قال: قال: علّم الله ـ عزّ اسمه ـ نبيه كيف ينفق، وذلك أنه كانت عنده أوقية من الذهب، فكره أن يبيت عنده، فتصدّق بها، فأصبح وليس عنده شيء. وجاء من يسأله، فلم يكن عنده ما يعطيه، فلامه السائل واغتمّ هو، حيثما لم يكن عنده شيء، وكان رحيماً رقيقاً، فأدّب الله ـ عزّ وجلّ ـ نبيّه بأمره فقال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} يقول: إن الناس قد يسألونك ولا يعذرونك، فإذا أعطيت جميع ما عندك من المال كنت قد حسرت من المال[3].
* * *
التكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم
في هذه الآيات حديثٌ عن التوازن في تحريك المال وتوجيهه نحو المواقع التي أراد الله للإنسان أن ينفقه فيها، وتخطيطٌ للأسلوب الأخلاقي الذي يواجه به الإنسان الحالات الصعبة لبعض الناس المحتاجين للعون من دون أن يستطيع القيام بأيّ شيء تجاهها، ليعيش المشاركة الشعورية حيث لا يملك المشاركة بالمساعدة المالية.
{وآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} في ما فرضه الله له من الحق، أو ما تقتضيه طبيعة العلاقة الخاصة من حق طبيعي. والمراد بذي القربى ـ على ما يبدو ـ الذي يرتبط بالإنسان برابطة القرابة التي تفرض حقوقاً واجبة تجاه بعض الأقرباء كالأبوين والأولاد، أو حقوقاً مستحبة كصلة الرّحم بين الأقرباء. وهناك تفسير آخر ذهب إليه السدي، وهو أن المراد به قرابة الرسول (ص)، وذلك لما روي عن الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) (ع)، أنه قال لرجل من أهل الشام، حين بعث به(ع) عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: أما قرأت {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}؟ قال: وإنكم ذوو القربى الذين أمر الله أن يؤتى حقه؟ قال: نعم. وهو الذي روي عن الإمامين الباقر والصادق(ع)[4]. {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} من خلال ما فرضه الله لهما من الزكاة وغيرها.
وهكذا تؤكد هذه الفقرة على العطاء الذي يحقّق غايتين إنسانيتين في شخصية المعطي، من حيث انفتاح روحه على مشاكل الآخرين، وتفاعله معهم، ما يساهم في تنمية المشاعر الروحية الطاهرة، وامتداد مسؤوليته في حياة الإنسان المحروم، وفي حياة هؤلاء الذين يرزحون تحت ضغط الحاجات الحياتية، إذ عندما يعيشون روح المشاركة الإنسانية من إخوانهم، يشعرون بالثقة في مواجهة مشاكل الحاجة، ويحسون بالطمأنينة النفسية أمام كل حالات القلق والخوف من المجهول. وهكذا يركز التشريع الإسلامي قاعدة التكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم، من موقع المفهوم الإسلامي الذي يفرض العطاء كمسؤوليّة، ويؤكد على الإحسان كحالةٍ روحيةٍ إنسانيةٍ في أجواء الآخرة بعيداً عن الشعور بالشفقة المذلّة التي ترهق كرامة الإنسان.
* * *
التبذير نهج غير إسلامي
{وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} التبذير يمثل نوعاً من صرف المال بطريقة غير متوازنة في الكمّ والنوع، بحيث لا يستفيد منه الإنسان، على مستوى النتائج، بشكل طبيعي، بل قد يؤدي إلى لونٍ من ألوان فقدان التوازن الفكري والعملي في وظيفة المال في الحياة، التي تتلخّص في تلبية حاجات الإنسان العامة والخاصة بحجمها المحدود، دون أية زيادةٍ مفرطةٍ، وبذلك يمثل التبذير المالي حالةً مزاجيةً تنطلق من الهوى النفسي الخاضع لبعض المؤثرات الذاتية المرضية التي تلتقي بالفساد والإفساد بعيداً عن أية مصلحة معقولة للحياة.
ومن خلال هذا التفسير للتبذير، نعرف أن طبيعته تلتقي بالصرف اللاّمسؤول الذي يعني العبث بالمال والانحراف به عن دوره الوظيفي في حياة الإنسان، فيشمل ـ من حيث الإيحاء ـ إنفاق المال في غير حقه وإن كان قليلاً، ولا يشمل إنفاق جميع ماله في الحق، لأن خسرانه لماله يتضمن تعويضاً مماثلاً من خلال ما حصل عليه من منفعة للحق وللإنسان.
وهذا ما يريد الإسلام للإنسان أن يمتنع عنه، لأنه يؤكد على عدم ذهاب شيءٍ في الحياة بدون مقابلٍ، وهو ما يمثل مصلحة للحياة.
{إِنَّ الْمُبَذرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّياطِين} لأنهم يلتقون بهم في الأساس الذي يرتكز عليه سلوكهم من اتباع الهوى ورفض العقل، في ما يحركونه من طاقاتهم، وما يخضعون له من شهواتهم، الأمر الذي يبعدهم عن الله، بابتعادهم عن خط الإيمان به وبتوحيده والاعتراف برسله ورسالاته، وهذا ما يريدهم الشيطان أن يثيروه كخطٍ شاملٍ لكل جوانب الحياة عندهم. {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} فهو يتحرك في مسار التمرد على الله، وجحود نعمه، والانحراف بالإنسان عن خط الالتزام العملي بطاعة الله... وهكذا يريد الله أن يوحي بأن الانحراف العملي في أيّ موردٍ من الموارد حتَّى المالية، يمثل انحرافاً عن خط الإيمان، وليس مجرد حالةٍ جزئيةٍ ٍطارئةٍ، فهناك في السلوك العملي خطان: خط الله، وخط الشيطان، فإذا ابتعد عن خط الله، ارتبط بخط الشيطان، الأمر الذي يفرض على الإنسان المؤمن التدقيق في خطواته العملية، ليعرف إلى أيّ الخطين تنتمي من خلال المدلول الإيماني للعمل، وما يتضمنه من نقاط القوة والضعف.
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} بحيث لا تنفق عليهم لأنك لا تملك مالاً تستطيع أن تقدمه إليهم، ولأنك تنتظر رزقاً يمكنك من ذلك {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} ليناً لطيفاً، تفتح فيه قلوبهم على المستقبل الذي يعدهم بالخير، وقد روي أن رسول الله (ص) كان لما نزلت هذه الآية إذا سُئل ولم يكن عنده ما يعطي قال: يرزقنا الله وإياكم من فضله[5].
{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} وهذا هو خط التوازن في الإنفاق، فلا يريد الله للإنسان أن يمنع عطاءه بحيث لا ينفق من ماله شيئاً، كمن تكون يده مقيدةً إلى عنقه، فلا ينزل منها شيء لعدم قدرته على الإعطاء والبذل، وهذا على سبيل المبالغة في النهي عن البخل والإمساك، {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} بحيث تعطي كل ما لديك فتكون بمنزلة من بسط يده كل البسط، ولم يبق له منه شيء ليحتفظ به للمستقبل، {فَتَقْعُدَ مَلُوماً} تعيش التأنيب النفسي، إذ تلومك نفسك لأنك لم تبق لها بقيّةً من مال يحفظ لحياتك عزتها وكرامتها، {مَّحْسُوراً } تواجه الناس من موقع الحاجة التي قد تنتهي بك إلى مشاكل مادية ومعنوية في حركة حياتك مع الناس.
* * *
بين التوازن في الإنفاق ومبدأ الإيثار
وربما يثار هنا سؤال، وهو كيف نوفق بين هذا المبدأ الذي لا يسمح للإنسان ببذل كل ما عنده، وبين الإيثار الذي يتحدث عنه القرآن كقيمةٍ إنسانيةٍ روحية؟ والجواب، أن هذا المبدأ يرتكز على أساس التأكيد على التوازن في العطاء، بحيث يبقى لديه بقيّةٌ يستطيع من خلالها أن ينفع نفسه وينفع الآخرين بتحريكها وتنميتها من جديد، بينما يرتكز الإيثار على جانب تقديم منفعة الآخرين على منفعة نفسه، فإذا كان محتاجاً إلى شيء، فإنه يتنازل عنه إذا طلبه منه الناس الذين يحتاجون إليه حتّى ولو كان هذا الشيء هو كل ما عنده، فلكل مبدأ مجالٌ يختلف عن الآخر في مدلوله ومعناه {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} فيبقى العطاء متوازناً بين البسط والإمساك، لتتوازن الحياة من خلال ذلك تبعاً لما يصلح أمر الناس في دنياهم {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} بما يحتاجون إليه، فيعطي من يشاء، ويمنع من يشاء في ذلك، ولكنه لا يعطي كل العطاء ولا يمنع كل المنع.
ـــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج :6، ص:530.
(2) الكافي، ج:4، ص:55، رواية:7.
(3) الكافي، ج:5، ص:65، رواية:1.
(4) مجمع البيان، ج:6، ص:531.
(5) مجمع البيان، ج:6، ص:532.
تفسير القرآن