تفسير القرآن
الإسراء / الآية 31

 الآية 31

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــة

{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (31).

* * *

معاني المفردات

{خَشْيَةَ}: خوف.

{إِمْلاقٍ}: افتقار.

* * *

مخاوف وهميـة

ربما تحدث الجريمة في حياة الإنسان، انطلاقاً من ضعف الإيمان بالله وبقدرته على حل مشكلته المحدودة التي تعيش في حياته، كمن ينتحر بسبب أزمةٍ خانقةٍ تقوده إلى اليأس، في الوقت الذي يمكن له أن ينفتح على آفاق الأمل من مواقع الثقة بالله الذي لا يعجزه شيء، أو كمن يبخل بالمال ويمتنع عن العطاء خوفاً من الفقر، غير ملتفت إلى أن الله الذي أعطاه بالأمس يمكن أن يعطيه اليوم وغداً، فإن خزائنه لا تنفد، وعطاءه لا ينقطع. وهكذا يريد الله أن يعمّق في داخل الإنسان الإحساس بحضور الله في حياته ورعايته له في جميع أموره، في كل وقت. وهذا ما عالجت الآية بعض مفرداته.

{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} فقد تعتقدون أن كثرة الأولاد قد تؤدي بكم إلى الفاقة التي توقعكم في مشاكل كثيرة، فتسيء إلى عزتكم وكرامتكم، وتمنعكم من كثير من طيبات الحياة، ولكن هذا الاعتقاد ليس متناسباً مع عقيدة المؤمن بالله الذي يرزق عباده من فضله، فهو الذي يتكفل الآباء والأولاد، لأن الله لم يجعل رزق الأولاد على الآباء من ناحيةٍ تكوينيةٍ، بل تكفل برزق الجميع، فإذا فكر هؤلاء الآباء في مصدر الرزق الذي يأتيهم ليقوموا بتدبير أمورهم، فعليهم أن يفكروا أنه هو المصدر الذي يمد أولادهم بالرزق. { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} لأننا لم نخلق مخلوقاً إلا وتكفّلنا برزقه، فلا يدفعكم الشيطان إلى قتلهم خوفاً من الفقر، انطلاقاً من هذه الأفكار التي تبعدكم عن خط الإيمان بالله والثقة بقدرته على كل شيء.

{إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} لأنه لا ينسجم مع احترام إنسانية الولد وضعفه، من خلال مخاوف وهمية لا تبرر ذلك، ما يجعل من قتله جريمةً لا يغفرها الله. وقد أريد من الخطأ هنا ما يرادف الخطيئة التي يتعمّدها الإنسان من دون مبرّر، وذلك مقابل الصواب، على أساس التفسير الذي ذكره اللغويون للخطأ في بعض معانيه، وهو أن تريد ما لا يحسن إرادته وفعله، لا الخطأ الذي يقصد منه ما لا يتعمّد الإنسان فعله.

* * *

تنظيم النسل والظروف الطارئة

وقد نستوحي من ذلك رفض الإسلام للروحية التي تدفع بعض الناس إلى تحديد النسل، بالامتناع عن إنجاب الأولاد ببعض الوسائل المانعة من ذلك، كالعزل ونحوه، وذلك بتأثير الخوف من أعباء الحياة التي قد تثقل الآباء وتقودهم إلى الفاقة وتحمّلهم الجهد والعناء، فقد لا يكون ما يقومون به خطيئةً لأنه لا يتضمن قتلاً للحياة، بل يتضمّن منعاً لها من أن تتحقق. ولكن الفكرة التي تدفع إلى ذلك، لا تتفق مع خط الإيمان بالله والثقة به والتوكُّل عليه في ما يرجع فيه الأمر إليه، لكن هذا الفهم لا يعني إغلاقاً لمبدأ تنظيم النسل على أساس بعض المبررات الصحية والتربوية والاجتماعية، لأن الاجتهادات الإنسانية لا تمنعه، مع مراعاة بعض التحفظات في بعض الوسائل، كالإجهاض والتعقيم، بل كل ما نريده، هو العمل على التوفيق بين الخط الإيماني للإسلام، في وعي الإنسان المسلم، وبين الجانب الشعوري الذي يحرك الجانب العملي له، ليتوازن الإحساس مع الفكر والإيمان.

وقد نستوحي من ذلك أن الله قد أودع في الأرض الثروات التي تكفي الإنسان في حاجاته الطبيعية، وهيّأ له الوسائل التي يتمكن من خلالها تحريك هذه الثروات لتوفير تلك الحاجات، كما أوجد الأوضاع الكونية والاجتماعية التي تحقق التوازن في عدد أفراد الإنسان، بالمستوى الذي لا تتحول فيه الكثرة إلى حالةٍ جنونيّةٍ تحوّل الحياة إلى مشكلةٍ لا تطاق.

ولكن الإنسان قد يتصرف في مثل هذه الأمور بطريقةٍ سيئةٍ، في الإنتاج والتوزيع، وفي إدارة شؤون الحياة، ما يؤدي إلى إهدار كثيرٍ من الطاقات وصرفها في غير مصلحة الناس، كما نلاحظه في الأموال التي تصرف على إنتاج الأسلحة المدمّرة، وعلى بعض المشاريع العلمية التي قد تؤثر على الحاجات الضرورية للحياة الإنسانية. وبذلك لا تكون المشكلة فقدان الموارد الطبيعية الكافية للإنسان، بل في توجيهها إلى غير وجهتها الحقيقية.

وربما احتاج الإنسان في ظل الظروف الطارئة إلى نوعٍ من تنظيم النسل لتحقيق بعض الأهداف المرحلية لمصلحة الحياة من حوله، أو لتأكيد بعض مواضع القوّة للإسلام وللمسلمين، ولكن ذلك لا يعتبر حالةً طبيعيّةً شاملةً، بل يبقى في حجم المرحلة من حيث الكمية والنوعية، تماماً كما هي العناوين الثانوية التي تجمّد الحكم الشرعي في نطاق الظروف الطارئة التي تتحرك فيها تلك العناوين.

* * *

هل الآية تشير إلى وأد البنات؟

وقد حاول بعض المفسرين أن يجعل النهي في الآية عن قتل الأولاد، إشارةً إلى وأد البنات الذي كان معروفاً في الجزيرة العربية. وهذا ما ذكره الزمخشري في تفسير الكشاف حيث قال: «قتلهم أولادهم هو وأدهم بناتهم، كانوا يئدونهن خشية الفاقة، وهي الإملاق، فنهاهم الله وضمن لهم أرزاقهم»[1].

ولكننا نلاحظ أن الآيات التي تعرضت لوأد البنات كانت تعالج المسألة من ناحية خوف العار الذي قد يحدث للآباء كنتيجةٍ لوقوع الأنثى في الأسر أثناء حروبهم، لا من جهة خوف الفاقة، وهو ما نستوحيه من الآية الشريفة {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ* يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58 ـ 59] هذا مع ملاحظة أن هذه الآية ذكرت الأولاد بشكل عام ولم تخصص المورد بالأنثى، ما يدل على أن الآية تتجه اتجاهاً آخر، يختلف عن طبيعة التفسير المذكور، لأن طبيعة خوف الفقر مما يشترك فيه الذكر والأنثى في مسؤولية الآباء عن إعالتهم. وربما يقال: إن الذكر لا يمثل مشكلةً صعبةً بالنسبة إلى الأب، لأنه يمثل عنصراً إنتاجياً من جهة، وقوةً دفاعيةً عن العائلة أو القبيلة من جهة أخرى، بينما لا تملك الأنثى هذه الميزة، بل هي عنصرٌ سلبيٌّ من الجهتين. ولكن هذا القول بسلبية العنصر الإنتاجي لدى المرأة غير دقيق، لأنها كانت تساعد في الإنتاج الزراعي والحيواني، بالإضافة إلى الخدمات التي توفرها للعائلة، مما لا يقوم به الرجل، ولا تتسع ميزانية أيّ أب لتوفيره بالأجرة، الأمر الذي لا يجعل من الأنثى مشكلة في هذا الجانب، بل قد يكون وجودها حلاً لكثير من المشاكل، فيتعين أن لا تكون الآية هنا قريبةً من أجواء وأد البنات، وهناك ملاحظة أخرى، وهي أن الآية تعالج المرحلة الزمنية التي يكون فيها الولد عيالاً على الأب مما يثقل أوضاعه المادية، ولا تعالج المسألة في امتدادها المستقبلي عندما يتحول الولد إلى عنصر إنتاج، والله العالم.

ـــــــــــــــــ

(1) الزمخشري، أبو القاسم، محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر، ج:2، ص:447.