تفسير القرآن
الإسراء / الآية 32

 الآية 32

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــة

{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} (32).

* * *

معاني المفردات

{فَاحِشَةً}: ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال.

{وَسَآءَ}: بئس.

* * *

ولا تقربوا الزنا

وهذا أحد الخطوط القرآنية التي تريد أن تحدد للإنسان مسيرته في نطاق العلاقات الإنسانية، وهو الخط الذي يضع له الحدود في دائرة العلاقة الجنسية، فلا يرخص له القيام بأيّة ممارسةٍ جنسيةٍ خارج نطاق الزواج، لأن ذلك يمثل الفاحشة التي تسيء إلى عنصر الطهارة لدى الإنسان، فتلوّث روحه وتنحرف به عن الاتجاه السليم، بما لا ينسجم مع مصلحة الإنسان في نظام حياته. فالله لم يرد للإنسان أن يعيش الغريزة الجنسية بشكل فوضويٍّ، كما لو كانت استجابةً سريعةً لحالةً طارئةً في حجم اللحظة التي سرعان ما تأتي وتذهب من دون أن تتعمق في حياته، بل أراد له أن يعيشها في عمق المعنى الإنساني للعلاقات، بحيث يشعر معها بالهدوء والاستقرار والطمأنينة، وتمتزج فيها المادة بالروح، وتحقق له نوعاً من النظام المتوازن الذي تتحرك فيه هذه العلاقة، إذ في الوقت الذي تُشْبَع الغريزة في جوٍّ نفسيٍّ هادىء مستقر تغمره المودة والرحمة، يبدأ مجتمعٌ صغيرٌ بالتشكل انطلاقاً من علاقةٍ روحيةٍ وجسدية تلتقي فيها الزوجية بالأمومة والأبوّة، لإنشاء نظام الأسرة الذي يجد فيه الجميع المحضن الذي يرعى العاطفة وينمّي الحنان ويوحي بالترابط الإنساني في نطاق المحبة، ويتحرك ـ بالتالي ـ في اتجاه التأكيد على المسؤولية التي تتوزع على الجميع، ليمارس كل فردٍ فيها دوره في حركة الحياة، لتكون بمثابة المدرسة الأولى في حمل المسؤولية العامة، من خلال التدريب على ممارستها في الإطار الخاص.

* * *

هن لباس لكم وأنتم لباس لهن

إن الزواج ـ في الإسلام ـ ليس مجرد شركة حياةٍ تعاقديةٍ، بل يمثل وحدة حياةٍ روحية ومادية، وذلك ما عبرت عنه الآية الكريمة {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة:187]. وهذا ما أراد الإسلام أن يبني الحياة الاجتماعية عليه. وفي هذا المجال جعل نداء الغريزة الذي يصرخ في جسد المرأة والرجل، بمثابة القوة التي تدفع الإنسان إلى الاتصال بالآخر، فتدعوه إلى تعميق الصلة به وتوثيقها برباط وثيق، ليعيش الخفقة واللهفة مع اللذة، ولتستمر معه الحياة حلوةً رقيقةً منفتحةً، فلا تعود الغريزة في حاجة الجسد خاضعةً للّحظة، بل تتحول إلى حركة حياةٍ، فيها من العاطفة الشيء الكثير، ومن المسؤولية والواقعية الأثر الكبير، فتبعد الغريزة عن واجهة اهتمام الإنسان كقاعدةٍ للحياة، وتغدو مجرد حاجةٍ طبيعيةٍ إلى جانب الحاجات الطبيعية الأخرى، وتتحرك سائر الاهتمامات في أجواء المسؤولية في حركة الواقع، وبذلك تنعدم الحالة الخيالية، لتفسح المجال للحالة الواقعية في التصور النفسي لنداء الغريزة. وقد جاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين(ع)، أنه كان جالساً بين أصحابه، إذ مرت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال(ع): "إن أبصار هذه الفحول طوامحُ وإن ذلك سبب هَبَابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله فإنما هي امرأة كامرأته"[1].

وهكذا أراد الإمام اعتبار الجنس حاجةً طبيعيةً يمارسها الإنسان في الدائرة المشروعة، بعيداً عن التصورات الخيالية التي قد تثيره في أجواء سحريٍة آتيةٍ من جنان الأحلام السعيدة.

* * *

الزواج والزنا في ضوء السلبيات والإيجابيات

وفي ضوء ذلك، كان الزنا انحرافاً عن هذا الخط المستقيم، الذي يحقق للإنسان حاجة غريزته داخل نظام الأسرة، وسبباً في إثارة الأجواء السلبية التي تبعث الاهتزاز في عواطف الإنسان، وتثير القلق في أوضاعه العامة، وتخلق له الكثير من العقد النفسية عندما يواجه الموقف الحائر بين حاجة الغريزة إلى الإشباع وبين حاجته إلى الاستقرار، وهو إلى جانب ذلك يثير الفوضى في الأنساب، ويهدّم الأسرة، فتفقد التماسك العاطفي، والفيض الروحي، والجوّ الحميم الذي يشعر فيه أفرادها بأنهم يعيشون في وحدة روحية، تقوم على أساس التكافل والتعاطف والشعور بالمسؤولية ووحدة المسير نحو المستقبل بتعاون يرتكز على قواعد ثابتة.

إن علاقة الزواج التي يعتبرها الإسلام المنفذ الوحيد لإشباع نداء الغريزة، قد تشتمل على سلبيّات عاطفية أو قيود حياتية على مستوى الفرد والمجتمع، وقد تؤدي إلى مشاكل معقدة في حياة الزوجين، ولكننا إذا درسنا الإيجابيات التي حققها الزواج على مستوى حركة التاريخ، فإننا سنجد نظاماً إنسانياً شاملاً، استطاع أن يحقق كثيراً من التوازن والاستقرار والطمأنينة في حياة الإنسان، بالرغم من اختلاف أوضاعه وتشريعاته وتقاليده تبعاً لاختلاف الشعوب البدائية والمتحضرة في ممارستها له. وإذا كان الزواج على المدى التاريخي قد سبب ظلماً على الزوج أو الزوجة أو لم يسبب، فقد أنتج نظاماً للعلاقات الإنسانية الأسرية المتنوعة في وحدتها، وتمكن من إيجاد نموذج حيٍّ متحرك للعلاقات الأخرى في الدائرة الاجتماعية الواسعة، لا سيما وأن الفرد إذا اعتاد على ممارسة المسؤولية في نطاق الأجواء الحميمة والمشاعر الطاهرة، كان ذلك وسيلةً من وسائل امتداد هذا الجو في حياته العامة.

وإذا كان للزنا بعض إيجابياته القائمة على الاستجابة للنوازع العاطفية والمشاعر الملتهبة والجوع الغريزي الذي قد يجد الإشباع في جهة دون أخرى، والانسجام مع الأجواء الحالمة التي يثيرها الجمال الجسدي أو التناغم الروحي، فإنّ السلبيات التي تترتب عليه لا تقف عند حدّ، لما يثيره من المشاكل والتعقيدات والحرمان العاطفي والقلق الروحي، لا سيما بالنسبة للمرأة التي تميل بطبيعتها إلى الاستقرار الجسدي والعاطفي، والتي قد تفقد إنسانيتها أمام الصورة التي تعيش في خيال الرجل عنها، من اعتبارها وسيلةً للمتعة، بعيداً عن أيّة مراعاةٍ للخصائص الإنسانية التي تجعل منها إنساناً يفكر ويعمل ويتحرك في بناء الحياة.

وإذا أردنا أن ندخل في المقارنة بين السلبيات والإيجابيات، فسنجد إيجابيات الزواج تتفوق كثيراً على إيجابيات الزنا، بينما تتقدم سلبيات الزنا على سلبيات الزواج، وإذا كان الإنسان لا يستطيع الوصول إلى نظام لا سلبيات فيه، نظراً إلى محدودية الواقع الذي يتحرك فيه من حيث الشخص والساحة والأدوات والأجواء، فمن البديهي أن يختار النظام الذي يكون نفعه أكثر من ضرره، لتستقيم له حياته في الطريق الأقوم في اتجاه التكامل والتوازن والاستقامة.

ــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الكشاف،ج:2، ص:447.