الآية 34
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــة
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (34).
* * *
معاني المفردات
{وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ}: أتموا العهد ولا تنقضوا حفظه.
* * *
التشريع يحمي الضعيف من كل اعتداء
لليتيم حرمته في الإسلام، لأنه يمثل الوجود الإنساني الطفوليّ الضعيف الذي لا يملك ـ بحسب طبيعته ـ أيّ لون من ألوان الحماية من الاعتداءات على نفسه وماله، ما يفرض على الناس ـ من وجهة نظر التّشريع الإسلامي ـ أن يتحملوا مسؤولية حمايته من كل معتد، كما يفرض على التشريع أن يؤكد على خطورة المسألة في وعي الناس من حيث نتائجها السلبيّة على مستوى الآخرة، إذا أهملوا أمره أو تصرفوا معه تصرفاً غير شرعيٍّ، أو من حيث نتائجها الإيجابية، فيما إذا قاموا برعايته وخدمته واحتضانه بالعطف والرحمة، لأن ذلك هو الخط الإسلامي العام الذي يستهدف حماية الضعيف وتقويته وحفظه من كل اعتداء، فإن الله لا يريد ظلم أحد، على أساس حالة الاستضعاف التي يحس بها الضعيف في نفسه، أو يفرضها القويّ عليه، في المجالات التي لا يستطيع معها الدفاع عن نفسه.
* * *
خطوات التشريع في حماية اليتيم
وقد جاءت هذه الآية لتحدد الخط المستقيم في طريقة التصرُّف في مال اليتيم من أجل حمايته.
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ} أي لا تتصرفوا فيه بأيِّ نحو من أنحاء التصرفات العملية والقانونية، وذلك على سبيل الكناية، في التأكيد على المنع عن التصرف، بالتركيز على المنع عن القرب منه {إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وذلك في الموارد التي تشتمل على المصلحة له، في تنمية ماله وتحريكه بالطريقة المثلى التي تحفظه وتصونه من الضياع، مع ملاحظة التحفظات الشرعية التفصيلية في هذا الجانب من حيث شخصية المتصرف بأن يكون وليّاً خاصاً، أو عاماً عند فقدان الولي الخاص، من المجتهد العادل أو عدول المؤمنين، ومن حيث طبيعة التصرف في أنواعه، مما تعرّض له الفقهاء في كتب الفقه، فلتراجع هناك. والظاهر أن المقصود بالأحسن، هو الأفضل من عدمه، لا الأعلى على جميع المستويات، لأن ذلك ليس بمقصود، على الظاهر.
{حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي يبلغ سن البلوغ والرشد، باعتبارها السن التي يشتد بها عوده، ويقوى فيها جسده، فإذا بلغ هذه السن، فيجب أن يسلّم إليه ماله، لأنه هو صاحب السلطة الوحيد على ماله، بعد ارتفاع المانع الذي كان يمنعه من التصرف فيه من ناحية تشريعية، وذلك بارتفاع اليتم عنه، لأن المصطلح الشرعي لليتيم يُراد به الذي لم يبلغ الحلم، فإذا بلغ الحلم فلا يُتم. وعند ذلك تنتهي مسؤولية الآخرين تجاهه بصفته يتيماً، لتبدأ مسؤوليتهم عنه بصفته إنساناً ضعيفاً في مجالات الضعف الأخرى، كما تبدأ مسؤوليته تجاه نفسه وتجاه الآخرين.
* * *
الوفاء بالعهد وحفظ النظام الاجتماعي
{وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} وهو الالتزام الذي يُلزم به الإنسان نفسه، من خلال مبادرة ذاتية، أو بالتزامه برسالة أو منهج يلزمه بذلك، فيشمل العهود التعاقدية في المعاملات المالية، أو في العلاقات الإنسانية، أو في المعاهدات الدولية، أو في المسؤوليات الشرعية التي تمثل عهداً يتحرك في خط الإيمان الذي يفرض على المؤمن الالتزام بأوامر الله ونواهيه ونحو ذلك.
إن الآية تؤكد على وجوب الوفاء بالعهد، لأن الله يريد للإنسان أن يحترم كلمته والتزاماته، ويحترم الآخرين الذين يرتبط بهم بميثاق معيّنٍ يتعلق بالجانب الاجتماعي التنظيمي للحياة، في الدوائر الخاصة والعامة للناس.
وهذا خطٌّ إسلاميٌّ عام، يُراد ـ من خلاله ـ حفظ النظام الاجتماعي للناس، وذلك بالتأكيد على عنصر الثقة فيه، من خلال ما يفرضه من الالتزام بالعهود والمواثيق، التي تدفع إلى الشعور بالطمأنينة والاستقرار النفسي والعملي، في ما يخطط الإنسان لحركته ولحركة الناس من حوله، ممن تتصل بهم مسؤوليته على أكثر من صعيد، فيطمئن لما أخذه من الآخرين في مستوى حركة العلاقات، ويرتاح للمستقبل لاعتقاده بإخلاصهم لكلماتهم والتزاماتهم، الأمر الذي يمنح الساحة القوّة والثقة والثبات.
{إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} إنّ الله يسأل عباده عن العهد كيف أعطوه، وما يشتمل عليه من مضمونٍ شرعيٍ أو غير شرعيٍ، وكيف حافظوا عليه بالوفاء به، فيما إذا كان يملك شرعية المضمون، لأن الله يريد للإنسان أن لا يلزم نفسه بأمر إلا إذا كان منسجماً مع خط الإيمان ومدلوله، فإذا التزم بعهد غير شرعي، فلا يجوز له الوفاء به، لأن قضية الوفاء تتحرك في خطين: مسؤولية الإنسان أمام الإنسان الآخر، ومسؤولية الإنسان أمام الله، في ما يجب عليه، وما لا يجب أو لا يجوز، كما إذا كان التزاماً بفعل حرام، أو خيانة الدين أو الأمة. وهكذا جاءت الآية لتحدد للإنسان مسؤوليته عن العهد، وذلك بطريق حذف كلمة «عنه» التي تتعلق بها كلمة المسؤولية. وربما كانت على سبيل الكناية، باعتبار أن العهد يمثل الكلمة المسؤولة التي يجب أن تدافع عن نفسها في موقع الالتزام والحركة، من خلال ما تمثله من شخصية قائلها. وقد يقال ـ في هذا المجال ـ إن الإنسان كلمةٌ وعهدٌ والتزامٌ.
تفسير القرآن