تفسير القرآن
الإسراء / الآية 36

 الآية 36

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــة

{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (36).

* * *

معاني المفردات

{تَقْفُ}: القفو: اتّباع الأثر.

* * *

القرآن يدعو للأخذ بأسباب العلم

وهذه قاعدةٌ قرآنيةٌ في منهج المعرفة الذي يكون أساساً للإيمان والعمل، في المجال السلبي الذي يتحوَّل إلى المجال الإيجابي، وذلك بالابتعاد عن المجال الأول. وقد أكّد القرآن عليها في أكثر من آيةٍ، وواجه الكافرين والمنحرفين بالمسؤولية، من خلال انحرافهم عنها في ما ادّعوه من إيمان، وفي ما أثاروه من حركة، أو قاموا به من مشاريع، لأنهم لم يأخذوا بالوسائل المشروعة للمعرفة، بل ارتكزوا على ما لا قيمة له في حساب المسؤولية.

{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا تتّبع في قولك أو عقيدتك أو عملك ما لم ترتكز فيه على أساس من علمٍ يتمثل بالحجّة التي تكشف الحقيقة، وتجلو الغموض، وتثبت الفكر، وتؤدي إلى الإيمان المستقر الثابت في عمق الفكر والشعور. وهذا ما يتمثّل في اليقين القاطع الذي لا مجال معه لأي احتمال مضادّ، أو في الاطمئنان النفسي أو الفكري للفكرة بحيث لا يمثل الاحتمال المضاد شيئاً مهماً أمام المستوى الكبير من الرجحان في جانب الإيجاب، أو في الوسائل العقلانية أو الشرعية التي اعتمدها العقلاء أو صاحب الشريعة كأساس للمعرفة، بحيث تمثل الحجة المقبولة أمام الله... ولعلّ هذا هو المراد من كلمة «العلم» ـ في ما جاء في القرآن من هذه الكلمة ـ فقد لا يكون المقصود بها القطع الذي لا يحتمل الخلاف، بل الوعي للفكرة بالمستوى الذي لا قيمة فيه لهذا الاحتمال، إمّا لضعفه بحيث لا يعتنى به في حركة الوجدان، وإمّا لقيام الدليل في بناء العقلاء وفي تعليمات الشرع، على عدم الالتفات إليه. ويقابله الشك والظن اللّذان أطلقا على ما لا حجة فيه من ناحيةٍ ذاتيةٍ أو جعليّةٍ. وإذا لم يكن ما قلنا مضموناً وضعياً للكلمة، فلا أقل من أن يكون اللفظ منصرفاً إليه، لكثرة استعماله فيه.

وعلى ضوء ذلك، أنكر القرآن العلم على الملحدين والمشركين والمنكرين للنبوة والرافضين للمعاد، لأنهم لم يرتكزوا في أفكارهم ورفضهم على أساس من الحجة التي تثبت أمام النقد، وتكشف الحقيقة، وتواجه الفكرة المؤمنة بالفكر العلمي المنفتح، بل اعتمدوا في ذلك على بعض الوسائل التي لا تمثل شيئاً في حساب القيمة العلمية، كالاستناد إلى عقائد الآباء الذين لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون، والارتكاز على عنصر الاستبعاد لبعض الأفكار التي لم يألفوها لأنها لا تدخل في نطاق الحس في الوقت الذي تؤكدها المعادلات العقلية، أو الوقوف أمام الأفكار الجديدة التي يثيرها الأنبياء أمامهم، بشأن مسألة النبوة أو الوحي أو المضمون الفكري أو التشريعي للرسالات، من دون أن يدرسوا البراهين التي يقدمها الأنبياء، والحجج التي يدعمون بها رسالاتهم ويدعون الناس إلى الدخول معهم في حوار حولها ليتأملوا فيها، أو يفكروا بها، وليناقشوها من موقع الفكر والوعي، فيرفضون ذلك كله، ويبادرون إلى الرفض والإنكار والمواجهة، ويجمدون عقولهم وأبصارهم وأسماعهم عن الحركة في هذا الاتجاه. ولهذا عبر القرآن عنهم بأنهم لا يعلمون، لأنهم لا يملكون أساس العلم في ما يؤمنون به أو في ما يرفضون، فليست المشكلة لديهم هي الحجة المضادة، بل هي عدم استنادهم في الأمرين معاً إلى الحجة البالغة الواضحة.

* * *

العلم أساس الحياة

ولعل المقصود بالآية، هو توجيه الإنسان إلى الأخذ بأسباب العلم، من خلال النهي عن اتِّباع ما ليس له به علم، فإن نفي الأخذ بالسلب يؤكد ضرورة الأخذ بالإيجاب. وهذا ما نريد أن نثيره في ساحة الصراع الفكري، كمسلمين، في ما نريد أن نلتزمه، أو نناقشه، أو نرفضه، وهو البحث في الوسائل التي تكون أساساً للمعرفة، لتكون هي الأساس للأدوات التي نستخدمها في الحوار، لأن الابتعاد عن تحديد ذلك يجعل الحوار عقيماً، عندما يلتزم كل فريقٍ وسيلةً يرفضها الفريق الآخر، فلا يلتقيان على قاعدة، بينما يعطي التّوافق على الوسيلة الثابتة علمياً قوّةً للحوار، وذلك لما يعطيه من إمكانات الوصول إلى نتيجةٍ إيجابيةٍ محدّدةٍ.

* * *

الحاجة إلى حجة قوية في إثبات شؤون العقيدة والأخلاق

وهذا ما ينبغي أن يلتزمه المسلمون في فكرهم العقيدي والعملي على مستوى المفاهيم العامة والتشريعات العملية والأسس الأخلاقية، بحيث يؤكدون على الأساس العلمي الذي يمثل جانب الحجة المقنعة أو الدامغة، تماماً كما لو كانت المسألة مسألة فتوى شرعية بالوجوب أو بالتحريم، لأننا لا نجد فرقاً بين الحديث عن الحكم الشرعي والحديث عن المفهوم الإسلامي العقيدي والأخلاقي في اعتباره حكماً إسلامياً على مستوى الفتوى، غير أن تلك فتوى في التشريع، وهذه فتوى في العقيدة والأخلاق، فهما سواء في مسؤولية انتساب الرأي إلى الله ورسوله، مما لا يجوز إلا بحجّة قويّة واضحة، وربما كان التسامح في تفاصيل العقيدة أو في مفردات الأخلاق أكثر خطورةً وتأثيراً على الإسلام من التسامح في حكمٍ شرعيٍّ جزئيٍّ على مستوى بعض المجالات العبادية الخاصة.

ولعل المسألة لا تقف عند هذا الحد المتصل بالجانب الفكري في العقيدة والأخلاق والتشريع، بل تتعدّاه إلى تحديد الواقع الموضوعي لدى الأشخاص والأشياء والمواقف السياسية والاجتماعية على مستوى التقييم والانتماء والحركة، فلا يجوز للإنسان المسلم أن يتبع الوسائل غير العلمية في ذلك كله، كما لا يجوز له إصدار الحكم على الأشخاص والمواقف، كنتيجة لبعض الظواهر التي تحمل أكثر من وجه، من دون أن يكون هناك أيُّ سند شرعي يؤكد ذلك من موقع الحجّة، فإن القاعدة الإسلامية تجعل الاحتمال لصالح المتهم، لا لصالح المدّعي، انطلاقاً من عدم جواز الحكم إلا بالبينة الشرعية، ومن لزوم الحمل على الصحة ما دام ذلك محتملاً بطريقةٍ معقولةٍ، وإذا كان لا يجوز الحكم على أحدٍ بدون دليلٍ، في داخل المحكمة أو في ساحة المجتمع، فلا يجوز أيضاً قبول الأخبار التي تتحدّث عن بعض خصوصياته إلا إذا كانت الأخبار مشتملةً على العناصر الشرعية التي يخضع لها الموقف الشرعي في قبول الخبر أو رفضه، أو التحفُّظ عليه، وهذا ما تحدث عنه القرآن الكريم والسنَّة المطهّرة، وفصّله الفقه الإسلامي في مجالاته الاجتهادية.

* * *

الوسائل المشروعة للمعرفة

وخلاصة الفكرة أن الإسلام يريد للحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية أن تتحرك على أساس العلم، الذي يستمد وسائله من حركة الحواس وحركة العقل في مجال المعرفة، في واقع الفرد والمجتمع، وفي واقع الحياة العامة والخاصة.

{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} وذلك باعتبار أن هذه هي وسائل المعرفة الحسية والعقليّة التي تعتبر الحجة على الحقيقة، فيُسأل السمع عما سمع، وكيف سمع، وما النتائج الصحيحة لذلك؟ ويُسأل البصر، عما رأى، وكيف رأى، وما النتائج؟ ويُسأل الفؤاد ـ وهو العقل ـ عما وعاه من حقائق الحياة التي ترصدها الحواس الخمس وتكتشفها الملاحظة، وكيف كانت تفاصيل وعيه، وكيف استطاع أن يحتوي ذلك كله ليحوّله إلى معادلةٍ عقليّة ثابتةٍ كأساسٍ للمعرفة والإيمان؟؟؟

إن الله سيسأل هذه الوسائل الداخلية والخارجية عن طبيعة النتائج التي اختزنها الإنسان في وعيه، مما يتصل بدورها في عالم المعرفة لديه، فهل هو صادقٌ في ما يملكه من مصادر المعرفة، أو غير صادقٍ في ذلك؟ وستجيب بالحقيقة الموضوعية في حياته، وتتحدد ـ من خلال ذلك كله ـ طبيعة التقييم لقناعته، ونوعية المسؤولية التي يواجهها على هذا الأساس، ولن يستطيع أن ينكر شيئاً من ذلك، لأن الشهادة لا تأتيه من الخارج، بل من الداخل الذي يصرخ بالحقيقة من أقرب طريق.