من الآية 40 الى الآية 44
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{أفأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا* وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا* قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً* سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا* تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَـوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (40ـ44).
* * *
معاني المفردات
{أَفَأَصْفَاكُمْ}: أفخصّكم.
{صَرَّفْنَا}: بيّنّا.
{لِيَذَّكَّرُواْ}: ليتفكروا.
{نُفُورًا}: بعداً.
{لاَّبْتَغَوْاْ}: لطلبوا.
{لاَّ تَفْقَهُونَ}: لا تفهمون.
* * *
القول العظيم
في هذه الآيات حديثٌ عن مسألة الشرك والتوحيد، في التصورات الخرافية لدى المشركين المعاصرين للنبي (ص)، وفي أجواء اللامبالاة التي يعيشها هؤلاء إزاء التعاليم التي يثيرها القرآن في عقولهم، فيرفضونها من دون وعيٍ أو مناقشةٍ أو التفاتٍ إلى الأدلة التي تقود إلى التوحيد كحقيقةٍ ثابتةٍ، لا مجال لإنكارها لأيّ شخصٍ يواجه الكون كله بنظرةٍ منفتحةٍ تطوف في رحابه، فيجد كل مظاهره في حركة وعيٍ تكوينيٍّ توحي بحمد الله وتسبيحه والخضوع له في كل شيء.
{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا} في ما تحملونه في مفاهيمكم من احترام الذكر واحتقار الأنثى، فتقولون إن الملائكة بنات الله، بينما تؤثرون أنفسكم بالبنين، فكيف تبررون هذا الكلام؟ فإذا كان الله خالق كل شيء، فكيف يكرمكم بما لا يكرم به نفسه، إذا كان ذلك في تصوركم أساساً للتكريم؟ ثم لماذا يتخذ الله لنفسه إناثاً أو ذكوراً بعنوان الولد، وهو رب كل شيء، والغني عن كل أحد، فما حاجته إلى الولد؟ إن هذا القول لا يملك أيّ معنى في مضمونه، ولا يرتكز على أي دليل في إثباته. هذا بالإضافة إلى ما يشتمل عليه من الخطورة في الجرأة على الله، والإساءة إلى مقامه العظيم. {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} في نتائجه الخطرة على مستوى الانحراف في التصور، والهلاك في المصير.
* * *
تنوع الأسلوب القرآني
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ} وذلك بما أثرناه فيه من تنوُّع الأساليب، من أجل أن يلائم كل الأفكار، ويلتقي بالحقيقة من أكثر من طريق، فإذا لم يقتنع البعض بالفكرة من خلال أسلوبٍ، اقتنع بأسلوبٍ آخر، وإذا لم ينسجم مع بعض المفاهيم أو الأمثلة، أمكنه أن يجد الانسجام في مفهومٍ آخر أو مثل آخر، ليعيش الناس الوعي القرآني في كل آية من آياته، وفي كل فكرة من أفكاره، فيكون ذكرى لهم من خلال ما تطرحه الآيات أمامهم من علامات الاستفهام، أو تواجههم به من مشاكل المعرفة أو أخطار النتائج السيّئة في مسألة المصير. ولكن مشكلة هؤلاء أنهم يرفضون التفكير، لأنهم لا يريدون أن يغيّروا ما اعتادوه وألفوه في معتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ما يجعل من أيّة دعوةٍ تغييريةٍ سبباً في تعقيد مواقفهم، وإثارة مشاعرهم، ونفورهم من الداعي ودعوته، لأن ذلك يؤدي إلى إحراجهم وتعرية أوضاعهم عندما ينكشف الزيف الذي يختبئون خلفه، فيبدو أمرهم للناس في صورة الذي ينكر الحقيقة في مواقع الوضوح، لا في مواقع الغموض، وهكذا يواجهون ما يتلو عليهم الدعاة من القرآن.
{وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} فكل آية يسمعونها تثير الحقد في نفوسهم بدلاً من المحبة، والجهل بدلاً من المعرفة، لأنهم يتحركون في مواجهتهم له من موقع عقدة، لا من موقع تفكير ووعي وإخلاص، ولكن القرآن يبقى في آياته عنصر توعية وتذكير، في مجالات الدعوة والتحدّي، ليكون حجّةً عليهم أمام الله، وشاهداً على جهلهم وعنادهم، وقد كان الشعار النبويّ في حركة الرسالات في الدعوة {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42].
* * *
فكرة الشرك ليست واقعية
{قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} وهذه حجةٌ وجدانية على نفي الشريك، فإن الشركة في الألوهية تعني قدرة الشريك على مواجهة شريكه، وذلك لما يملكه من أسباب القدرة التي تفرضها طبيعة الصفة الإلهية في ذاته، وذلك من خلال حب السلطة والتوسع والعلو الذي يدفعه إلى تأكيد عظمته واندفاعه للوصول إلى مقام ذي العرش والدخول معه في صراعٍ عنيف، ولكن ذلك غير ثابتٍ، ولو حدث مثل ذلك، لظهر في الكون من خلال ما ينتجه من مظاهر الصراع أو الغلبة وتغيّر الحياة في نظامها إلى نظامٍ آخر، ولكن الحياة لا تزال في طبيعتها لم يتغير شيء في قوانينها، ولم تحدث لها أيّة مشكلة، ما يعني أن فكرة الشرك ليست واقعية، ولا تخضع لأي أساس ثابت. ولعل مساق هذه الآية هو مساق قوله تعالى: {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] ولا يبعد أن يكون فيها بعض التلميح إلى الآية الكريمة {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] وذلك من خلال ما توحي به من الفكرة في ما تدل عليه من بطلان وصولهم إلى ذي العرش، الذي لا يمكن لنا أن نكتشفه إلاّ من خلال استتباعه للنتائج السيئة التي يفرضها واقع الصراع على السلطة، وهذا ما لا نجد له أثراً على صعيد الكون كله.
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} فهذه الكلمات التي يطلقها هؤلاء في نسبة الشريك إليه لا تنسجم مع عظمته التي لا يقترب منها شيء، وقدرته التي لا يحدّها شيء، وربوبيته المهيمنة على كل شيء، لأنه خالق كل شيءٍ ورازقه، ما يجعل من أي كلام من هذا النوع إساءةً لمقام جلاله وقدسه، وهو المنزّه المتعالي عن كل ما يقولونه، لأنه في المقام الأسمى الذي لا يعلو عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يدانيه شيء مهما كان عظيماً، لأن عظمته في ذاته، بينما تنطلق عظمة كل شيءٍ من فيوضات عظمته ورحمته، بل هي مظهر عظمته في إعطاء كل شيء خلقه وقوّته وحركته في الحياة.
* * *
الكون يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحه
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَـوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} «سبحانه» كلمةٌ ومضمونٌ تنطق بها الموجودات كلها، ممن تملك الوعي والإدراك والنطق، وممن لا تملكه، فكل موجود يفصح عن ذلك بمظاهر وجوده وخصائصه الدالة على عظمته وتنزيهه عن كل شريك، ما يوحي بانفراده بكل عناصر العظمة في ذاته. وهذا ما يستوحيه الإنسان عندما يتطلّع إلى السماوات، فيجد فيها تلك العوالم الشاسعة الكبيرة المشتملة على أسرار الإبداع، أو يتطلع إلى الأرض، فيجد فيها الجبال والصحارى والبحار والأنهار، والموجودات الكامنة فيها، والمتحركة على صعيدها أو في أجوائها في ما لا يعرفه الإنسان من الموجودات الخفية... إنه يحس بوجدانه وبفكره كيف تنطق هذه الأكوان والموجودات بعظمة الله، فلا يملك إلا أن يخشع أمام العظمة المطلقة اللامتناهية، ويعترف بأن الله ـ هو وحده ـ خالق ذلك كله، ولكنه لا يستطيع أن يدرك عمق هذه التسبيحات الكونية بما تختزنه من أسرار وما تثيره من أفكار، لأننا لم ندرك من ذلك إلا القليل القليل.
وقد أثار صاحب تفسير الميزان بعض الحديث حول ما إذا كان التسبيح هنا، في الموجودات الجامدة أو غير الناطقة، تسبيحاً حالياً، يتمثّل الإنسان فيه مظاهر العظمة الناطقة بوجودها بتنزيه الله وتعظيمه، أو تسبيحاً قولياً، باعتبار أن القول أو الكلام في حقيقته هو «الكشف عما في الضمير بنوعٍ من الإشارة إليه والدلالة عليه، غير أن الإنسان لما لم يجد إلى إرادة كل ما يريد الإشارة إليه من طريق التكوين طريقاً، التجأ إلى استعمال الألفاظ، وهي الأصوات الموضوعة للمعاني، ودل بها على ما في ضميره، وجرت على ذلك سنة التفهيم والتفهّم. وربما استعان على بعض مقاصده بالإشارة بيده أو رأسه أو غيرهما، وربما استعان على ذلك بكتابة أو نصب علامةٍ. وبالجملة، فالذي يكشف به عن معنى مقصودٍ، قولٌ وكلامٌ وقيام الشيء بهذا الكشف قولٌ منه وتكليم، وإن لم يكن بصوتٍ مقروعٍ ولفظٍ موضوعٍ، ومن الدليل عليه ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الكلام والقول والأمر والوحي، ونحو ذلك مما فيه معنى الكشف عن المقاصد، وليس من قبيل القول والكلام المعهود عندنا معشر المتلسنين باللغات، وقد سمّاه الله سبحانه قولاً وكلاماً.
وعند هذه الموجودات المشهودة من السماء والأرض ومن فيهما ما يكشف كشفاً صريحاً عن وحدانية ربها في ربوبيته، وينزهه تعالى عن كل نقص وشين، فهي تسبح الله سبحانه»[1].
ثم يفيض في الحديث عن المسألة، وينتهي إلى القول في معرض توضيح الفكرة فيقول: «وبلفظ آخر، إذا لوحظت الأشياء من جهة كشفها عما عند ربها، بإبرازها ما عندها من الحاجة والنقص مع ما لها من الشعور بذلك، كان ذلك تسبيحاً منها، وإذا لوحظت من جهة كشفها ما لربها، بإظهارها ما عندها من نعمة الوجود وسائر جهات الكمال، فهو حمدٌ منها لربها، وإذا لوحظ كشفها ما عند الله سبحانه من صفة جمال أو جلال، مع قطع النظر عن علمها وشعورها بما تكشف عنه، كان ذلك دلالةً منها عليه تعالى وهي آياته.
وهذا نعم الشاهد على أن المراد بالتسبيح في الآية ليس مجرد دلالتها عليه تعالى، بنفي الشريك، وجهات النقص، فإن الخطاب في قوله: {وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} إمّا للمشركين، وإما للناس، أعم من المؤمن والمشرك، وهم على أيّ حالٍ يفقهون دلالة الأشياء على صانعها، مع أن الآية تنفي عنهم الفقه»[2].
وإننا نتحفظ في ما ذكره من شمول الكلام، للدلالة على كل ما يكشف عن المقصود حتى لو لم يكن باللفظ، وذلك لصحة السلب عن غير موارد الدلالة باللفظ، ولذا يقال للأخرس أنه لا يتكلم، كما يقال للحيوانات ذلك. وأمّا ما نجده في بعض الإطلاقات، فإنه واردٌ على سبيل الاستعارة المجازية.
وقد لا نستطيع اعتبار هذا البحث ذا ثمرة عملية، لأن الجميع ممن يعتبر التسبيح للموجودات وارداً على نحو الحقيقة أو المجاز، متفقون على طبيعة المضمون التسبيحي الدّالّة على عظمة الله وتنزيهه، ولكننا أشرنا إليه لما فيه من الطرافة.
وقد ختم القرآن الآية بقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} للتدليل على أن الله لا يواجه هؤلاء الذين يشركون به، أو ينفرون من الاستماع إلى آياته، بالعقاب العاجل، بل يمهلهم ليراجعوا أفكارهم، وليتعرّفوا على مواقع الخطأ في مواقفهم، ليتوبوا ويرجعوا إليه، فيغفر لهم ذنوبهم، ويشملهم بعنايته ورحمته، لأنه الحليم الغفور.
ـــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:13، ص:106.
(2) (م.س)، ج:13، ص:109.
تفسير القرآن