تفسير القرآن
الإسراء / من الآية 50 إلى الآية 48

 من الآية 50 الى الآية 48

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا* وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً* نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا* انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} (45ـ48).

* * *

معاني المفردات

{حِجَابًا}: ستاراً.

{أَكِنَّةً}: أغطية.

{وَقْرًا}: ثقلاً في الأذن.

{نُفُوراً}: بعداً.

{نَجْوَى }: مسارّون: يتناجون فيما بينهم.

{مَّسْحُورًا}: مخبول العقل.

* * *

مناسبة النزول

قيل نزل قوله {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءَانَ...} الآية في قوم كانوا يؤذون النبي (ص) باللّيل إذا تلا القرآن وصلّى عند الكعبة، وكانوا يرمونه بالحجارة ويمنعونه عن دعاء الناس إلى الدّين، فحال الله بينه وبينهم حتى لا يؤذوه. عن الزجّاج والجبائي[1].

* * *

الحجاب المستور

إنها الصورة الحية للجماعات التي كانت تواجه الدعوة الإسلامية الجديدة بالجمود والتمرُّد، من خلال الوجه الداخلي الذي يختفي وراء غشاءٍ كثيفٍ من المظاهر الخادعة التي يستقرون وراءها من أوضاع ومواقع اجتماعية ومبرراتٍ سطحيةٍ.

ومن خلال هذه الصورة، نستطيع التعرّف إلى المشاكل المعقّدة التي كانت تحيط بالرسول الداعية في دعوته، وتحاول أن تهزمه نفسياً بالأساليب النفسية المثيرة.

{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا}. ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية وجهين، أحدهما: غيبيّ، فقد قال الكلبي: ـ في ما نقله عنه صاحب مجمع البيان ـ وهم أبو سفيان والنضر بن الحرث وأبو جهل وأم جميل امرأة أبي لهب، حجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن، وكانوا يأتونه ويمرون به ولا يرونه[2]، وثانيهما: أن فقرة { جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا} بمعنى باعدنا بينك وبينهم في القرآن، فهو لك وللمؤمنين معك شفاء وهدى، وهو للمشركين في آذانهم وقر وعليهم عمىً، فهذا هو الحجاب، وهذا التفسير عن أبي مسلم[3].

ولكن هذين الوجهين لا ينسجمان مع جو الآية الذي يؤكد على العنصر الذاتي في رفض الإيمان، هذا مع ملاحظة أن مثل هذه التفسيرات لا ترتكز على قاعدة، بل تنطلق ـ غالباً ـ من اجتهاداتٍ ذاتيةٍ؛ فقد يتساءل المتأمّل عن معنى هذا الحجاب بين هؤلاء وبين النبي عند قراءته للقرآن بحيث لا يرونه، فهل المسألة هي حمايته من أنظارهم أو من الاعتداء عليه، وهل القضية ذاتية بالنسبة إليه في تلاوته للقرآن، أم أنها للدعوة وللحوار وللتواصل معهم من أجل أن يهتدوا به؟! ثم ما الوجه في اختصاص هؤلاء بذلك، في الوقت الذي كان الكثيرون من قريش ممن يرون رأي هؤلاء ويتصرفون على طريقتهم؟!

وما الفائدة ـ في أجواء التفسير الثاني ـ بالتأكيد على المباعدة الإلهية بين القرآن وبين المشركين ليكون عمىً لهم، بينما هو شفاء للمؤمنين، وذلك بالتعبير عن المسألة بأنه حجابٌ مستورٌ؟!

ولعل الأظهر ـ في معناه ـ هو الحجاب النفسي الذي جعله الله من خلال حالتهم الداخلية في رفض الإيمان ومواجهة القرآن بطريقة اللاّمبالاة، ما يجعلهم لا يدركون مضامينه في العقيدة والشريعة، ولا يلتزمون مفاهيمه في الكون والحياة، كأيّة حالةٍ داخليةٍ رافضةٍ في تأثيرها السلبي على وعي الإنسان للمسألة المرفوضة.

أمّا خصوصية عدم إيمانهم بالآخرة، فقد تكون ناشئةً من كون هذا البعد عن خط الإيمان بالآخرة يمنع الإنسان من مواجهة الأمور مواجهةً فكريةً وعمليّةً مسؤولةً في ما ينبغي أن يؤمن به أو يعمل به، لأنه لا يجد أية ضرورة ضاغطة في هذا الاتجاه، فتبقى المسألة خاضعةً للمزاج الذاتي الذي يلتقي بالعوامل الطارئة البعيدة عن عمق الأشياء في نطاق المصلحة المنفتحة على حياة الإنسان.

أمّا توصيف الحجاب بأنه مستورٌ، مع أن المعنى يلائم التعبير بأنه ساترٌ، فقد ذكر البعض «أن «مفعول» فيه للنّسب أي حجاباً ذا ستر، نظير قولهم: رجل مرطوب، ومكان مهول، وجارية مغنوجة، أي ذو رطوبة، وذو هول، وذات غنج، ومنه قوله تعالى: {كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} [مريم:61] أي ذا إتيان»[4].

«وعن الأخفش أن «مفعول» ربما ورد بمعنى فاعل، كميمون ومشؤوم بمعنى يامن وشائم، كما أن «فاعل» ربما ورد بمعنى مفعول، كماء دافقٍ أي مدفوق. فمستور بمعنى ساتر»[5].

ويذكر صاحب الميزان وجهاً آخر، وهو «أنه حجاب مستور عن الحواس، على خلاف الحجابات المتداولة بين الناس، المعمولة لستر شيء عن شيء، فهو حجابٌ معنويٌّ مضروبٌ بين النبي (ص) بما أنه قارىء للقرآن حاملٌ له، وبين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة، يحجبه عنهم فلا يستطيعون أن يفقهوا حقيقة ما عنده من معارف القرآن ويؤمنوا به»[6].

ولكن قد يرد عليه أن جوّ الآية يوحي بأن الوصف لتأكيد دور الحجاب في المنع عن الإيمان، من خلال كونه حائلاً بين الناس وبين النبي (ص) في الإيمان بالقرآن، ما يقرِّب معنى الساتر لا المستور، ويرجّح أنه وارد على نحو النسبة أو الفاعل، فقد لا يكون هناك فائدة كبيرة في بيان خفاء الحجاب عن الأعين، اللهم إلا أن يكون ذلك للإيحاء بالعنصر الداخلي المعنوي للحجاب في مقابل الحجاب الخارجي المادي.

{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} وهذا تأكيدٌ للحجاب، فإن الأكنّة جمع كنٍّ ـ بالكسر ـ وهو ما يحفظ فيه الشيء ويستر به عن غيره، فكأن هناك غشاءً يغطي القلب ويمنعه من الانفتاح على حقائق القرآن ومفاهيمه، { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} أي ثقلاً في السمع، فيتلقونه كما يتلقى الشخص الثقيل السمع الكلمة التي تلقى إليه، فلا يسمعها إلا كما يسمع الصدى الذي لا يُفهم منه شيء لعدم تميز الملامح التفصيلية للكلمة فيه. وهكذا نجد القرآن ثقيلاً على أسماعهم، فلا ينفتحون عليه انفتاح وعي لمفاهيمه، لأن السمع لا يحقّق أية نتيجة للمعرفة إلا إذا انفتح العقل عليه، وهذا ما نراه في الكثيرين الذين يسمعون الحديث، ولكن قلوبهم مشغولة بشيءٍ آخر، فلا يلتفتون إلى معانيه، تماماً كمن لم يسمع الحديث أصلاً.

* * *

الهروب من الحقيقة

{وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} لأنهم لا يطيقون كلمة التوحيد التي تلاحق أفكارهم بالحقيقة الواضحة التي تفرض نفسها على الفكر والشعور، فتكشف لهم زيف الواقع العقيدي والعبادي الذي يتحركون فيه، فينفرون منها كما ينفر الإنسان من الأشياء التي تضغط على مزاجه، أو تطارد أفكاره. وهذا هو حال كل شخص يخاف من الحقيقة التي لا يريد الاعتراف بها، فيعمل على الهروب منها، ليوحي لنفسه أو للآخرين بأنه لم يواجهها، ليكون ذلك عذراً له في الإنكار والرفض.

{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} وهذا إيحاءٌ من الله للنبي (ص) ولكل داعيةٍ للحق، في مثل ظروفه، بأنه يعلم كل الخلفيات التي يختفي خلفها أعداؤه في ما يضمرونه في أنفسهم، وما يهمسون به في نجواهم، وأنه يعرّفه من ذلك ما يجهله، بالوحي تارةً، وبالإيحاء الداخلي أخرى، ليواجه ذلك كله بالتحفظ والاستعداد للتخطيط المضادّ. وهكذا أراد الله أن يعمِّق الثقة، في وعي النبي لدوره، برعاية الله، فهو أعلم بما يستمعون به من آذانهم التي ترنّ فيها الكلمة عندما تدخلها، وكيف تدخل وتستقر، وما الروحية التي تكمن خلف ذلك؛ هل هي روحية الذي يستمع ليؤمن، أو الذي يستمع ليشاغب وليحرّف الكلم عن مواضعه، وليكتشف الأفق المظلم الذي يحرّك أشباح الحقد والسوء أمام الرسول أو الداعية؟؟

وهو أعلم بما في قلوبهم التي يستمع بها الإنسان، بالاستماع الداخلي الذي تتحرك فيه الكلمة لتعمق فكرةً، أو لتثير شعوراً، أو لتحرك خطوةً، أو لتفكِّر في خطَّةٍ مضادّة... ليدبِّر المكائد وليزرع الأرض بالأشواك. وهكذا يستمع الإنسان بقلبه، كما يستمع بأذنيه، والله هو المطلع عليها جميعاً، يعرف كيف يستمعون إليه بروحية الناس الذين ينظرون إليه بحقدٍ واستهزاء، ويواجهون كلماته بإهمال وكيد.

* * *

دأب الخصوم على تشويه صورة الدعاة

{وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} يتناجون في ما بينهم، كيف يمنعونه من إبلاغ رسالته، وكيف يحولون بين الناس وبينه؟ وما الكلمة التي يقولونها للناس كعنوان لشخصيته التي لا يريدون لها أن تظهر في موقع الرسالة، بل في موقع آخر يحتقره الناس ولا يحترمونه؟

{إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ} من هؤلاء المشركين، الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك، وظلموا الرسول وصحبه بالتعسُّف والإيذاء والتآمر عليهم وعلى الرسالة، عندما يحدِّثون الناس الذين اتّبعوا الرسالة وآمنوا بالرسول، ليخذلوهم عنه.

{إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} خاضعاً لأساليب السحر التي أثّرت على عقله وسلوكه وطريقته في الحديث مع الناس. وهذا هو دأب كل خصوم الرسالات الحقّة الّذين يثيرون أمامها الكلمات التي تشوّه صورة الدعاة والرسل، بما يحول بينهم وبين الناس نفسيّاً أو عقلياً، في عمليةٍ إيحائيّةٍ بأنهم ليسوا في مستوى القيادة الفكرية أو العملية، وذلك لما يكمن في شخصياتهم من خصائص سلبيّة، انطلاقاً من حالةٍ مرضيَّةٍ أو عقليّةٍ. وهكذا كانت تهمة السحر من التهم الكثيرة التي وجّهت للأنبياء، بين كلمةٍ تصفه بالساحر، لتجعل تأثيره في الناس منطلقاً من السّحر لا من الفكر المقنع، وبين كلمة تصفه بالمسحور، لتوحي بأنه لا يتحدث من موقعٍ عقليٍّ هادىٍء، بل من موقعِ المجنون الذي لا يصدر عنه إلا التصرّفات البعيدة عن الحكمة والاتزان. وما تزال الكلمات تتنوع تبعاً للأجواء النفسية التي يتأثّر بها الناس سلبياً، في مواجهة الرسالات في كل زمان ومكان.

{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ} في أساليبهم المعقّدة المتنوّعة، التي يهربون بها من أنفسهم ومن الحقيقة التي تفرض نفسها عليهم، أو من نظرة الناس إليهم، ليبرّروا بذلك مواقفهم الّلامسؤولة من الرسالة. {فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} لأنهم لا يملكون طريقاً واضحاً يتحركون فيه، ليحصلوا على حرية الحركة واستقامتها في خط الهدف الواضح، فإن الضال لا يستطيع أن يمنح غيره الهدى، أو يحدد لنفسه ولغيره الطريق المستقيم. فليضربوا ما شاؤوا من الأمثال، وليطلقوا الكلمات الّلامسؤولة بكل الحقد الكامن في أنفسهم، فلا يشكّل ذلك مشكلةً بالنسبة للعاملين في الدعوة إلى الله والعمل في سبيله، بل كل مشكلتهم أن يحددوا لأنفسهم الخط الواضح والهدف الكبير، ويؤكدوا لها القناعات العميقة المستقرة، ليثبّتوا مواقعهم عن طريق القوّة الفكرية والإيمانية ووضوح الرؤية للأشياء.

ــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:6، ص:540.

(2) (م.س)، ج:6، ص:541.

(3) (م.ن)، ج:6، ص:541.

(4) تفسير الميزان، ج:13، ص:111.

(5) (م.ن)، ج:13، ص:111.

(6) (م.س)، ج:13، ص:110.