تفسير القرآن
الإسراء / من الآية 53 إلى الآية 55

 من الآية 53 الى الآية 55

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا* ربُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً* وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَـوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} (53-55).

* * *

معاني المفردات

{يَنزَغُ}: يفسد.

{زَبُورًا}: كتاباً اَنزل على داود(ع).

* * *

مناسبة النزول

كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله (ص) بمكة، فيقولون: يا رسول الله، ائذن لنا في قتالهم، فيقول لهم: إنّي لم أؤمر فيهم بشيء، فأنزل الله ـ سبحانه ـ {وَقُل لِّعِبَادِى} الآية ـ عن الكلبي[1].

* * *

الكلمة المناسبة في الحوار

كيف تكون الكلمة التي يطلقها الإنسان في الحوار أو التخاطب الاجتماعي؟ هل هي الكلمة التي يوحي بها المزاج، في لحظة انفعالٍ، أو نزوةٍ هوى، أو هي الكلمة التي يخطط لها العقل، ويحرّكها الإيمان؟؟

إن للكلمة مدلولها في حسابات الفعل وردّ الفعل، وأثرها السلبي أو الإيجابي في حركة العلاقات الخاصة والعامة، وفي إثارة المشاكل أو في حلّها... وهذا ما يريد القرآن توجيه الإنسان إليه في دراسة الفكرة التي يريد أن يحركها في المجتمع، ليختار الفكرة الأفضل التي تفتح القلوب على المحبة، والمشاعر على الرحمة، والعقول على الخير والحقيقة. ثم يدرس الكلمة الأحسن التي لا تختزن الحساسيات المعقَّدة، ليقول الكلمة الأحسن في اللفظ والمدلول. ولا بد له ـ في ذلك ـ من دراسة المسألة من جميع جوانبها بطريقةٍ مقارنةٍ، ليرفض السيِّىء والأسوأ، ويختار الحسن والأحسن.

* * *

اختيار الأحسن تجنباً للتباغض

{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قل لهم ـ يا محمد ـ من موقع الإلزام في مواضعه، على أساس المصلحة التي تحمل في داخلها الخير الضروري للناس، ومن موقع النصيحة والاستحباب، في مواضع الرخصة، على أساس المصلحة الراجحة التي لا تلزم، فهذا هو السبيل لتركيز المجتمع في علاقاته العملية، على أساس الألفة والمحبة والخير والرحمة، ولإبعاده عن التناحر والاختلاف والتباغض والتحاقد، لأن الشيطان قد يدخل في خلفيات الكلمة وفي مداليلها، وفي إيحاءاتها وحساسياتها، ليثير العداوة والبغضاء بين الناس. {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} ويفسد علاقاتهم، ويغري بعضهم ببعض... فينبغي الحذر منه، وذلك بالابتعاد عن مداخله وحبائله ووسائله الشيطانية {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} فهو يحاول الإيحاء له بالكفر والشرك والضلال، الذي يؤدي به إلى عذاب السعير.

* * *

الآية موجهة للناس كافة

وقد ذكر صاحب الميزان: «أن المؤمنين قبل الهجرة ربما كانوا يحاورون المشركين فيغلظون لهم في القول، ويخاشنونهم بالكلام، وربما جبهوهم بأنهم أهل النار، وأنهم ـ معشر المؤمنين ـ أهل الجنة، ببركةٍ من النبي (ص)، فكان ذلك يهيّج المشركين عليهم، ويزيد في عداوتهم، ويبعثهم إلى المبالغة في فتنتهم وتعذيبهم وإيذاء النبي (ص) والعناد مع الحق. فأمر الله ـ سبحانه ـ نبيه (ص)أن يأمرهم بقول التي هي أحسن»[2].

ولكن من الملاحظ أن مثل هذا الاستيحاء أو الاستظهار، لا قرينة عليه من ناحية الآية في مدلولها، ولا من ناحيةٍ تاريخيةٍ في سلوك المؤمنين مع المشركين. وربما كان استظهاره إرادة المؤمنين من قوله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} ما ينافي ذلك، لأن السياق يوحي بأن المسألة هي من أجل تنظيم حركة العلاقات بين المؤمنين في طريقة التخاطب والحوار، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} فإن الضمير راجع لعباده.

وإننا نرى في هذه الآية توجيهاً للناس كافةً باتباع الكلمة التي هي أحسن في الحوار من دون اختصاصٍ بالمؤمنين، لعدم ظهور كلمة (عبادي) في هذا الاختصاص، بل إن حال الكلمة هي حال «يا أيها الناس» التي يراد من خلالها توجيه الناس جميعاً إلى القواعد العامة التي تنظِّم سلوكهم وحياتهم بشكلٍ عام، ما يجعل المؤمنين يتحركون من خلال التزامهم بالشريعة، إلى الالتزام بهذه المبادىء الإلهية الإنسانية في بعدها الإنساني، الذي يوحي إليهم بالانسجام معها من خلال المسلمين وغيرهم، ليخاطب المؤمنون بعضهم البعض بالتي هي أحسن، فيعمّقوا الصلة الروحية الإيمانية بينهم، وليخاطبوا غيرهم من المشركين والكافرين بهذا الأسلوب، ليحطموا حواجز العناد والتمرُّد في داخلهم، ويقودهم إلى أجواء الإيمان من أقرب طريق.

* * *

استحضار علم الله أمام الإنسان

{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} وبما يصلحكم أو يفسدكم، ولذلك أمركم بما أمركم به ليصلح أمركم في الدنيا والآخرة من خلال التزامكم به وطاعتكم له، ونهاكم عما نهاكم عنه ليبعدكم عن إفساد أمركم ومصيركم في الدنيا والآخرة، من خلال انسجامكم معه وعدم عصيانكم له، وبذلك فإن عليكم مواجهة المسألة من هذا الخط، والحذر من الانحراف عنه، لأن الأمر في كل نتائجه السلبية والإيجابية لله الذي يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه شيء من ذلك كله، وليس للنبي(ص) ولا لغيره شيءٌ من أمركم، في ما يمكن أن يحدث لكم على مستوى المصير، بل الأمر إليه ـ وحده ـ {إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} فيغفر ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} بما تستحقونه على مخالفة أمره ونهيه. ثم يلتفت بالخطاب إلى النبي (ص) ليقول له: إن مهمته الإبلاغ، وهي تنتهي عند حصوله منه.

{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} حافظاً لأعمالهم، تتحمل مسؤوليتها وتؤاخذ بانحرافهم. وهذا المعنى الظاهر من الآية يتصل بالآية السابقة، من خلال ما يستفاد من الإيحاء بذكر الشيطان، بالانحراف الذي يقود العباد إليه ويجعلهم يقعون في معصية الله، فيستحقون عذابه، فكان من المناسب الإيحاء بأن الله مطّلعٌ عليهم، فيجب أن لا يغفلوا عنه، ولا يستجيبوا للشيطان، وليعلموا أن أمرهم بيد الله، فهو الذي يرحمهم في مواضع الرحمة، ويعذبهم في مواضع العذاب، تبعاً لاختلاف مشيئته في ذلك.

وقد استظهر صاحب تفسير الميزان أن قوله: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} في مقام تعليل الأمر السابق ثانياً، ويفيد أنه يجب على المؤمنين أن يتحرزوا من إغلاظ القول على غيرهم، والقضاء بما الله أعلم به من سعادةٍ أو شقاءٍ، كأن يقولوا: فلان سعيدٌ بمتابعة النبي، وفلان شقيٌّ، وفلان من أهل الجنة، وفلان من أهل النار... وعليهم أن يرجعوا الأمر ويفوضوه إلى ربهم، فربكم ـ والخطاب للنبي وغيره ـ أعلم بكم، وهو يقضي الأمر فيكم على ما علم من استحقاق الرحمة أو العذاب {إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} لا يشاء ذلك إلاّ مع الإيمان والعمل الصالح على ما بيّنه في كلامه {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} ولا يشاء ذلك إلا مع الكفر والفسوق، وما جعلناك أيها النبي عليهم وكيلاً مفوضاً إليه أمرهم، حتى تختار لمن تشاء ما تشاء، فتعطي هذا وتحرم ذاك.

ومن ذلك يظهر أن الترديد في قوله: {إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} باعتبار المشيئة المختلفة باختلاف الموارد بالإيمان والكفر والعمل الصالح والطالح، وأن قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} لردع المؤمنين عن أن يعتمدوا في نجاتهم على النبي (ص) والانتساب إلى قبول دينه نظير قوله: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به}[3].

إننا نلاحظ أن هذا الاستظهار مبنيٌ على ما استظهره في الآية السابقة، من توجيه النداء إلى المسلمين في طريقة مخاطبتهم للمشركين. وقد ناقشنا ذلك، لأنه لا يرتكز على أساس لفظي أو تاريخي، بل هو مجرد استنتاج ذاتي لا ينسجم مع السياق ـ كما قدمنا ـ ونلاحظ ـ أيضاً ـ أن الأسلوب القرآني قد دأب على إثارة علم الله أمام الإنسان، وذلك كي يدفعه إلى مراقبته في داخل نفسه، ليكون ذلك سبيلاً إلى الامتناع عن معصيته، كما أن الحديث عن الترديد بين الرحمة والعذاب ينطلق في سياق استحقاق العذاب، الذي قد يكون موضعاً للعفو أو للعقاب، من خلال مشيئته، لا في اختلاف الموارد بين الإطاعة والمعصية. وبهذا فإن ما ذكره لا يتناسب مع ذلك.

{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ} لأنه هو الذي خلقهم، ويعلم سرّهم وعلانيتهم، ولا يخفى عليه شيء في الأرض والسماء. وهذا ما يريد الله من الإنسان أن يختزنه داخل ضميره، ليشعر بالإحاطة الشاملة الممتدة لكل الآفاق من حوله، حتى يكون ذلك سبيلاً لتعميق الرقابة الداخلية في نفسه، فيمتنع عن التمرُّد على الله ومعصيته، ويكون انطلاقة للوعي الفكري الذي يوحي بالثقة بتنظيم الله للكون على مستوى التكوين والتشريع، وإرسال الرسل الذين يقودون الناس إلى الخير، وإنزال الكتب التي توجه الحياة إلى التخطيط الدقيق الذي يعطيها هداها.

* * *

اهتزاز الكون بالتسبيح

{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} بما ميزناهم من مواقع العمل، وطبيعة المعجزة، ونوعية الكتب، وذلك بمقتضى الحكمة التي أقام الله الحياة عليها. {وآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} هذا الكتاب الذي يتميز بالكلمة الأحسن المشتملة على حمد الله وتسبيحه، وبالأسلوب الأحسن الذي يثير أعمق مشاعر الإيمان، في الانفتاح على الله سبحانه، والخضوع له، والخشوع أمام جلاله... وهكذا كان هذا السحر اللفظي والمضموني والروحي الممتزج بالسحر الصوتي الذي يتميز به نبي الله داود عندما يقرأ الزبور، يوجب الاهتزاز الكوني بالتسبيح لله، حتى لتحس بأن الكون يسبِّح من حوله، والطيور تسبِّح من فوقه.

ولعل في هذا بعض الإيحاء بأن الله قد يجعل الفضل بالكلمة الأحسن، والأسلوب الأحسن، لأن الحياة قد تفتح قلبها للحقيقة من خلالهما، وقد تهتز لمشاعر الإيمان أمامهما، ولأن ذلك يحقق إنسانية الإنسان في احترامه للآخرين، الذي يؤدي إلى احترام الآخرين له ولفكره من موقع المحبة والانفتاح.

ـــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:6، ص:544.

(2) تفسير الميزان، ج:13، ص:115.

(3) تفسير الميزان، ج:13، ص:116 ـ 117.